شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أعبدكِ منذ الآن… عندما تغيّر الكوارثُ الطبيعية عقائدَ الشعوب

أعبدكِ منذ الآن… عندما تغيّر الكوارثُ الطبيعية عقائدَ الشعوب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 7 سبتمبر 202302:24 م

لعبت الكوارث الطبيعية، خاصة الأوبئة، دوراً كبيراً في حركة التاريخ، وتوازنات القوى، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، ليس هذا فحسب وإنما كان لها دور كبير في معتقدات الشعوب وعباداتها، وهذا ما حدث تماماً سنة 397 قبل الميلاد، في أثناء الصراع المحتدم بين إمبراطورية قرطاجة والإمبراطورية الإغريقية.

التأثير الفينيقي على حضارات المتوسط والتأثر بها

لا شك تأثّر الفينيقيون، مؤسسو قرطاجة، بشكل كبير بالحضارات المختلفة التي كانت حولهم، خاصةً أنهم خالطوا كل شعوب البحر الأبيض المتوسط من إغريق ورومان ومصريين وأفارقة، كما ذكر المؤرخ ألفريد ج. تشيرش، في كتابه "قرطاج أو إمبراطورية إفريقيا"، وهذا ما ينعكس على أسماء المعبودات التي كان القرطاجيون يؤمنون بها، والتي تتطابق مع كثير من أسماء معبودات الأولمب الإغريقية أو المعبودات التي آمن بها الرومان.

لعبت الكوارث الطبيعية، خاصة الأوبئة، دوراً كبيراً في حركة التاريخ وفي معتقدات الشعوب وعباداتها، وهذا ما حدث تماماً سنة 397 قبل الميلاد، في أثناء الصراع المحتدم بين إمبراطورية قرطاجة والإمبراطورية الإغريقية

كان الفينيقيون يُترجمون أحياناً من الإغريقية أو الرومانية إلى الفينيقية، وهذا ما نراه جيداً في نص معاهدة هنيبعل أو حنا بعل، القائد القرطاجي، مع أكزينفانس، سفير فيليب الخامس المقدوني سنة 215 قبل الميلاد.

المعبودات التي ابتهل إليها حنا بعل، باسم قرطاجة، كانت كلها بونية، لكن الوثيقة الدبلوماسية تُرجمت إلى الإغريقية على يد مترجمين قرطاجيين، وبما أن الإغريق كانت لديهم معرفة بمعبوداتهم التي ذكرها حنا بعل، فقد أجروا مطابقةً لما ذكره حنا بعل، بما يعرفونه من معبوداتهم.

يتضح ذلك التأثر القرطاجي بالحضارات المتوسطية الأخرى في نص قسم حنا بعل، في الوثيقة المذكورة، إذ يُقسم قائلاً: 'أمام 'زيوس' و'هيرا' و'أبولو' أمام حامي القرطاجيين وأمام 'هيراكلس' و'أبولاوس' أيضاً أقام 'آرس' و'تريتون' و'بوسيدون' أمام الآلهة التي تصحب الجيوش في الحروب، أمام آلهة الشمس والقمر والأرض أيضاً، أمام جميع الآلهة الذين يحمون قرطاجة...".

هذا التأثر كانت له دائماً مناسبات أو أحداث معيّنة تؤثر في الفينيقيين، وتدفعهم إلى الإيمان بمعبود معيّن من آلهة الإغريق أو الرومان، ومن هذه المعبودات الإلهتان كور وديميتر اللتان اعتمدت قرطاجة طقوس عبادتهما رسمياً.

الإلهتان كور وديميتر

ديميتر هي إلهة الحصاد والنبات والفلاحة عند الإغريقيين، وتُعدّ من المعبودات الكبيرة عندهم لأنها أخت الآلهة "بوسايدون" و"زيوس" و"هاديس"، وتأتي في المرتبة الرابعة في التقديس، وفقاً للدكتورة مها محمد السيد، أستاذة الآثار اليونانية والرومانية المساعدة في كلية الآداب جامعة طنطا، في كتابها "الآلهة والأساطير اليونانية". أما الإلهة كور فهي ابنتها الوحيدة التي احتار الفنانون في تصويرها لجمالها الأخّاذ، ولها أسطورتها الخاصة المعروفة في المعتقدات اليونانية القديمة، وليست موضوعنا في هذه السطور.

