شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"المسعود"... ميراث أبي الثقيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 31 يوليو 202312:33 م

ليست عندي صورة واضحة لأبي الذي توفي قبل نصف قرن بالتمام والكمال. أنا لا أستطيع أن أرسم له "بروفايلاً" محدد المعالم، وهذا أمر أكثر من رائع بالنسبة لي، فالغموض الذي أحاط بشخصيته في السنوات التي أعقبت رحيله أراحني كثيراً، لأنني عندما استحضرته في روايةٍ لي، بموجب مذكرة أدبية، وليست عاطفيةً، وجدت أنه قد حضر فيها بأشكال وأطياف متعددة، مما سمح للخيال بفرد سلطانه على ما كتبت. وما كان ممكناً أن أستفرد بجبروته لولا هذا الغموض الذي غرقت فيه شخصياً أكثر من بقية إخوتي الذكور على ما أعتقد، إذ كنت الأصغر بينهم، وهذه ميزة كانوا يغبطونني عليها دون أن أعرف السبب.

الآن، عندما أحاول مثلاً أن أعيد الاستماع "معه" إلى إحدى أغانيه المفضلة، وأنا أفترض أن كل إنسان في هذا الوجود، لديه مغنّ ومغنية وأغنيات، يلجأ إليهم في ساعات الفرح والشدّة، فلا أجد شيئاً قد علق في ذاكرتي من ميوله العاطفية والوجدانية. كل ما أتذكره منه هو إدمانه الاستماع إلى هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، و"صوت العدو الإسرائيلي" من أورشليم القدس، من مذياع خشبي يطلقون عليه العين الساحرة.

لا أجد شيئاً قد علق في ذاكرتي من ميوله العاطفية والوجدانية. كل ما أتذكره منه هو إدمانه الاستماع إلى هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، و"صوت العدو الإسرائيلي" من أورشليم القدس، من مذياع خشبي يطلقون عليه العين الساحرة

وعندما توظَّف شقيقاي تباعاً في إذاعة دمشق، بدأ يستمع إليهما فقط، ويتجنب الاستماع إلى أي نشرة أخبار كاذبة من إذاعة البعثيين لا يقرأها ابنه الأكبر داوود، الذي قال لي إن أبانا قد انتظر خروجه من مبنى الإذاعة في ساحة الأمويين بعد قراءة أول نشرة أخبار له بصوته، وقام بصفعه عند البوابة، وقد استقبل هو الصفعة بابتسامة حانية، فقد كانا على خلاف، لأنه فهم أنه إنما كان يصالحه بطريقته في منتصف الطريق، وكان يتوَّجب عليه أن يقوم بالخطوة التالية، فيزوره في البيت.

كان يبدو في غموضه كأن قد "زهق" من حياته، وربما كانت لديه ميول انتحارية غير واعية. مع آخر "احتشاء" لعضلة قلبية تعرَّض له، بدا واضحاً أنه لم يعد يطيق العيش أكثر من ذلك، فقد ماطل طويلاً قبيل نقله إلى مستشفى المجتهد، إذ طلب من زوج إحدى قريباتنا الذي نقله بسيارته الخاصة، أن يذهب به إلى حارة اليهود أولاً، لينقلا معهما أخي الأكبر الذي انتقل للعيش فيها، وقد لفظ أنفاسه قبيل شروق الشمس بقليل، وهو ممدد على المقاعد الخلفية، وقبل بلوغ المستشفى. قيل لي في وقت لاحق، عندما بدأت أتقصى بعض جوانب شخصيته، إنه كان الأكثر وسامةً بين إخوته في طيرة حيفا قبل اللجوء، وكان يقضي معظم وقته على فرس، كابن مدلل لعائلة صغيرة من عائلات القرية، وقادني هذا الاستقصاء في وقت لاحق إلى معرفة مسقط رأس عائلة أبي، فهي قدمت من جبع إلى الطيرة، ولم تكن من سكانها الأصليين، وهذا قد يفسر في جانب منه عدم امتلاكها أطياناً وأراضي، بعكس عائلة أمي التي كانت تنتمي إلى حامولة كبيرة مكوّنة من عائلات عباس وزيدان والفهد.

