بدأت الانطلاقة الحقيقية للموسيقى الليبية مع تأسيس هيئة الإذاعة عام 1957، حيث ضمّت مكتباً للموسيقى والغناء، عمل على تسجيل الأغاني الإذاعية، واستقطاب الفنانين والموهوبين.
كانت الأرض مهيأةً حينها لنهضة فنية ظهرت مؤشراتها قبل ذلك بسنوات عديدة في مدينة طرابلس التي كانت مركزاً للنشاط السياسي والاقتصادي والثقافي، وقد ساعد على ذلك قدوم بعض الفرق المسرحية والغنائية المصرية لتقديم عروضها على الأراضي الليبية بدءاً من عام 1880، بالإضافة إلى افتتاح إذاعة القاهرة عام 1934، وانتشار أجهزة المذياع، وأسطوانات الفونوغراف.
تعددت الألوان الغنائية في تلك الفترة بين الأناشيد الدينية، والتراث الشعبي، وأغاني الغزل والحب، فضلاً عن الاحتفاء بالملك إدريس السنوسي.
الثورة في مبنى الإذاعة
هبّت رياح الثورة على المنطقة، وبزغ نجم جمال عبد الناصر الذي لاقت أفكاره قبولاً عند شاب ليبي، استغل التحاقه بالكلية الحربية، في تطبيق تلك الأطروحات على أرض الواقع، فتحرّك مع زملائه في الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1969، للسيطرة على النقاط الإستراتيجية، وإعلان الجمهورية العربية الليبية من مبنى الإذاعة في بنغازي.
وتماشياً مع المدّ الثوري الذي اجتاح المنطقة حينها، تقلصت مساحة الأصناف الغنائية المختلفة لصالح الغناء الوطني. انبرى الفنانون إلى التغني بشعارات الحرية والاشتراكية والوحدة، فخرجت أغانٍ مثل "بشاير يا ليبي بشاير" لمحمد خليل، و"يا فجر الحرية" لخالد سعيد، وغيرهما الكثير.
لم يتوقع الليبيون حينها أن تسير الأحداث في اتجاه سيغيّر وجه بلادهم بالكامل. كانت الخلافات قد دبّت بين القذافي ومجلس قيادة الثورة الذي منحه رتبة عقيد، واستغلها القذافي ليعلن عام 1973 من مدينة زوارة في غرب البلاد، قيام الثورة الثقافية التي تُوِّجت بإعلان سلطة الشعب عام 1977، وقيام نظام الجماهيرية على أساس النظرية العالمية الثالثة التي صاغها العقيد في كتابه الأخضر.
كان ذلك إيذاناً بتنصيب القذافي فيلسوفاً ومفكراً ثائراً لعبت الموسيقى دوراً كبيراً في تمجيده، والترويج لأفكاره. فواكبت الأغنية الليبية منذ ذلك الحين جميع المناسبات الوطنية، وكانت ذكرى ثورة الفاتح من أيلول/ سبتمبر، هي المناسبة الأهم، التي تقام لها احتفالات ضخمة تستمر لمدة شهر كامل، ويشارك فيها مشاهير الفنانين العرب مقابل مبالغ مالية هائلة.
محمد حسن... مطرب الثورة الأول
فتحت الإذاعة أبوابها أمام العديد من الفنانين الذين حصلوا على دعم وتأييد كامل مقابل تسجيلهم مئات الأغاني الوطنية، ومن أشهرهم محمد حسن مطرب الثورة الأول، الذي قدّم باقةً من أشهر الأغاني في تاريخ الجماهيرية مثل "من طبرق طير يا حمام " التي أنشدها بمناسبة ذكرى جلاء القواعد الأجنبية عن البلاد عام 1972، إلى جانب عدد من الأغاني الشعبية والعاطفية مثل "يسلم عليك العقل"، و"يا ريح هدى". من ناحية أخرى ساعد مناخ المرحلة على دخول عدد من الضباط والعسكريين مجال التأليف والتلحين الموسيقي مثل عبد الله منصور، ومعاوية الصويعي، وغيرهما، حتى أن القذافي قام بنفسه بتأليف بعض الأغاني والقصائد مثل أغنية "إلى اللقاء في الساحة الخضراء".
هوس القذافي بجمال عبد الناصر
لم ينسَ العقيد ذلك اللقب الذي منحه إياه عبد الناصر: "أمين القومية العربية". ومثلما تغنّت الموسيقى المصرية بناصر كرمز للكفاح الوطني، فعلت نظيرتها الليبية، لكنها تجاوزتها إلى مساحة أوسع ظهر فيها العقيد كمعلم ومرشد صاحب عقيدة فكرية خاصة.
يظهر ذلك بوضوح في أغنية "تعيش يا قائد"، التي يصف فيها الشاعر أحمد النويري، القذافي بأنه "نور على البشرية"، أو تلك التي تتغنى بالجماهيرية كمنتج فريد، مثل أغنية "يا أول جماهيرية" للفنانة أصالة نصري.
لماذا حرقت الآلات الموسيقية الغربية في ميادين ليبيا العامة؟
فلنحرق الغيتار معاً
بالعودة بضع خطوات إلى الوراء، يصف محمد حسنين هيكل، ضباط ثورة الفاتح من أيلول/ سبتمبر، بأنهم "شباب في منتهى البراءة". كان ذلك في أول زيارة للصحافي الكبير بتكليف من عبد الناصر، للاطلاع على مجريات الأحداث في الجارة الغربية. لكن يبدو أن تلك "البراءة" قد لازمت القذافي طوال حياته. فبرغم مرور السنوات وتعدد التجارب، ظل الرجل محتفظاً بشخصية الطفل البدوي، الذي يرى العالم من منظوره المحلي الخاص. تجلى ذلك في نظرته الدائمة إلى الغربيين على أنهم مجموعة من الأشرار الحاقدين على العرب، ولا حل إلا بمواجهتهم وملاحقتهم في كل مكان. نظرة بسيطة بعيدة عن تعقيدات السياسة والعلاقات الدولية، إلا أنها شكلت شخصية العقيد الذي رأى في نفسه قائداً أممياً، ترافقه الأغاني البدوية الحماسية أينما حل، ويعبّر عن غضبه من الغرب بحرق الآلات الموسيقية الغربية في الميادين العامة بدعوى أنها تمثّل "إهانةً للإسلام والثقافة العربية".
