"هل تحب علياً أم تهوى عمر؟"؛ سؤال بسيط في الظاهر برغم أنه قسم أمةً بأسرها، وجعلها تتخبط في مسارات الجهل والتجهيل، وحفّز طبيباً مصرياً شاباً لكتابة رواية تدافع عن حق الأقباط في الحفاظ على مكتسباتهم الإنسانية والمعرفية، بغض النظر عن انتمائهم الديني والعقائدي. فالأقباط مسلمون أيضاً وليسوا مسيحيين فقط، لأنهم أجداد المصريين ومكمن هويتهم المميزة.
أسوةً بيوسف زيدان في روايته "الحاكم"، ومصطفى موسى في "رؤيا العين"، لن يجد أسامة عبد الرؤوف الشاذلي في روايته "عهد دميانة" أفضل من مصر الفاطمية ليبذر شخصياته المنفتحة في تربتها، حيث تداخلت الفلسفات والعقائد، واكتمل نمو الإنسان السويّ وأثمر زرعه، ممثلاً في النص بفلسفة إخوان الصفاء التوحيدية، وتالياً لم يُصبه العطب على غرار أولئك الذين وافق هبوطهم من فردوس العرفان الأرضَ اليباب.
لن يجد أسامة عبد الرؤوف الشاذلي أفضل من مصر الفاطمية ليبذر شخصياته المنفتحة في تربتها، حيث تداخلت الفلسفات والعقائد، واكتمل نمو الإنسان السويّ وأثمر زرعه
لذلك يفعل الشاذلي نصه الروائي بمحاكمة عقلية سريعة تأخذ سياق حوار بين أب وابنه، فيدحض من خلال التساؤلات العابرة مبدأ رفض الآخر بسبب انتمائه الطائفي والديني: "هل النبي محمد سنّي أم شيعي؟ وهل يسأل الله كلمته عيسى بن مريم إن كان كاثوليكياً أم أرثوذكسياً؟". وكنتيجة للحوار يتزوج الفتى السنّي علي ابن السلار من أرملة شيعية شابة ويصبح أباً لطفلها الرضيع، في إثبات أن اليقين ليس ما ندركه بأعيننا أو بعقولنا، وإنما ما تؤمن به قلوبنا.
وهذا ما يشكّل مدخلاً لجبل الشخصية الاستثنائية في الرواية، يوسف بن صدقة القبطي المسيحي، الذي وُلد لشابة قبطية تُدعى ورد، اختطفها تجار الرقيق، وباعوها لعلي بن السلار، الذي احترم زهدها وتبتّلها فأعرض عنها، قبل أن يزوّجها لكاتبه العجوز صدقةً، ويجعلها قيّمةً على حريمه، فيصبح يوسف الذي تعمّد في نهر التوحيد على يد شيخ يدين بالعرفان، أباً لطفل وُلد لجارية تركية مسيحية تُدعى يوستينا وحفيد علي بن السلار الذي غلبته شهوته للرجال، فأُجبر على مواقعتها حتى تنجب ابناً. ولما تصادفت ولادة الطفل مع مرور موكب العزاء في عاشوراء، أطلق عليه جدّه اسم الحسين، تيمّناً بشهيد الأمة المتشظية على نفسها.
يشكل عهد الطفلة دميانة القادم والمحاط بالمجهولية من قبل المؤلف، دعوةً إلى احترام اختلاف الإنسان وتغليب حسه الأخلاقي الرفيع فوق التصنيفات الطائفية والدينية.
لاحقاً تولع يوستينا المهجورة بيوسف وتنجب له ابنةً، تسميها دميانة، التي سيشير اسم الرواية المقترن بها إلى الطموح الخفي للشاذلي بأن يكون عهدها صادقاً منزّهاً عن رياء المنافقين، وزمنها مرناً يستوعب اختلاف المنفصلين عن ثقافة التهميش، الأمر الذي حتّم على تلك التركيبة الروائية للشخصيات والتي تتداخل فيها الأديان والعقائد، بالمرور عبر بوتقة الفلسفة التوحيدية لإخوان الصفا، بحيث تثير تلك التفاصيل جدلاً واسعاً حول الشخصية العالمية التي اقتبس لها المؤلف اسم الصدّيق يوسف، والتي نجد نموذجها الأبهى والأكمل في شخصية الأمير مشكين بطل "الأبله" لدوستويفسكي.
