خلال الأسبوع الأخير شهدت مصر محاولات قليلة متفرقة للاحتجاج على قرار السلطات المصرية تجاهل توصيات اللجنة المشكلة بقرار من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول إزالة مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، وهي جزء من قِرافة القاهرة الممتدة من سفح المقطم نحو شرق القاهرة.
فعلى الرغم من أن توصيات اللجنة كانت قاطعة بكون مشروع "التطوير" لإنشاء وصلة لمحور الحضارات، هو مشروع غير ضروري وأن الوصلة التي تُزَال في سبيلها المقابر على النحو المعلن لن توفر سوى دقيقتين فقط في زحام مرور القاهرة؛ إلا أن السلطات رأت تفعيل قراراتها الماضية في إزالة المقابر من دون اعتبار لقيمتها التاريخية أو الأثرية أو الاعتبارات الروحية والإنسانية الخاصة بنبش قبور الموتى وإجبار أسرهم على إعادة دفنهم في مقابر أبعد.
إصرار السلطات على المضي في مشروع التطوير جدد موجة الغضب تجاه القرار ما دفع الدكتور أيمن ونس رئيس لجنة الطراز المعماري المميز بشرق القاهرة (حيث المقابر المزالة والتي كان من بينها أحواش وشواهد وقبور ذات طراز فني ومعماري مميز) على تقديم استقالته من منصبه الرسمي احتجاجاً على ما طال المقابر التي تقع في نطاق مسؤوليته.
رأت السلطات المصرية تفعيل قراراتها الماضية في إزالة المقابر من دون اعتبار لقيمتها التاريخية أو الأثرية أو الاعتبارات الروحية والإنسانية الخاصة بنبش قبور الموتى وإجبار أسرهم على إعادة دفنهم في مقابر أبعد، على الرغم من توصيات اللجنة المشكلة بناء على طلب الرئيس بوقف أعمال الهدم
استقالة ونس التي أحدثت ضجة وظن معها المهتمون بقضية وقف هدم المقابر أن هناك صحوة بين المسؤولين والأكاديميين المصريين الذين صمت معظمهم عما يدور، ولم يكتف ونس بالاستقالة بل تحدث إلى صحف وبرامج تلفزيونية مؤكداً أن ما يحدث في منطقة القاهرة التاريخية يعد "إهداراً وتحطيماً لأماكن ذات قيمة تاريخية".
لكن غضبة الأكاديمي والمسؤول الرسمي المصري انتهت سريعاً وبعد 48 ساعة فقط إلى تراجع عن الاستقالة وسحبها عائداً إلى منصبه وأزال المنشور الذي حوى صورة لاستقالته المسببة مكتوبة بخط اليد، كون الاستقالة "أحدثت بلبلة غير مقصودة" على حد قوله، وقال ونس في منشور جديد يشرح فيه أسباب تراجعه عن الاستقالة، أنه تم استغلالها في الهجوم على جهود الدولة والتقليل منها، معتبراً أن الدولة مستمرة عبر مؤسساتها في "التطوير وتحسين البيئة العمرانية وحياة المواطنين".
ولم يفته أن يشدد على أنه "يثمن جهود الدولة ويعلم قيمتها جيداً من خلال عمله كرئيس لإحدى اللجان الدائمة لحصر المباني التراثية ذات القيمة لسنوات طويلة"، وأن دافعه للاستقالة الاحتجاجية التي تراجع عنها كان حبه لوطنه وغيرته على كنوزه التراثية، وأن هدفه الأساسي كان تحسين أداء أعمال التطوير بما لا يؤثر على المخزون التراثي الثمين الذي تمتلكه بلاده.