في دمشق، أقام ردحاً من الزمن مع أولاده وزوجته الأولى في جامع الجرّاح. كانت تفصلهم عن العائلات الأخرى التي اتّسع لها المكان بطانيات فقط. لم تكن هناك حيطان، وكان في وسع الجميع أن يتلصص على الجميع بالرغم من كل الظروف السيئة التي تحيط بالجميع، ولم يكن أبي أو إخوتي بعيدين عما يحدث لهم من وعكات صحية ونفسية صارت تتراكم ببطء فوق بعضها، وتفعل فعلها فيهم.

وجد نفسه فجأةً يعمل مياوماً في أعمال أمانة العاصمة التي تشدّ من يعمل فيها إلى القاع، فتذرو كبرياءه مع الرياح، ومن الواضح بحسب إخوتي على الأقل أنه كان صاحب كبرياء وعزة نفس لا توصفان، ولقد هزمه عمله، فأصبح يمتلك سحنةً قاسيةً متجهمةً، وأنا لا أذكر منه سوى هذه الملامح، الغاضبة، الناقمة على كل شيء من حولها، فلم أرَه يضحك أو يبتسم ولو لمرة واحدة.

أذكر صورته، وهو يقوم بذلك بجلاء ووضوح كاملين، ودائماً كانت تغيب صوره الأخرى وراء سحب من الدخان الذي لا يمتلك لوناً محدداً إلا صورته تلك.

وعندما توَّظف في هيئة الأركان السورية كمستخدَم مدني، كان يغادر إلى عمله مشياً من مخيم اليرموك إلى ساحة الأمويين بعد صلاة الفجر، ويعود مشياً بعد الظهر بقليل. لم يركب سيارةً قط إلى مكان عمله حتى وفاته، قبيل حرب 1973 بقليل، وعندما ذهبت أمي لتستلم تعويضاته، قيل لها إن هناك من استلمها قبلها، وحتى اللحظة لا أحد منَّا يعرف من هو الشخص المجهول الذي سبقنا إليها، ولم يتبرع أحد بالإشارة إليه، أو حتى بمحاولة كشفه على الأقل.

الذي أذكره "شاقولياً" وعمودياً من سيرة محمود يعقوب، هو شغفه بصنع "المسعود". قلَّة تتذكر هذا السلاح الرهيب، الذي كان يتفرغ لصنعه شهراً كاملاً بدقة وصبر عجيبين، فمعظم من عاصروه، إما غادروا الدنيا إلى الآخرة، أو انتقلوا للعيش في أمكنة أخرى، وتلاشت ذكرياتهم عنه حتى أنه لم تبقَ منه سوى نتفٍ أو مزق صغيرة بائسة في رفوف الذاكرة التحتانية، وأنا أعتقد جازماً أن أحداً غيره لم يصنع منه نسخته المحببة إلى قلبه كما فعل هو. ربما كانت قصيدته الأثيرة التي كتبها بطريقته، أو مجازه الذي لا يُسترد، ولم يدوّن أحد من حوله كيف اكتشف طريقة صنعه، أو من أين أتى بفكرته أساساً.

كان السلاح الذي يرهب به "أعداءه"، أو من "يشذّ" من أفراد العائلة عن الخطوط الحمر التي رسمها شفاهياً بكلمات مقتضبة، ولم يكن يتوَّرع عن استخدامه في ردع من يتعدَّى على أهل حارة مفلح السالم من "أغراب" كانوا يجيئون من الأحياء المجاورة لاستعراض عضلاتهم، وتفتيل شواربهم أمام عوائل اللاجئين البؤساء.

