شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أتخيّل دوماً صورة العذراء مريم بنفس ملامح السيدة زينب والأمّ إيزيس

أتخيّل دوماً صورة العذراء مريم بنفس ملامح السيدة زينب والأمّ إيزيس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 17 أغسطس 202311:11 ص

لم يتفق المصريون على إنسان مثلما اتفقوا على حبّ وتبجيل السيدة العذراء مريم. في أغلب القرى والمدن في مصر، هناك كنيسة تحمل اسمها. تقام لها الموالد في كل الأديرة والكنائس، يزورها مسيحيون ومسلمون من كل الطوائف والأطياف. اسم "مريم" هو الاسم الأشهر بين البنات المصريات على مرّ السنين.

وفي مثل هذه الأيام من كل عام، تأتي ذروة الاحتفال الشعبي للمصريين بالسيدة مريم "أم النور"، طوال خمسة عشر يوماً، تبدأ من السابع من شهر آب/ أغسطس، وحتى الثاني والعشرين من نفس الشهر، هي مدّة صوم السيدة العذراء، حسب المعتقد الأرثوذكسي المصري.

لكن ما يحدث في الحقيقة لا علاقة لها بطائفة دينية بعينها فقط، بل يمتدّ ليكون كرنفالاً شعبياً في حب "الأم المقدّسة"، عمره من عمر المصريين تقريباً، ويمتد في جذور الشخصية المصرية، منذ أيام الأم إيزيس. ولم يعد مستغرباً مشاهدة النساء المحجّبات والمنتقبات بصحبة أسرهن في موالد العذراء مريم المنتشرة في ربوع مصر، يزرن الكنائس ويتبركن بالعذراء ويحتفلن مع غيرهن بـ "أم النور"، ويشترين صورها ودلايات تحمل صورها لتعليقها على صدورهن أسفل الحجاب.

دائماً ما أتخيل صورة العذراء مريم بنفس ملامح السيدة زينب والأم إيزيس. هناك رابط كبير بين سيرة النساء الثلاث، كأنه خيط غير مرئي يربط المصريين بهم جميعاً، دون أن نشعر حتى، صلة تتجلى فيها قداسة الأم وعظمة تضحياتها وتبجيلها

وفي دير العذراء، في جبل درنكة بأسيوط، تتجلّى هذه المظاهر بصورة أكبر هذه الفترة، فالجميع هنا في حب "ستنا مريم". وبالنسبة لي لا تدهشني هذه المشاهد، لأنني تربيت عليها هنا في الصعيد، وأعرف سيدات مسلمات من أمهاتنا كبار السن، يحرصن على صوم العذراء مريم كل عام. ولا يمكن أن أنسى جارتنا، الحاجة فاطمة، التي كانت كلما دخلت بيتنا وشاهدت صورة العذراء مريم تبكي ابنها المصلوب، كانت تشاركها البكاء والنحيب والدعاء على الأشرار قساة القلب.

في بداية المرحلة الابتدائية، اكتشفت مبكراً التشابه الكبير بين قصتي "إيزيس وحورس" في الميثولوجيا المصرية القديمة، و"العذراء والمسيح" في الديانة المسيحية. يوم رأيت جدارية ضخمة جميلة على أحد جدران المدرسة الابتدائية الحكومية في قريتي، مرسوم عليها أم تحتضن طفلها الصغير، ونُقش تحتها كلمات بلغة اعتقدت أنها القبطية، مثلما تصوّرت أن الصورة تجسّد العذراء مريم وطفلها يسوع، قبل أن يشرح لي أخي الأكبر، أن الجدارية للإلهة المصرية إيزيس وهي تحتضن طفلها حورس، كما تشير اللغة الهيروغليفية أسفل الجدارية.

للأسف هُدمت المدرسة اليوم، وتمّ بناء غيرها حديثة، جدرانها تحوي رسومات قبيحة. عندما كبرت اكتشفت أن التشابه بين إيزيس والعذراء لم يكن فقط في الصورة، ولكن في الأحداث والأهوال التي جرت للمرأتين، وكيف واجهتا الشر وانتصرتا عليه، بواسطة الابن المخلص. والأهم من ذلك، اكتشفت الصلة الوثيقة بين المصريين والسيدتين المبجلتين. إيزيس أم الآلهة، الزوجة المخلصة والأم الحنون، التي تلجأ إلى المصريين لتجميع أشلاء زوجها أوزوريس، ويساعدها المصريون في الاختباء حتى تكتمل مهمتها في جمع جسد زوجها، وتنجب منه حورس، الذي يسعى يكبر وينتقم لموت أبيه من عمه ست، حسب أشهر أسطورة في الحب والوفاء في العالم، لثالوث طيبة المقدس، لذلك لم يكن مستغرباً أن تستمر عبادة إيزيس في مصر، وبعض دول حوض المتوسط، حتى القرن السادس الميلادي.
وبعد انتشار المسيحية تحولت الاحتفالات والتبجيل للأم المقدسة في صورة العذراء مريم، أم الابن الفادي المخلّص، التي هربت بطفلها يسوع من وجه الوالي الروماني هيرودس ، واحتمت العذراء بمصر طيلة ثلاث سنوات، تجولت خلالها في كل أنحاء مصر شمالاً وجنوباً، وطبعت آثار أقدامها هي والمسيح في أماكن صارت أديرة وكنائس عامرة تحمل اسمها، تعدّ اليوم الأماكن الأبرز للزيارات والاحتفالات الشعبية، لاسيما في الصعيد الذي يحتوي على أهم أديرة العذراء في مصر والعالم، بداية من "جبل الطير" بسمالوط، ودير "المحرق" بالقوصية، وأخيرا دير "العذراء" بجبل درنكة في أسيوط، آخر محطات العائلة المقدسة في مصر.
لا أعرف كم مرة زرت فيها دير درنكة. فبسبب قربه نسبياً من محل إقامتي بمدينة ملوي، تتكرّر الزيارة كل عام بصحبة أسرتي طوال عمري، خلال شهر آب/ أغسطس الساخن. كان أبي يختار المبيت في الليلة الختامية للمولد، ونذهب بسيارة نصف نقل مفتوحة ونصعد جبل درنكة لنصل الدير، ونشارك مئات الألوف من الزوار، مسلمون ومسيحيون، ومئات البائعين من الغجر يحولون ليل المولد نهار. بأضواء ألعابهم وبضائعهم المعروضة. يختلف مولد درنكة كثيرا عن موالد السيدة العذراء في باقي أديرتها الشهيرة، لرحابة الساحة المفتوحة في الجبل حول الدير، الواقع في قرية سكانها من المسلمين بالكامل.

لكنك سترى نفس الوجوه الخاشعة المترجية أمام الأيقونات الأثرية، يدعون ويتشفعون بالعذراء مريم أن تحن عليهم وتشفي أمراضهم، وتقوي الضعيف وتفرح الحزانى. نفس الأجواء الاحتفالية للبسطاء والمساكين الساعين إلى البهجة والتطّهر الروحي في كل موالد الأولياء والقديسين. ملحمة مصرية شعبية لا يعرفها سوى من شارك فيها يوماً، ليتأكد أنه مهما انتشرت الأفكار التي تحرّم الموالد وإقامتها فلن يمكنه الانتصار على عشق الأغلبية لهذه الموالد وأصحابها، وأنها تمثل جزءاً هاماً من ارتباطهم بالدين نفسه.

في مثل هذه الأيام من كل عام، تأتي ذروة الاحتفال الشعبي للمصريين بالسيدة مريم "أم النور"، طوال خمسة عشر يوماً، هي مدّة صوم السيدة العذراء، حسب المعتقد الأرثوذكسي المصري

بعد سبعة قرون أخرى، جاءت سيدة ثالثة من صحراء الجزيرة العربية، تستجير بمصر والمصريين، وهي السيدة زينب، حفيدة الرسول، التي حضرت إلى مصر بصحبة أطفال شقيقها المغدور به الحسين في حادثة كربلاء، وباركت "أم هاشم" مصر، وأقامت بها حتى وفاتها ودفنها في مقامها الشهير بوسط القاهرة. وقد عشقها المصريون والتفّوا حولها وناصروها، ولقبوها بـ "أم العواجز" ونصيرة الضعفاء، ويُقام لها مولد شهير في مسجدها بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة، يحضره مئات الآلاف من المريدين كل عام، من بينهم مسيحيون أيضاً.

وعندما تعرّفت على موالد السيدة زينب والحسين، وبدأت في ارتيادها، ذُهلت من أوجه التشابه حد التطابق بين موالد العذراء والسيدة، وعلاقة المريدين بهما. رائحة البخور في المقام هو بعينه في صحن الكنيسة الأثرية، الإضاءة والبراويز حول الأيقونات والرفات، خشوع الجموع في رحاب السيدتين، مئات الأوراق المحشورة في البراويز وملقاة داخل الصناديق الزجاجية، وفيها سطّر كل منهم أمنياته وأحلامه وصلواته للشفاعة.

دائماً ما أتخيل صورة العذراء مريم بنفس ملامح السيدة زينب والأم إيزيس. هناك رابط كبير بين سيرة النساء الثلاث، كأنه خيط غير مرئي يربط المصريين بهم جميعاً، دون أن نشعر حتى، صلة تتجلى فيها قداسة الأم وعظمة تضحياتها وتبجيلها.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image