الصراع القرطاجي-الإغريقي

سنة 397 قبل الميلاد، احتدم الصراع على مدن البحر المتوسط بين القرطاجيين والإغريق، الصراع الذي سبق ظهور روما كقوة منافسة أو ضاربة في الصراع على البحر الكبير، بعد أفول نجم الإغريق، وقبل أن يتحوّل الصراع على البحر بين قرطاجة وروما.

كانت السيطرة على مدن البحر المتوسط تُعدّ آنذاك سيطرةً على التجارة العالمية بين قارات العالم القديم الثلاث.

عانى القرطاجيون من سوء الطالع، في محاولاتهم المتكررة لغزو جزيرة صقلية، برغم نجاحهم في السيطرة عليها، لكن تلك السيطرة لم تكن بشكل دائم ولا كامل.

مركزية جزيرة صقلية

لصقلية أهمية بالغة عند كل من يهتم بالبحر المتوسط، فهي أكبر جزيرة فيه، وتقع في منتصفه تماماً فتفصل شرقه عن غربه، كما أنها تُمثّل جسراً يربط جنوبه بشماله، لذا فمن يُسيطر على صقلية يسيطر على البحر المتوسط، بعد أن يتحكم في حركة السفن ذهاباً وإياباً من الشرق والغرب والشمال والجنوب، لذا جاهدت كل القوى البحرية التي نهضت على ضفاف المتوسط في السيطرة على صقلية.

تُعدّ قرطاجة إمبراطوريةً بحريةً بامتياز لسيطرتها على أغلب شواطئ البحر المتوسط، كما ذكر فرانسوا ديكريه في كتابه "قرطاجة أو إمبراطورية البحر"، لكن جزيرة صقلية كانت تقف حاجزاً دون سيطرتها الكاملة على البحر، ومن ورائها الإغريق ومن بعدهم الرومان.

كانت قرطاجة بالفعل تسيطر على جزء من الجزيرة، لكن "جيلون" حاكم مدينة سيراكيوزا، كان يُشكل خطراً يُهدد نفوذها في الجزيرة، خاصةً بعد محاولته توحيد المدن اليونانية في صقلية، بحسب الباحث مفتاح محمد سعد البركي في كتابه "الصراع القرطاجي الإغريقي من القرن السادس حتى منتصف القرن الثالث ق.م وأثره على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في قرطاجة"، لذا قررت قرطاجة محاربته سنة 480 قبل الميلاد، وأرسلت إليه جيشاً جراراً بقيادة "حملقار"، لكن معظم الجيش غرق مع سفنه بسبب عاصفة هبت في البحر، وهُزم الجيش القرطاجي بالقرب من باليرمو، وبسبب الهزيمة انتحر حملقار.

بعد أقل من 70 عاماً، عادت قرطاجة إلى قوتها وأنشأت مدناً كثيرةً في شمال تونس، وسنة 409 قبل الميلاد، انطلق حنا بعل ماجو، حفيد حملقار، ليُحارب من جديد ضد مدن صقلية اليونانية العصية، ففتح مدناً مثل سلينونتي وهيمبرا في صقلية، لكن عينه كانت دائماً على مدينة سيراكيوزا أو سرقوسة مثلما أطلق عليها العرب المسلمون بعد تلك الأحداث بنحو أكثر من ألف سنة. أرسل حفيد حملقار جيشاً بقيادة "حيملكون" إلى المدينة، لكنه لم ينجح في غزوها، فحاصرها لمدة عام كامل.

كان هذا الحصار واحداً من 4 عمليات حاصر فيها القرطاجيون المدن وباءت كلها بالفشل بين عامي 497 و278 قبل الميلاد. تلك المحاولات التي كانت ردّاً على حصار الإغريق لمدينة موتيا القرطاجية في غرب صقلية، حيث كان القرطاجيون يسيطرون في أغلب الأوقات على الجانب الجنوبي الغربي من الجزيرة والقريب من سواحلهم في تونس، مقابل سيطرة الإغريق ومن بعدهم الرومان على الجانب الشمالي الشرقي من الجزيرة الأقرب إلى شبه الجزيرة الإيطالية.