من لجة الأحداث التاريخية الحافلة بالصراعات الدموية في تلك الحقبة، يطلّ "نبأ عظيم"، ينقل مأثرة مجموعة من الصيادين الفقراء الذين هاجموا بمراكبهم أسطولاً للفرنجة يحاصر دمياط، وأحرقوا عدداً كبيراً من مراكبهم في صور، ثم عادوا إلى دمياط منتصرين. وتكتسب تلك الواقعة أهميتها من مشاعر الفرح بالنصر التي لوّنت سماء الفسطاط بالبهجة، وجعلت وجوه الناس أكثر جمالاً، برغم أنها الوجوه الفقيرة الكالحة نفسها، التي مسحت ابتسامة السعادة عنها كآبة الفقر، ومنحتها بهاءً وجمالاً. وعليه فإن تسمية واقعة انتصار المهمشين تكتسب علواً وتقديراً يتجاوزان التأريخ المعتاد لأمجاد الأقوياء.
وينسب الشاذلي مأثرة المذلّين والمهانين هذه إلى سعي يوسف إلى تأمين قوارير النفط لهم، عبر الاستتار بتجارة العسل، فيضيف إلى صفاته كناسخ في ديوان علي بن السلار أولاً وإلى كتب الحكمة السرّية ثانياً، صيرورة الشجاع الذي لا يهاب الموت في سبيل إنقاذ ابن حبيبته يوستينا الحسين، والتخفيف من وطأة الظلم عن المسحوقين، وسعياً إلى تحقيق العدل الذي يتبيّن له في خاتمة المطاف أنه متوهم في هذه الدنيا، وتالياً يكفي المرء شرفاً أن ينصر مظلوماً أو يردع ظالماً. لذلك قيل في جنازته: "مات من كان اسمه منقوشاً على الماء"، فوحدهم أنقياء القلوب يدوّنون مآثرهم فوق الماء، الذي يرمز إلى الطهارة والمرونة في الوقت نفسه، فيتأسطر البطل في قلوب الصيادين الذين عاينوا التجلي وتماهوا مع مأثرته.
يفعل الشاذلي نصه الروائي بمحاكمة عقلية سريعة تأخذ سياق حوار بين أب وابنه، فيدحض من خلال التساؤلات العابرة مبدأ رفض الآخر بسبب انتمائه الطائفي والديني
في خطوة يمكن وصفها بالغيرية، يتهم يوسف نفسه أمام السجان أهرمان باقتراف خطيئة السرقة، لكونه سرق حصته من الحب، والعدل، والوفاء، والكرامة، وانتزعها من أيدي الذين ينثرون الكراهية، ويستقوون بالظلم، ويرهبون بالذل، ويتنفسون الخيانة. وهي سرقة لن تجعل منه غنياً، بل تحقق له إنسانيته، وتجعل له من اسمه نصيباً. في المقابل، أهرمان الذي تعلم أن الطاعة لمن غلب، وأن مهمته تتمثل في عقاب المهزوم بقسوة، يحنّط جسد يوسف عقب موته في زنزانته، كما حنّط أقرانه ملوكَ مصر القدماء، فيشيّع نعشه باحتفالية كبيرة.
وبينما اقتصر دور الحقبة الفاطمية عند زيدان على إبراز شخصية الحاكم بأمر الله، كمعادل لاستتار الحكماء بالجنون، وتحول عند موسى إلى إدانة لصخب المرحلة التاريخية وعنفها وتغليب الأحقاد الشخصية على المحاكمة الحيادية، تحولت عند الشاذلي إلى إسقاط رمزي لبيئة الصراع الطبقي والديني المعاصر، يحفز على استدعاء الشخصية العالمية للصدّيق التي يتكامل عندها الإدراك الصامت كنقيض للنفاق الديني العلني، إلى جانب الإيثار المسيحي-الإسلامي القائم على احترام إنسانية الإنسان، والإخلاص في العمل.
وهو ثالوث يُحيي موات القلوب من غفلتها، ويشكل دعوةً للتفكير وقبول الاختلاف عند الآخر، على النقيض من شخصيتَي ورد ووسن اللتين جسّدتا الثبات والخوف من التغيير، فحاولتا الهرب الى الدير الذي يجسد نمطاً لكل مؤسسة تحمي الإنسان من عبء التفكير، وتلزمه بالطاعة والتقيّد الأعمى بالطقوس. ومن هذا المنطلق يشكل عهد الطفلة دميانة القادم والمحاط بالمجهولية من قبل المؤلف، دعوةً إلى احترام اختلاف الإنسان وتغليب حسه الأخلاقي الرفيع فوق التصنيفات الطائفية والدينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع