على مرّ الأجيال، يبرز الاستشهاد كأحد أهم الأركان التي قامت عليها المسيحية، وتحفظ الكنيسة تراثاً قوياً من حيث قصص الشهداء أو التراتيل والمدائح التي تمجد هذه الدماء الشجاعة.
بل يرى أوريجانوس السكندري، أن الاستشهاد واحد من سبعة طرق لمغفرة الخطايا، وفي التقليد الكنسي يصل الأمر إلى حد اعتبار الشهادة مساويةً لسرّ المعمودية، وتُسمّى "معمودية الدم"، وتشير إلى أن أي إنسان في نيته نوال المعمودية، ولم يستطع بسبب هجوم وحشي عليه فجاهر بمسيحيته وقُتل، يكون قد تعمّد بدمه.
وقد مهّد المسيح لفكرة الاضطهاد منذ وجوده على الأرض: "إن كان العالم يبغضكم فأعلموا أنه قد أبغضني قبلكم"، وظل يعلّم عن ضرورة مقابلة الشرّ والعنف بالسلام والصلاة: "أحبّوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم". ومن بعده رسّخ الرسل والتلاميذ للفكرة ذاتها، فنجد بولس الرسول الذي استشهد في عصر الإمبراطور نيرون، يعلّم ويحمّس المؤمنين في رومية: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم سيف؟"، وبدوره يؤكد على عدم المقاومة فيقول: "باركوا الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا".
في التقليد الكنسي يصل الأمر إلى حد اعتبار الشهادة مساويةً لسرّ المعمودية، وتُسمّى "معمودية الدم"
مقاومة دينية ووطنية
كان السيد المسيح الشهيد الأول الذي جاهر بأفكاره أمام اليهود والرومان، فعذّبوه وقتلوه، ومن بعده بدأ شلال دم لا ينضب، ولذلك كلمة "التعذيب" لها وقع على المسيحيين اعتيادي، فهي ليست كلمةً دخيلةً أو غير مألوفة، فالكنيسة القبطية هي أول كنيسة يقوم تقويمها على الدم، وعلى ذكرى الشهداء وحوادث تعذيبهم، وهي وحيدة في ذلك، حيث يبدأ التقويم القبطي للشهداء، وهو مستمد من التقويم المصري القديم، من عام 284 م، أي منذ بداية حكم الطاغية الروماني دقلديانوس، الذي اشتهر عصره بالتنكيل بالمسيحيين والاستشهاد، في كل الأرجاء أكثر من أي إمبراطور روماني آخر.
شهداء المسيحية في غالبيتهم ينتمون إلى عصر الدولة الرومانية بحكامها المختلفين وبوتيرة عنف متغيّرة على مر 300 عام تقريباً، وفي دول متنوعة أبرزها روما وفلسطين وسوريا ومصر، وعلى وجه التحديد يوثّق العلّامة "ترتليان" الوضع في مصر فيقول: "لو أن شهداء العالم كله وُضعوا في كفة ميزان وشهداء مصر في الكفة الأخرى، لرجحت كفة المصريين"، في إشارة إلى الواقع الأسود الذي عانى منه أقباط مصر إبان حكم الدولة الرومانية حيث اضطُهدوا كأعداء سياسيين للإمبراطورية، وكمسيحيين من أجل ديانتهم، وقد تمسّك أقباط مصر بعقيدتهم كنوع من أنواع المقاومة الوطنية ضد سياسة المحتل الروماني.
أبرز جرائم الرومان ضد المسيحيين
يقسم مؤرّخو الكنيسة عصر الاضطهاد الروماني إلى عشر حلقات، تبدأ من حكم نيرون عام 64 م، وتنتهي بمرسوم ميلانو الذي أصدره قسطنطين الملك عام 313 م.
نيرون (37-68 م)
نيرون هو آخر إمبراطور من السلالة اليوليو-كلودية. وصل إلى العرش لأنه كان ابن كلوديوس بالتبنّي ويُعدّ أشهر الأباطرة بسبب ارتباط اتهام حرق روما به. اختلف المؤرخون حوله، فمنهم من ذكر تمتّعه بظهير شعبي قوي وتقديم المساعدات والأعمال الخيرية، ومنهم من أكد على نزعته الدموية التي دفعته إلى قتل كل انسان يشعر بأنه يهدد عرشه، لذلك كان نيرون أول روماني اضطهد المسيحيين. وبحسب يوسابيوس القيصري، كاتب تاريخ الكنيسة والذي كان شاهد عيان على فترة ليست بقليلة من حكم الرومان فإن نيرون كان سفّاحاً، وقد اتّبع أساليب تعذيب ضد المسيحيين معظمها كانت في إطار الصلب وقطع الرأس.
فبحسب ترتليانوس، قُطع رأس بولس الرسول في عهده، وصُلب بطرس الرسول حتى الموت. كما تفنن في اختيار أنواع من التعذيب غايتها الأولى التحقير والإذلال. يقول تاسيتوس، وهو مؤرخ معاصر لنيرون: "ألقى نيرون الذنب على فئة مكروهة تدعوهم العامة بالمسيحيين، وأوقع بهم أشد العذاب. وإضافةً إلى قتلهم لم يسلموا من السخرية والتهكم بكل الأنواع، إذ غُطّيَت وجوههم بجلود البهائم ومزّقتهم الكلاب حتى الفناء، وكانوا يُسمّرون ويُثبّتون على الصلبان أو يُلقون إلى النيران ويُحرقون للإضاءة وتسلية الناس في الليل".
دومتيان (81-96 م)
تطور الأمر في عصر الإمبراطور الروماني دومتيان، إذ كان أول إمبراطور روماني يُصدر مرسوماً صريحاً ينصّ على عدم الإفراج عن أي مسيحي أمام أي محكمة ما لم يجحد دينه، كما كان دائم التنكيل بالمسيحيين وتحديداً في أثناء الأوبئة والمجاعات، لأنه اعتقد بأنهم سبب ذلك، واستشهد في عهده سمعان، أسقف كرسي أورشليم، وحُرق بالزيت المغلي يوحنا الرسول، ثم نُفي إلى جزيرة بطمس. واتّبع دومتيان في أغلب الأحيان أساليب مثل النفي ومصادرة الممتلكات والمساومة على ترك المسيحية أو الحرق.
ألقى نيرون الذنب على فئة مكروهة تدعوهم العامة بالمسيحيين، وأوقع بهم أشد العذاب، فإضافةً إلى قتلهم، لم يسلموا من السخرية والتهكم، إذ غُطّيَت وجوههم بجلود البهائم ومزّقتهم الكلاب حتى الفناء
تراجان (98-117 م)
هدأت وتيرة العذابات في عهد تراجان ومن بعده، فبحسب مراسلاته مع بلينيوس، وهو أديب روماني، كانت سياساته تميل إلى التسامح مع المسيحيين، لكنه في الوقت نفسه قام بالتحريم النهائي للمعتقد، وقتل البعض من أتباعه حتى يحدّ من انتشاره. وخلفه هادريان الذي اتّبع النهج نفسه.
فالريان (253-260 م)
وصل فالريان إلى الحكم بعد مقتل الإمبراطور إميليانوس، الذي حكم لمدة 3 أشهر فقط، وفي فترة كانت فيها الإمبراطورية الرومانية على حافة الهاوية بسبب الصراعات والحروب. ومنذ بداية حكمه عمل على اضطهاد المسيحيين وإجبارهم على تقديم القرابين للآلهة، وهنا يصف يوسابيوس الأمر في موسوعته تاريخ الكنيسة، بأنه نكّل بهم وجرّدهم من مناصبهم وكل من قاوم قُطع رأسه في الحال، ورمى أغلب الرجال طعاماً للوحوش، وتكرر مشهد سير المسيحيين على الأشواك والمسامير والقواقع المدببة، ومثله كان أوريليان في عام 274 م. واستقر الوضع بعده، ونعم المسيحيون بهدوء مؤقت سبق العاصفة الكبرى، التي ظهرت مع قدوم الإمبراطور الدموي.
دقلديانوس (284-305 م)
ربما لا يعرف المسيحيون اسم إمبراطور روماني مثلما يعرفون دقلديانوس، الذي يرد اسمه في معظم سير الشهداء المشهورين، مثل مار جرجس والقديسة دميانة وشهداء الكتيبة الطيبية وغيرهم من الشهداء الذين تصل أعدادهم بحسب الوثائق إلى 800 ألف شهيد من أقباط مصر فقط، إذ أصدر مرسوماً بتجريم المسيحية وحرق الكنائس والكتب المقدسة وابتكر مع معاونيه أشدّ آلات التعذيب عنفاً ودمويةً.
ربما لا يعرف المسيحيون اسم إمبراطور روماني مثلما يعرفون دقلديانوس، الذي يرد اسمه في معظم سير الشهداء المشهورين
وفي كتاب "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار"، يصف المقريزي فترة حكم دقلديانوس كالتالي: "إنه أوقع بالنصارى فاستباح دمهم، وغلق كنائسهم، وحمل الناس على عبادة الأصنام وبالغ في الإسراف في قتل النصارى، وكانت واقعته بالنصارى هي الشدة العاشرة، وهي أشنع شدائدهم وأطولها، لا يفتر يوماً واحداً يحرق كنائسهم ويعذّب رجالهم، فلهذا اتخذوا ابتداء دقلديانوس تاريخاً"، بينما تصف وثائق الكنيسة حال المؤمنين آنذاك في مشهد الموت حيث مجموعة من المسيحيين تسير حاملةً مجموعةً من الشهداء لتكفينهم ودفنهم، وفي اليوم التالي كانوا هم أنفسهم محمولين "لأن الذين كانوا ينجون من الموت كانوا بصفة مستمرة يلحقون سابقيهم".