احتل الجنود القرطاجيون كل الجزر الصغيرة حول جزيرة صقلية، إلى جانب العديد من المدن داخل الجزيرة نفسها كما أوضحنا، وكان الحصار القرطاجي محكماً على المدينة المحصّنة، وخلاله كان القرطاجيون يُغيرون على أسوار المدينة وما حولها لإجبارها على الاستسلام، وضمن تلك الغارات هجم جنود حيملكون على معبدين إغريقيين للمعبودتين كور وديميتر أمام أسوار المدينة، ونهبوهما.

بعدها بأيام ظهر مرض غريب على الجنود، لم يكن يعرفه أحد من قبل، وليس له علاج. انتشر الوباء بسرعة شديدة بين الجنود، وعلى متن السفن كلها، وأودى بحياة معظم الجيش القرطاجي.

عنذ ذلك ظنّ القرطاجيون أن سبب مصيبتهم يكمن في غضب الإلهتين كور وديميتر، خاصةً بعد تدميرهم لمعبديهما، وظل الجنود يعتذرون عما بدر منهم ضد الإلهتين حتى ترفعا غضبهما عنهم وعن قرطاجة، وهو الغضب الذي تجسّد في الوباء الذي فتك بنحو ثلث الجيش القرطاجي المحاصِر للمدينة.

وعما حدث ذكر المؤرخ الإغريقي ديويدور الصقلي -بحسب الباحثة سميحة لعويسي في بحثها تحت عنوان "الصراع القرطاجي الإغريقي في منتصف القرن 6 ق.م حتى منتصف القرن 3 ق.م"- أنه حتى تلك اللحظة لم يكن القرطاجيون يؤمنون بالمعبودتين كور وديميتر، لكنهم بعد الذي حصل طلبوا من خيرة مواطنيهم أن يكونوا كهنةً لِكور وديميتر، ورسموا لهما الرسومات على جدران قرطاجة نفسها في احتفال عظيم.

سنة 397 قبل الميلاد، احتدم الصراع على مدن البحر المتوسط بين القرطاجيين والإغريق؛ الصراع الذي سبق ظهور روما كقوة منافسة أو ضاربة في الصراع على البحر الكبير، بعد أفول نجم الإغريق

انتهى الحصار الذي استمر عاماً تقريباً على سيراكيوزا، كما ذكر ألفريد تشيرش، وبعدما نهش المرض في جنود قرطاجة، دخل القائد الإغريقي ديونيسيوس على من تبقى منهم وأطاح بهم برّاً وبحراً وفي كل الجزر المحيطة بصقلية.

قضى الطاعون على حنا بعل ماجو، واضطر القائد حيملكون إلى عقد اتفاق مع ديونيسيوس حاكم سيراكيوزا، لكي يستطيع العودة بما تبقى من جنوده مقابل 300 تالنت من الفضة وتعويضات حربية أخرى تُدفع إلى ديونيسيوس نفسه، والتالنت وحدة قياس قديمة للوزن تساوي وزن الماء اللازم لملء جرّة خزفية كان يستخدمها اليونانيون القدماء.

كانت هذه هي الحرب الثانية من 3 حروب كبيرة قامت بين القرطاجيين والإغريق من أجل السيطرة على جزيرة صقلية، وهو الصراع الذي لم يُحسم لصالح أي منهما في أي من الحروب الثلاثة، وانتهى في كل مرة بتقسيم صقلية بين القوتين، بحسب سعد البركي، وكل هذا قبل أن تظهر روما كقوة وتهزم اليونانيين ومن ورائهم القرطاجيين بعد فترة طويلة من الصراع، تبادلت فيها الإمبراطوريات الثلاثة "الإغريقية والقرطاجية والرومانية" الأدوار، بين بناء ونهضة وقوة وسيطرة وذبول وضعف وانهيار، طوال نحو ألف عام قبل الميلاد من الصراع الدموي الميثولوجي الذي تُوّجت فيه عقائد الإمبراطورية الأقوى دائماً ملكةً على عقائد سابقتها، وإن كانت تأثرت كل حضارة وإمبراطورية بنظيراتها على ساحل البحر المتوسط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image