غضبة الأكاديمي والمسؤول الرسمي المصري المستقيل احتجاجاً على استمرار الهدم انتهت سريعاً، وبعد 48 ساعة فقط إلى تراجع عن الاستقالة وسحبها عائداً إلى منصبه، وأزال المنشور الذي حوى صورة لاستقالته المسببة مكتوبة بخط اليد، كون الاستقالة "أحدثت بلبلة غير مقصودة"
استقالات وانسحابات بعضها مؤقت
لم تكن تلك هي اللقطة الاحتجاجية الوحيدة خلال الأسبوع التي ظهر تراجع أصحابها عنها أو المسارعة إلى نفي صفة الاحتجاج عنها، فبعد انتشار صور لاقت احتفاء كبيراً لمجموعة من الشباب والشابات من الفنانين في رحلة إلى منطقة المقابر الجاري هدمها ضمن مبادرة "طالع إزالة"، وهي ابنة لمبادرة أكبر هي "رسم مصر"، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تركيبات وشواهد وتوثيق الأحواش والمقابر الجارية إزالتها عبر الرسم والتصوير الفوتوغرافي؛ كتب الدكتور محمد حمدي مؤسس المبادرة منشوراً يطالب فيه المتابعين بعدم التعليق على الصور وعدم تحميلها أكثر من معناها، مؤكداً أنه لا ظل للاحتجاج في المبادرة ولا بين منتميها. وعاد ليشارك تصريحاً للصحافي محمد الباز المقرب من السلطات ليؤكد من خلال تصريحه على عدم موافقة المبادرة على "استغلالها لإثارة البلبلة".
ولكن إلى لحظة إعداد هذا التقرير للنشر، لم يتراجع الدكتور حسام إسماعيل أستاذ الآثار الإسلامية في جامعة القاهرة عن استقالته من اللجنة الدائمة لحصر المباني والإنشاءات ذات التراث الفني المميز في شرق القاهرة، والتي أعلن ضمن مسبباته احتجاجه على السياسات المستمرة تحت لافتة التطوير.
أستاذ الآثار الإسلامية المخضرم قال في تصريحات صحافية إن ما يجري في منطقة شرق القاهرة والقاهرة التاريخية ليس مجرد تطوير، بل هو مخطط لتحويل القاهرة إلى "مول كبير".
أستاذ في الآثار الإسلامية والقبطية وعضو مستقيل من لجنة تراث شرق القاهرة: جهود 50 عاماً عملت خلالها على حفظ وصون الآثار لم يعد لها معنى، "لم يعد أحد يستمع إلى نداءاتنا المستمرة بضرورة الحفاظ على القاهرة القديمة وما تمثله من قيمة متفردة"
وأضاف إسماعيل للموقع الزميل "باب مصر" إنه مقتنع أن جهود 50 عاماً عمل خلالها على حفظ وصون الآثار لم يعد لها معنى "لم يعد أحد يستمع إلى نداءاتنا المستمرة بضرورة الحفاظ على القاهرة القديمة وما تمثله من قيمة متفردة".
وكشف عن أن لقاء أعضاء اللجنة وأساتذة الآثار الإسلامية والتخطيط العمراني مع رئيس الوزراء تعهد الأخير خلاله عدم التعرض للقاهرة التاريخية: "إلا أن أياً من هذه الوعود لم تنفذ، فالقاهرة تعيش نكبة حقيقية".
وسبق الاستقالتان - القائمة والمُتراجع عنها- انسحاب خمسة من أعضاء اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء بناء على توجيه من رئيس الجمهورية لتقييم خطة التطوير في منطقة مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، والتي تم تجاهل تقريرها والمضي في أعمال الهدم.
أين المجتمع الأكاديمي واليونسكو؟
في الوقت، تتساءل أصوات عن سر صمت منظمة اليونسكو التي سبق لها إعلان قرافتي القاهرة الكبرى والصغرى ومنطقة القاهرة التاريخية كلها واحدة من مناطق التراث العالمي المسجلة على قوائمها، خاصة وأنه بينما تجري أعمال الهدم على قدم وساق، عقدت اليونسكو إجتماعاً مع مجلس الوزراء المصري لمتابعة مشروع الحفاظ على الحرف التراثية وتنميتها، ولم يحو البيان الرسمي الصادر عن الجهتين أية إشارة لطرح مسألة هدم المقابر للنقاش أو على جدول أعمال اجتماعات مقبلة.
في الوقت لم يصدر عن أية مؤسسة بحثية أو جهة أكاديمية دولية مختصة بالآثار المصرية أية بيانات تتعلق بما يجري في القاهرة التاريخية.