روى لي أخي الأكبر أنه في أثناء انقلاب العقيد جاسم علوان، في تموز/يوليو 1963، أي بعد ولادتي بأربعة أشهر، وكان يُعدّ أول محاولة انقلابية بعد استلام حزب البعث مقاليد السلطة في سوريا، أنه سرى يومها حظر تجول في مخيم اليرموك، وانتشرت بعض وحدات الجيش في شوارعه، إلا أبي فقد عنَّ على باله بمزاجه المعهود أن يجلس على حائط واطئ مطلّ على الشارع الرئيسي في المخيم، وهو يتنكب "المسعود" على كتفه، مثل ساموراي طيراوي محارب (نسبةً إلى الطيرة)، وكاد أن يتقاتل مع جندي سوري مسلّح لولا تدخّل بعض الجيران وفضّ النزاع بينه وبين الوحدة العسكرية المكلفة بالإشراف على سريان حظر التجول.

كان يصنع "المسعود" برهافة صائغ ذهب، ولا يعرف أحد منَّا كيف أطلق عليه هذا الاسم. أذكر صورته، وهو يقوم بذلك بجلاء ووضوح كاملين، ودائماً كانت تغيب صوره الأخرى وراء سحب من الدخان الذي لا يمتلك لوناً محدداً إلا صورته تلك، وهو يقتادني أحياناً إلى دكان الجزَّار أبو جميل ليشتري 2 كيلو لحم عجل طازج، من أجل الكفتة التي يعدّها بشكل شبه يومي، وليأخذ منه كيساً ورقياً فيه مشروع سلاح الدمار الشامل، كان قد طلبه منه.

لم يكن صعباً علينا أن نعرف محتوى الكيس، ففي كل شهر من أشهر الصيف كان يحضر "التوصاية"، وكانت أمي أكثر من يتوَّجس فينا حين تراه، وهو يحرّك حجر صوان أسود ثقيل من تحت شجرة التوت الضخمة التي كانت تتوسط باحة الدار.

كان صاحب كبرياء وعزة نفس لا توصفان، ولقد هزمه عمله، فأصبح يمتلك سحنةً قاسيةً متجهمةً، وأنا لا أذكر منه سوى هذه الملامح، الغاضبة، الناقمة على كل شيء من حولها، فلم أرَه يضحك أو يبتسم ولو لمرة واحدة

ما رُسم قد رسم بالفعل، وصار "المسعود" أمراً واقعاً. صار قصيدتنا اليومية التي يقرأها كل واحد منَّا على هواه، فقد كان يُخرج قضيب الثور من الكيس، بطول 60 إلى 70 سنتيمتراً تقريباً، ويعلّقه بمسمار ضخم بجانب الشجرة، ويقوم بربطه بالحجر الثقيل من تحت، ويتولى دهنه يومياً بزيت الزيتون، فيما تلفحه شمس الصيف القوية التي كانت تسمح له بصناعة ثلاث أو أربع نسخ من سلاحه الرهيب في كل عام.

بعد شهر من تعريضه للشمس (كانت عاملاً أساسياً في صنعه)، وصقله اليومي بزيت الزيتون، وشدّه بحجر الصوّان الذي كان يُستخدم في رصف الشوارع، يصبح قضيب الثور بطول 80 إلى 90 سنتيمتراً، ومرناً مثل "الشنتيانة"، السيف المعدني المصنوع من الفولاذ، الذي يمكن تطويق خصر الإنسان به.

أنا شخصياً لم أجرّب العقاب بـ"المسعود". ربما كان يشفق عليَّ بسبب حالتي الصحية المتردية، أما أخي الأكبر مني بسنتين فقد جرَّبه، إذ نال ضربةً واحدةً به، وبقيت علامته على فخذه أكثر من عام. كانت زرقاء كحليةً، والغريب أنه كلما عتق "المسعود" مع مرور الوقت، كلما خفَّ وزنه، وأصبح فعالاً أكثر.

لقد تسبب "المسعود" بهرب أحد أشقائي إلى الأردن، ليلتحق بقواعد الفدائيين الفلسطينيين هناك، ومن وقتها تغيَّر مجرى حياته كلها!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image