قبل مئة عام ونصف، خرج أهالي دمشق في وداع قوات الجيش السوري المتجهة إلى طريق ميسلون لمواجهة الجيش الفرنسي. أشهرهم وأقدرهم كان وزير الحربية يوسف العظمة، ومشت إلى جانبه سيدة جميلة، خلعت الملاية عن وجهها وحملت البندقية على كتفها. لم تكن عسكرية، بل ذهبت إلى ميسلون بصفتها رئيسةً لفرقة النجمة الحمراء، التابعة لوزارة الحربية والمعنية بإسعاف جرحى الحرب.
غالبية الناس سرت بها، باستثناء بعض المتشددين الذين قالوا إن مكانها كامرأة يجب أن يكون في المنزل وليس في الشارع مع الرجال. ردت نازك العابد وقالت إنها اتخذت من نساء الرسول قدوة، مذكرة إنهن شاركنه في معارك الإسلام. وقد رددت عبارتها الشهيرة: "أنا ذاهبة إلى جهاد مقدس، وليس إلى مرقص".
في مراحل لاحقة من القرن العشرين كُتب عن نازك العابد، وجُسّدت شخصيتها في مسلسل "حرائر" سنة 2015.
ولدت نازك سنة 1888 في محلّة سوق ساروجا الأثري والذي يعود بناؤه إلى العهد المملوكي. كان والدها الوجيه مصطفى باشا العابد، والياً على الموصل في العهد الحميدي، أما شقيقه أحمد عزت باشا، فهو ثاني أمناء السلطان عبد الحميد الثاني. درست اللغتين الألمانية والفرنسية على يد مدرسين خصوصيين، قبل التحاقها بمدرسة أمريكية خاصة في ساروجا، كانت تملكها وتُديرها سيدة أمريكية تُدعى "ميس أثينبيرغ".
في عهد الملك فيصل (1918-1920)
نفيت نازك إلى إزمير مع أفراد أسرتها، بعد خلع السلطان عبد الحميد عن العرش، ودَرَست الزراعة في كلية روبرت الأمريكية، وهي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. عند عودتها مع زوال الحكم العثماني عن سوريا اشتركت مع الأديبة ماري عجمي في تأسيس جمعية "نور الفيحاء" التي أطلقتها نازك من دار أسرتها بدمشق. هدفت الجمعية إلى تشجيع النساء على تعلّم صنعة لتحريرهن من قيد الرجال، وأوجدت لهن مشغلاً في الغوطة الشرقية لتطوير مهارات التطريز والخياطة وحياكة السجّاد.
قالوا إن مكانها كامرأة يجب أن يكون في المنزل وليس في الشارع مع الرجال. فقالت إنها اتخذت من نساء الرسول قدوة، مذكرة إنهن شاركنه في معارك الإسلام
كما أسست مدرسة مخصصة لبنات الشهداء في طريق الصالحية، قُدمت أرضها مجاناً من قبل حاكم سوريا الجديد، الملك فيصل بن الحسين، مع معونة حكومية بقيمة 75 دينار شهرياً. حققت جمعية نور الفيحاء نجاحاً باهراً في عامها الأول، تزامناً من إطلاق جمعيات مماثلة في لبنان، كجمعية الشفقة الأرثوذكسية في بيروت، التي أوجدتها ليندا سرسق، ودار الأيتام الإسلامية للسيدة ابتهاج قدورة. وفي شباط/فبراير 1920 أطلقت الجمعية مجلّة شهرية حملت اسم "نور الفيحاء"، تولّت العابد رئاسة تحريرها، وكانت على غرار "العروس" التي أوجدتها ماري عجمي قبيل الحرب العالمية الأولى سنة 1910.
وبعدها أسست العابد فرقة النجمة الحمراء وعند تتويج الأمير فيصل ملكاً على سوريا يوم 8 آذار/مارس 1920، طلبت أن يُخصص جناحاً خاصاً لها ولرفيقاتها في سينما زهرة دمشق المجاورة لدار البلدية بساحة المرجة، ليتمكن من مشاهدة الحفل باسم جمعية نور الفيحاء وفرقة النجمة الحمراء.
ميسلون
وعند اقتراب الجيش الفرنسي من العاصمة دمشق نزلت إلى الميدان مع يوسف العظمة، ببزتها العسكرية. تمركزت نقطة الإسعاف التي كانت تشرف عليها العابد عند مدخل منطقة الديماس القريبة من ميسلون، وقد حاولت أن تنقذ حياة العظمة عند إصابته قرابة الساعة العاشرة صباحاً يوم 24 تموز/يوليو 1920، ولكن إصابته كانت قاتلة. شبهها البعض بالشاعرة والمقاتلة خولة بنت الأزور، وأثّرت قصتها بالكاتبة البريطانية روزيتا فوربز، التي وضعت رواية مستلهمة من حياة العابد بعنوان Quest: The Story of Anne، صدرت في لندن بعد أقل من سنتين على معركة ميسلون.