تحركات بلا طائل
تقول الدكتورة سهير حواس أستاذة التصميم العمراني بجامعة القاهرة إن هناك تحركات مختلفة طالبت بوقف هدم مقابر القاهرة التاريخية، خرجت بناء عليها قرارات لم تنفذ.
الدكتورة سهير حواس أدارت في وقت سابق مشروع إعادة تأهيل منطقة وسط القاهرة ورفع كفاءتها وظيفياً، وحققت نجاحاً كبيراً في رفع كفاءة المنطقة التراثية المهمة من دون تغيير طابعها المعماري والتراثي.
تقول حواس لرصيف22 إنه "من الخطوات التي اتخذت تحرك برلماني وتقديم استجوابات للحكومة، ومن المفترض أن هناك قرار خرج بعد ذلك لوقف أعمال الهدم، هذا إلى جانب استقالة [بعض] أعضاء اللجنة الإستشارية للجبانات التي طلب الرئيس تشكيلها، واستقال نصف اللجنة، الخبراء منهم، لكن عملية الهدم مازالت مستمرة، ولا بد من تدخل الحكومة وأن تتخذ قرار فيها، لكن كل ما يمكن أن يقوم به المجتمع المدني قام به لا يستطيع أن يقف أحد أمام البلدوزر، لا بد أن تسير الأمور من جهات رسمية، حتى أن اللجنة التي شكلها الرئيس قالت لا لأعمال الهدم لكن الهدم استمر دون مراعاة أن اللجنة يجب أن تقدم تقريرها للرئيس قبل استكمال الهدم".
وتابعت سهير حواس "المشكلة أن القرارات معلقة ولم تنفذ".
الدكتورة سهير حواس: "اليونسكو لا يستطيع التدخل، ليس له سلطة ولكن ما يمكن أن يفعله هو أن يخرِج القاهرة التاريخية من قوائم التراث العالمي، لأن اليونسكو كان قد سجلها انها تراث عالمي لكن يتم تدميرها الآن فيمكن أن يرفعها من قوائمه، لأن هناك مساس بمساحات كبيرة من القاهرة التاريخية"
وحول إمكانية تدخل اليونسكو قالت: "اليونسكو لا يستطيع التدخل، ليس له سلطة ولكن ما يمكن أن يفعله هو أن يخرِج القاهرة التاريخية من قوائم التراث العالمي، لأن اليونسكو كان قد سجلها انها تراث عالمي لكن يتم تدميرها الآن فيمكن أن يرفعها من قوائمه، لأن هناك مساس بمساحات كبيرة من القاهرة التاريخية".
ترى حواس أن المشكلة هي "عدم وجود معلومات واضحة حول المشروع وطبيعته" فما الذي يتم هدم المكان من أجله؟ "حتى الجهات المسؤولة مثل مجلس الوزراء لم يخرج منها بيان" وهي الجهات التي - يفترض- تخرج منها المعلومة صادقة ودقيقة.
وتضيف حواس: "يجب محاسبة المتسبب في هذه الفوضى وهذه المهزلة وضياع تراثنا وثرواتنا من التراث العمراني، لا بُد أن يحاسب والمشكلة أننا لا نعلم من المتسبب في ذلك؟ كيف نصل ان لدينا مشكلة بهذا الحجم ولا نعلم من المتسبب فيها، ومن خطط لها، ومن المفترض أن من يخطط للطرق إذا كان الخط المستقيم سيدخل في منطقة تاريخية فيتم البحث عن بدائل ويتحرك بعيد عنها ليصل بأقل خسائر".
الآثار والتاريخ أولوية
الدكتور حجاجي إبراهيم أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية قال لرصيف22 إن من يريد أن يخطط لشيء يجب ألا يهدم مكاناً أثرياً أو تاريخياً ويبتعد عن تلك المناطق، "فلا يمكن أن يتم [هذم] مقبرة طه حسين أو أحمد شوقي أو مقرىء قرآن مشهور أو مغن مثل عبد الحليم".