طبول إفريقية
حشد ضخم من المصلين في العاصمة التشادية "أنجامينا". كان اليوم يوم الجمعة الموافق الأول من أيار/ مايو عام 1998، وكان القذافي خطيباً يدعو الأفارقة إلى اعتناق الإسلام والتخلص من الأفكار الوثنية، ويعلن إشهار ما يزيد عن ألفي مسيحي لإسلامهم بين يديه مطالباً الأمم المتحدة باتّباع التقويم القمري عوضاً عن التقويم الروماني الوثني.
بين ذلك المشهد وما قبله، فصل من الخذلان العربي، أدرك معه الزعيم الليبي أن الواقع لن يتسع دائماً للأحلام. فبعد أن ألحقت العقوبات الدولية خسائر هائلةً بمختلف قطاعات الدولة، اضطرت الجماهيرية إلى أن تسير في طريق تسوية خلافاتها مع الغرب الذي واجهته منفردةً، حتى تم رفع الحصار عام 2003، وتبعه تفكيك وتسليم البرنامج النووي الوليد، لتخرج ليبيا من دائرة الإرهاب، ويخرج معها العرب من حسابات الجماهيرية.
دُقّت الطبول تعويضاً عن أمنيات وصفها العقيد في لقاء تلفزيوني لاحق بأنها "غير مناسبة لعصر العولمة"، فعبرت كاميرات التلفاز الصحاري الشاسعة إلى قلب القارة السمراء، تصحبها الهدايا والعقود الاستثمارية، وتعززها أناشيد تبشر بزعيم إفريقيا الجديد، ودعوته إلى تشكيل الولايات المتحدة الإفريقية.
كانت الحصيلة لقب "ملك ملوك إفريقيا"، الذي ابتهج به الأخ القائد في سنوات باهتة، شهدت تصاعد الغضب، وبدا فيها الملل على الحاضرين الذين استعدوا لمغادرة مقاعدهم، برغم إطلاق النظام السياسي لتيار إصلاحي داخلي تضمن محاولات للنهوض بالأغنية الليبية، من خلال تنظيم مسابقات غنائية أُعطيت فيها الفرصة لأفكار جديدة ومختلفة.
أثر ممتد
على مدار ما يزيد عن أربعة عقود، عبّرت الموسيقى الليبية عن هوية وطنية صنعها العقيد، وربط فيها بين أفكاره الخاصة، ومحددات الثقافة الليبية العامة، مما زادها رسوخاً وإحكاماً، وخلق لها امتداداً لم ينقطع حتى اللحظة.
اليوم، تداعب تلك الألحان البدوية عواطف الحنين إلى ليبيا المتماسكة التي احتفظت بهوية خاصة قبل أن تطأها أقدام الجميع، وتتحول إلى ساحة للصراع الدولي. ومن منظور البعض، يظهر القذافي بملابسه الفضفاضة، وجلسته غير المبالية بالمراسلين الأجانب، كبطل عربي مسلم، اعتزّ بثقافته، ورفض الاستسلام أمام هجمات حلف الناتو المساندة لمعارضيه، واصفاً إياها بـ"الحملة الصليبية".
هنا تلعب الموسيقى دورها كمحفز عاطفي يستدعي ذكريات عصر الاستقرار أو كما يسميه آخرون "أيام العز"، ويغازل الطبيعة العربية المستضعفة، والمتحفظة تجاه الغرب، لينتهي الأمر بتصنيف العقيد شهيداً تخلّى عنه الجميع.
ما طبيعة الدور الذي تلعبه الموسيقى في التسويق لسيف الإسلام القذافي؟
وداخل هذا الإطار، تتحرك فضائية "الجماهيرية العظمى" كصوت رسمي سابق، إلى جانب بعض منصات التواصل الاجتماعي، للتبشير بسيف الإسلام الذي يراهن على تيار داخلي تختلط فيه المشاعر العفوية مع بعض التوجهات الدولية التي تدفع في اتجاه العودة الخضراء أو المحافظة عليها ضمن الخيارات المطروحة على أقل تقدير. وبرغم وجود شريحة شعبية ترفض الارتداد إلى الخلف، إلا أن حالة الجمود السياسي تظهر دائماً كأداة فعالة، فكلما طال أمد الأزمة، ازداد الشوق إلى المسيح المخلص، وازدادت معه قيمة تلك اللقطات الأرشيفية التي يظهر فيها العقيد، وهو يشقّ بسيارته الجموع المحتشدة، بينما تعلو في الخلفية قصائد الرثاء والأهازيج الشعبية.
تتبدل الوجوه، وتتعدد المسارات على امتداد خط الزمن، لكن الفنون تبقى شاهدةً على تلك التجارب التي اختار أصحابها العزف المنفرد وسط الضجيج. وبرغم ضبابية الرؤية، والاشتباك الدولي الحاد على امتداد الصحراء الليبية، تظل موسيقى الجماهيرية ببطلها الصريع حاضرةً، فهل تنجح في تقديم نفسها على يد وريث حاول التجديد فيها من قبل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع