لم يتفق المصريون على إنسان مثلما اتفقوا على حبّ وتبجيل السيدة العذراء مريم. في أغلب القرى والمدن في مصر، هناك كنيسة تحمل اسمها. تقام لها الموالد في كل الأديرة والكنائس، يزورها مسيحيون ومسلمون من كل الطوائف والأطياف. اسم "مريم" هو الاسم الأشهر بين البنات المصريات على مرّ السنين.
وفي مثل هذه الأيام من كل عام، تأتي ذروة الاحتفال الشعبي للمصريين بالسيدة مريم "أم النور"، طوال خمسة عشر يوماً، تبدأ من السابع من شهر آب/ أغسطس، وحتى الثاني والعشرين من نفس الشهر، هي مدّة صوم السيدة العذراء، حسب المعتقد الأرثوذكسي المصري.
لكن ما يحدث في الحقيقة لا علاقة لها بطائفة دينية بعينها فقط، بل يمتدّ ليكون كرنفالاً شعبياً في حب "الأم المقدّسة"، عمره من عمر المصريين تقريباً، ويمتد في جذور الشخصية المصرية، منذ أيام الأم إيزيس. ولم يعد مستغرباً مشاهدة النساء المحجّبات والمنتقبات بصحبة أسرهن في موالد العذراء مريم المنتشرة في ربوع مصر، يزرن الكنائس ويتبركن بالعذراء ويحتفلن مع غيرهن بـ "أم النور"، ويشترين صورها ودلايات تحمل صورها لتعليقها على صدورهن أسفل الحجاب.
دائماً ما أتخيل صورة العذراء مريم بنفس ملامح السيدة زينب والأم إيزيس. هناك رابط كبير بين سيرة النساء الثلاث، كأنه خيط غير مرئي يربط المصريين بهم جميعاً، دون أن نشعر حتى، صلة تتجلى فيها قداسة الأم وعظمة تضحياتها وتبجيلها
وفي دير العذراء، في جبل درنكة بأسيوط، تتجلّى هذه المظاهر بصورة أكبر هذه الفترة، فالجميع هنا في حب "ستنا مريم". وبالنسبة لي لا تدهشني هذه المشاهد، لأنني تربيت عليها هنا في الصعيد، وأعرف سيدات مسلمات من أمهاتنا كبار السن، يحرصن على صوم العذراء مريم كل عام. ولا يمكن أن أنسى جارتنا، الحاجة فاطمة، التي كانت كلما دخلت بيتنا وشاهدت صورة العذراء مريم تبكي ابنها المصلوب، كانت تشاركها البكاء والنحيب والدعاء على الأشرار قساة القلب.
في بداية المرحلة الابتدائية، اكتشفت مبكراً التشابه الكبير بين قصتي "إيزيس وحورس" في الميثولوجيا المصرية القديمة، و"العذراء والمسيح" في الديانة المسيحية. يوم رأيت جدارية ضخمة جميلة على أحد جدران المدرسة الابتدائية الحكومية في قريتي، مرسوم عليها أم تحتضن طفلها الصغير، ونُقش تحتها كلمات بلغة اعتقدت أنها القبطية، مثلما تصوّرت أن الصورة تجسّد العذراء مريم وطفلها يسوع، قبل أن يشرح لي أخي الأكبر، أن الجدارية للإلهة المصرية إيزيس وهي تحتضن طفلها حورس، كما تشير اللغة الهيروغليفية أسفل الجدارية.
لكنك سترى نفس الوجوه الخاشعة المترجية أمام الأيقونات الأثرية، يدعون ويتشفعون بالعذراء مريم أن تحن عليهم وتشفي أمراضهم، وتقوي الضعيف وتفرح الحزانى. نفس الأجواء الاحتفالية للبسطاء والمساكين الساعين إلى البهجة والتطّهر الروحي في كل موالد الأولياء والقديسين. ملحمة مصرية شعبية لا يعرفها سوى من شارك فيها يوماً، ليتأكد أنه مهما انتشرت الأفكار التي تحرّم الموالد وإقامتها فلن يمكنه الانتصار على عشق الأغلبية لهذه الموالد وأصحابها، وأنها تمثل جزءاً هاماً من ارتباطهم بالدين نفسه.
في مثل هذه الأيام من كل عام، تأتي ذروة الاحتفال الشعبي للمصريين بالسيدة مريم "أم النور"، طوال خمسة عشر يوماً، هي مدّة صوم السيدة العذراء، حسب المعتقد الأرثوذكسي المصري
بعد سبعة قرون أخرى، جاءت سيدة ثالثة من صحراء الجزيرة العربية، تستجير بمصر والمصريين، وهي السيدة زينب، حفيدة الرسول، التي حضرت إلى مصر بصحبة أطفال شقيقها المغدور به الحسين في حادثة كربلاء، وباركت "أم هاشم" مصر، وأقامت بها حتى وفاتها ودفنها في مقامها الشهير بوسط القاهرة. وقد عشقها المصريون والتفّوا حولها وناصروها، ولقبوها بـ "أم العواجز" ونصيرة الضعفاء، ويُقام لها مولد شهير في مسجدها بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة، يحضره مئات الآلاف من المريدين كل عام، من بينهم مسيحيون أيضاً.
وعندما تعرّفت على موالد السيدة زينب والحسين، وبدأت في ارتيادها، ذُهلت من أوجه التشابه حد التطابق بين موالد العذراء والسيدة، وعلاقة المريدين بهما. رائحة البخور في المقام هو بعينه في صحن الكنيسة الأثرية، الإضاءة والبراويز حول الأيقونات والرفات، خشوع الجموع في رحاب السيدتين، مئات الأوراق المحشورة في البراويز وملقاة داخل الصناديق الزجاجية، وفيها سطّر كل منهم أمنياته وأحلامه وصلواته للشفاعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...