ولفت حجاجي إلى أن اليونسكو "منظمة لا يثق بها" موضحاً: "اليونسكو بها أعضاء من تلامذتي لكن الحقيقة أنا لا أثق بها منذ حرب العراق لأنه في وقت كانت تُفجَّر المآذن في الحرب؛ كانوا يضحكون. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك لم يثبتوا فيها موقف". وأضاف "أيضاً المسؤولين في الآثار صمتوا، لا بد أن يكون هناك قوانين واضحة عن الترميم والتطوير وعدم هدم ما هو تاريخي، فكنت دائماً أتصدى لمثل هذه المواقف خلال تواجدي كعضو المجلس الاعلى للأثار وفي المجلس الأعلى للثقافة، لكن الآن أصبحت لا أتحدث عن الآثار بعد أن أصبح وزير الآثار غير متخصص وجاء من خلفية العمل بالبنوك".
وطالب حجاجي أن لا تتخذ أية قرارات تتعلق بالمناطق الاثرية والمناطق التراثية وذات الطابع المعماري المميز من المسؤولين التنفيذيين وحدهم، بل لا بد من الالتزام التام بما تراه اللجان المتخصصة، خاصة وأن "كثير من المسؤولين ينقصهم الوعي الأثري، والوعي بأهمية المكان والضمير والشجاعة". ولفت إلى أن اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية لو احتج واحد بها احتجاجه سينفذ، "وفي النهاية أعيب على بعض الزملاء الذين لم يتحركوا من خلال منصبهم".
الاحتجاج عبر السوشال ميديا
أشار محمود مرزوق الكاتب والباحث في الآثار المصرية إلى أن هناك تحركات كثيرة قام بها المجتمع المدني لوقف الهدم، موضحاً لرصيف22 أن كثير من المعماريين والأثريين والمهتمين بهذا الشأن بذلوا مجهودات واضحة من خلال التدوين عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتوثيق بالمعلومات والصور والفيديو، وقام أعضاء لجنة تقييم موقف المقابر التاريخية بإصدار توصيات مفادها "لا للنقل لا للهدم"، ورفعوا تقريرهم لرئيس الوزراء، فضلاً عن المجهودات التي قام بها مجموعة من المتطوعين وساهموا من خلالها في إنقاذ بعض الآثار المنقولة التي نتجت عن الهدم، مثل اللوحة التأسيسية لحوش عتقاء البرنس ابراهيم حلمي ابن الخديو إسماعيل الذي جرى هدمه الأسبوع الماضي.
وتابع: "الخلاصة أن الجميع بذل ويبذل مجهودا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أما كل الأوراق فهي في يد الحكومة القادرة على إصدار قرار بوقف الهدم طبقاً لتوصيات اللجنة المختصة المشكلة من قبل الحكومة".
وأوضح "اليونسكو جهة مهمتها دعم الحفاظ على التراث الوطني للشعوب، لكنها غير مختصة بغل الأيادي عن استهداف هذا التراث، ولكن سبق لليونسكو أن قدمت تقريراً هاماً من خلال بعثة الرصد التفاعلى المشتركة بين مركز التراث العالمي والمجلس الدولي للمعالم والمتاحف التي وفدت إلى القاهرة في الفترة من 9 إلى 13 يونيو/ حزيران 2019. حيث قدمت عدة ملاحظات واستنتاجات من بينها تزايد تدهور النسيج العمراني في القاهرة".
وبحسب مرزوق، طالبت بعثة اليونسكو وقتها بوقف أية عملية قطع أو توسيع للشوارع لتحسين حركة مرور المركبات، بالإضافة إلى ضرورة تحديد رؤية شاملة للحفاظ على المدينة الحضرية التاريخية. وطالبت البعثة بضرورة تفعيل مرسوم عام 2014 بشأن تشكيل لجنة وزارية مشتركة لإدارة القاهرة التاريخية وتوضيح أدوار ومهام أصحاب المصلحة الرئيسيين، "الخلاصة أن اليونسكو أدت دورها من خلال تقديم التوصيات في وقت سابق، وتم رفع التقرير للحكومة وأصبحت الكرة في ملعب المسؤولين، وبالتالي فالمسؤولية الكاملة تقع على عاتق الحكومة وليست أي جهة أخرى، ناهيك عن كون ما يُهدَم من تراث وطني يعلم قيمته المصريون أكثر من غيرهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...