وكان من المستحيل حصر ووصف العذابات التي تكبّدها الشهداء في مصر، لكن يذكر يوسابيوس بعضها وهي أن أجسادهم كانت تقشط بالمحار، وكانت النساء يوثقن من إحدى القدمين ويُرفعن في الجو بآلات خاصة وبأجسام عارية أمام المتفرجين، والبعض أُغرقوا في البحر، والأكثرية ماتوا بحد السيف أو تحت أيدي معذبيهم، وفي كتاب "الاستشهاد في فكر الآباء" للقمص أثناسيوس فهمي جورج، تم ذكر نحو 24 نوعاً من أنواع العذابات الدارجة آنذاك ومنها: العصر بآلة الهنبازين، السحل، الحرق، بقر بطون الحوامل، دفن الإنسان حياً، الشنق، بتر الأعضاء، السلخ، صبّ القار المغلي، الصلب والإلقاء للوحوش المفترسة.
ولا ينسى التقليد الكنسي، أريانوس، والي أنصنا، الذي كان نسخةً مصغرةً من دموية دقلديانوس، حيث قضى على قرى بأكملها في صعيد مصر، حتى أن سيوف جنوده أصابها التبلّد فاستخدموا مناجل الفلاحين في قطع الرؤوس، ومن أشهر شهداء الصعيد كانت الأم دولاجي وأولادها، حيث أنهم جاهروا أمام أريانوس بمسيحيتهم، فأمر بأن تجلس دولاجي ويُقتل على ركبتيها أولادها واحداً تلو الآخر إمعاناً في القسوة.
وهكذا غرقت أرض مصر بدماء الشهداء إلى أن تبدّل الحال وحكم الإمبراطور قسطنطين، وهو أول أباطرة الرومان المسيحيين، الذي أصدر منشور ميلانو عام 313 م، ويذكر يوسبيوس أنه بمقتضى الأمر الذي أصدره قسطنطين مُنحت الحرية الدينية كاملةً لا للمسيحيين فقط ولكن لكل إنسان، وقد عاد بناء الكنائس وارتفعت الهياكل وبدا شكلها أفخم.
الاضطهاد المذهبي
في كتاب "تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة"، يذكر عبد الرحمن الرافعي، أن السلام لم يدم طويلاً، ولم يبدِ أباطرة الرومان تسامحهم مع أقباط مصر المشتركين معهم في العقيدة نفسها، لأنهم على طائفة مختلفة عنهم، فقد استمر الاضطهاد في مصر لجميع الطوائف المسيحية عدا طائفة الحكومة، ووصل التعصب المذهبي إلى أعلى درجة في عهد هرقل، حيث حاول في مجمع خلقدونية توحيد المذاهب المسيحية كافة، وإجبار أقباط مصر على المذهب الموحَّد، فقاومه الأخيرون مقاومةً شديدةً، فلم ييأس وعيّن المقوقس بطريركاً للإسكندرية ونائباً عنه، وطلب منه فرض المذهب الموحَّد على الجميع، فاضطُهد البابا بنيامين بطريرك الكنيسة القبطية آنذاك، واضطره إلى الهرب في أديرة الصعيد، ولم يظهر حتى عام 642 م، إبان الغزو العربي لمصر، ليبدأ المسيحيون نضالاً من نوع آخر.
لا ينسى التقليد الكنسي، أريانوس، والي أنصنا، الذي قضى على قرى بأكملها في صعيد مصر، حتى أن سيوف جنوده أصابها التبلّد فاستخدموا مناجل الفلاحين لقطع الرؤوس
"يا بختهم"؛ كلمة تتردد بكثرة في الآونة الأخيرة على ألسنة أقباط مصر، عند كل اعتداء أو حادثة أمنية، وكلما سقط شهيد أو ارتقى. وهو أمر يراه البعض غير منطقي ويميل إلى نزعة مازوخية غريبة، إذ من حق الكنيسة القبطية أن تفخر بشهدائها، لكن دون ترسيخ ثقافة الموت عند أتباعها، فالحق في الحياة دون اضطهاد أو تعذيب أو قتل على الهوية من أبسط حقوق الإنسان.
هذا البعض، يخشى أن يصير الأمر نهجاً، برغم أن المسيحيين عموماً، والأقباط خصوصاً، يميلون إلى اتخاذ جانب السلم والمسالمة المتمثل في الصلاة لأرواح الشهداء والمضطهدين، مع الحديث عن المجد والأكاليل السماوية التي تنتظرهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.