منحة للدراسة في أمريكا
في نيسان/أبريل 1922 وبعد سنتين من فرض الانتداب الفرنسي على سوريا، ظهرت العابد سافرة أمام الدبلوماسي الأمريكي شارل كراين، الذي جاء إلى دمشق للوقوف على حال الشعب السوري تحت الحكم الفرنسي. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ترفع فيه العابد الحجاب عن وجهها بحضور كراين، فقد فعلتها من قبل، سنة 1919، عندما كان كراين في سوريا مع زميله هنري كينغ، ضمن لجنة "كينغ كراين" المرسلة من قبل الرئيس وودرو ويلسون. وقد ظهرت بتلك الصورة الجريئة أمامه بحضور والدها مصطفى باشا العابد وابن عمها محمد علي العابد، الذي انتخب بعد سنوات أول رئيس للجمهورية السورية.
في كلتا المرتين، رافق الزعيمُ الوطني الدكتور عبد الرحمن الشهبندر السيدَ كراين، مترجماً ومستشاراً، وفي زيارته الثانية لدمشق، قدم الدبلوماسي الأمريكي منحة دراسية إلى الشهبندر، طلب منه أن تذهب المنحة إلى فتاتين سوريتين ترغبان في إكمال دراستهما الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية.
قرر الشهبندر أن تكون المنحة الأولى من نصيب نازك العابد وأن تذهب الثانية لأليس بنت متري قندلفت، أحد مؤسسي مجمع اللغة العربية. رفضت العابد المنحة، نظراً لصعوبة السفر إلى الولايات المتحدة وكثرة مشاغلها في سوريا، ورشحت مُدرسة من عائلة الرهونجي بدلاً عنها، كانت تعمل في مدرسة بنات الشهداء، إلا أن الفرنسيين قاموا باعتقال الشهبندر فور مغادرة الضيف الأمريكي، بتهمة تقاضي أموال من دولة أجنبية لقلب نظام الحكم في سوريا، كما منعوا المُدرّسة (الرهونجي) من السفر.
رتبّت نازك العابد مظاهرة نسائية كبيرة على أبواب قلعة دمشق، حيث كان الشهبندر معتقلاً مع رفاقه. ردت عليها سلطة الانتداب بعنف مفرط، ولكنها رفضت المغادرة وهي تصرخ: "عاشت سوريا حرّة مستقلة، يعيش الشهبندر... تسقط فرنسا"
أمّا أليس قندلفت، فقد قبلت المنحة وذهبت إلى جامعة كولومبيا، ثم عادت لتعمل مدرسة في الجامعة الأمريكية في بيروت وتؤسس صالوناً أدبياً في منزلها بدمشق، حضرته العابد، ودارت فيه نقاشات فكرية عن الدين والعلمانية والسياسة.
رتبّت نازك العابد مظاهرة نسائية كبيرة على أبواب قلعة دمشق في نيسان/أبريل 1922، حيث كان الشهبندر معتقلاً مع رفاقه. شاركت بها سبعون سيدة، تتقدمهن سارة مؤيد العظم، زوجة الشهبندر مع زوجات شهداء 6 أيار/مايو الذين أُعدموا من قبل العثمانيين قبل ست سنوات. جلن على الأسواق في طريقهن إلى القلعة، حاملات مناديلَ بيضاء وصورةً للشهبندر وزملائه المعتقلين. ردت سلطة الانتداب بعنف مفرط وقامت بتفريق المتظاهرات بالقوة، ولكن نازك العابد رفضت المغادرة وهي تصرخ: "عاشت سوريا حرّة مستقلة، يعيش الشهبندر... تسقط فرنسا".
نازك بك
في منتصف العشرينيات تزوجت نازك من الوجيه اللبناني محمد جميل بيهم، النائب والأديب ورئيس مجمع اللغة العربية في لبنان، وانتقلت للعيش معه في بيروت، وآخر نشاط لها في سوريا كان كتابة مجموعة من المقالات عن تطوير الزراعة في الغوطة ورعاية الأبقار، كما أسست جمعية "يقظة المرأة الشامية" مع عادلة بيهم الجزائري وريما كرد علي سنة 1927.
لم ترزق نازك بأولاد وتبنت طفلة صغيرة من غوطة دمشق، علمتها في جامعة بيروت الأمريكية، ولكن نشاطها المجتمعي لم يتوقف.
في المرحلة اللبنانية، أسست عصبة المرأة العاملة في بيروت وجمعية "إخوان" الثقافة. وبعد حرب فلسطين أنشأت جمعية تأمين اللاجئ الفلسطيني وانتخبت رئيسة لمجلس إدارتها. نطراً لصلابتها وفصاحتها وقوة شخصيتها، عُرفت العابد في لبنان باسم "نازك بك" لا "نازك خانم". وقد توفيت في بيروت في زمن الوحدة السورية المصرية سنة 1959، ونقل جثمانها إلى دمشق ليوارى الثرى في مدافن آل العابد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 19 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...