لم يحقق مشروع "المخطط الأخضر" الذي اعتمده المغرب في السنوات الأخيرة كاستراتيجية للنهوض بالقطاع الفلاحي ومحركاً أساسيا للتنمية الاقتصادية، نتائج إيجابية كبيرة على مستوى معيشة المواطنين الذين يعانون من الارتفاع المهول في أثمنة المواد الغذائية والنقص الحاد في بعض المنتوجات، كما أنه لم يعد بالفائدة، بشهادة العديد من المتخصصين، إلّا على الفلاحين الكبار أو ما يعرف بـ "المعمرين الجدد" من مستثمرين في مزروعات فلاحية تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، ما تمخض عنه استنزاف الفرشة المائية وتهميش "وحدات الإنتاج الأسرية"، ودفع بالفلاحين الصغار إلى هجر أراضيهم وقراهم، والتوجه نحو المدن بحثا عن عمل آملين أن يضمن لهم العيش الكريم هم وأبناؤهم، مادام "مخطط المغرب الأخضر" الذي اعتمده المغرب منذ عام 2008 إلى 2020 لم يعط النتائج المرجوة، ما استدعى وضع مخطط آخر باسم "الجيل الأخضر" سيستمر إلى غاية عام 2030.
"مخطط فلاحيّ أسود"
مشروع "المخطط أخضر" لا يحمل من الخضرة إلا الاسم فقط، بل هو "مخطط أسود" كما عبر عن ذلك أغلب المستجوبين في استطلاع للرأي قام به "المركز المغربي للمواطنة" عبر فيسبوك، ونشرت نتائجه في الفترة الأخيرة، عبر فيه حوالى 90 في المئة من المستجوبين عن عدم رضاهم عنه. ورأت نسبة 94.2 في المئة أن المخطط لم يتمكن من خفض أثمنة المنتوجات الفلاحية، و93.9 في المئة ذكرت أن المستفيد من المخطط هم الفلاحون الكبار، فيما رأى 87.8 في المئة منهم أن النتائج المحصل عليها في إطار هذا المخطط لا تبرر الأموال العمومية التي صرفت عليه، و86.8 في المئة قالوا إنه لم ينجح في تحسين ظروف عيش سكان العالم القروي، و85.2 في المئة رأوا أنه لم يسهم في الزيادة في كمية المنتوجات الفلاحية المتوفرة في السوق الوطني، و83.7 في المئة قالوا إنه لم يحقق الأمن الغذائي الوطني، و75.1 في المئة من المشاركين أكدوا أن المخطط لم ينجح في تعبئة مصادر مائية إضافية، ثم 72.7 في المئة رأوا أن المخطط لم يتوفق في دعم الشباب لإحداث مشاريع في القطاع الفلاحي.
إذا لم يسارع المغرب في بلورة سياسة خاصة للتغذية، وإعادة النظر في النموذج الفلاحي المتبع، وتربية المواطن على نموذج غذائي جديد، فلن ننجح في الحد من المخاطر والمشاكل
غير أن رئيس الحكومة المغربي عزيز أخنوش، الذي كان "مهندس" هذا المخطط لمّا كان وزيراً للفلاحة في الحكومات السابقة، دافع عن هذا المخطط في جلسة برلمانية رداً على سؤال حول السيادة الغذائية بالمغرب قائلا إن مخطط المغرب الأخضر ساهم في الاستغلال الكامل لإمكانيات المغرب الفلاحية ومضاعفة الناتج الداخلي الخام الفلاحي ليتجاوز سقف 127 مليار درهم عام 2021، وعمل على الرفع من نسبة تشغيل بلغت 75 في المئة في الوسط القروي، وتحسين متوسط الدخل الفلاحي في العالم القروي بنسبة 66 في المئة.
وأضاف أنه "بعد مرور أزيد من عشر سنوات على إطلاق مخطط المغرب الأخضر، يمكن أن نسجل بارتياح كبير أن منجزاته بلغت الطموح المسطر وحققت الأهداف المنتظرة منه، لاسيما فيما يتعلق بتحقيق الأمن الغذائي للمغاربة".
إحداث لجنة برلمانية للتقييم
غير أن الانتقادات الواسعة التي طالت "مخطط المغرب الأخضر" من قبل أحزاب المعارضة، دفعت الأغلبية الحكومية في البرلمان إلى المطالبة بإعادة تشكيل لجنة جديدة لتقييم هذا المخطط، بعدما تم توقيف أشغال اللجنة الأولى بسبب إسقاط صفة النائب البرلماني عن رئيسها بقرار من المحكمة الدستورية بسبب طعن في الانتخابات التشريعية.
صرفت المليارات، ولكن النتيجة نشاهدها اليوم، حيث أصبح المغرب يستورد بشكل كبير مجموعة من المواد الغذائية الأساسية، وحتى اللحوم
فهل فعلاً حقق "مخطط المغرب الأخضر" النتائج المرجوة منه، وضمن الأمن والسيادة الغذائيين للمغرب والمغاربة كما يقول رئيس الحكومة؟ ولم تم استبداله بـ"مخطط الجيل الأخضر"؟ وهل ما جاء في استطلاع الرأي وعلى لسان المتخصصين مجانب للصواب؟ وهل تداعيات أزمة كورونا والتقلبات المناخية والجفاف والتضخم والحرب الروسية الأوكرانية، هي عوامل حاسمة في إخفاق هذا المخطط في السنوات الأخيرة، أم هناك تراكمات للعديد من الأخطاء وغياب سياسة غذائية في المغرب هي التي جعلت المغرب يعرف خصاصاً في العديد من المواد الغذائية وغلاء في المعيشة؟
مخطط للرفع من الصادرات
لم تتأخر "الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي" التابعة للهيئة النقابية الاتحاد المغربي للشغل في الرد على ما جاء به رئيس الحكومة ولا حتى وزير الفلاحة في الملتقى الدولي للفلاحة في مكناس المنظم من 2 إلى 7 أيار /مايو الماضي تحت شعار "الجيل الأخضر...من أجل سيادة غذائية مستدامة"، إذ نظمت ندوة فكرية حول "سياسة الدولة المغربية في القطاع الفلاحي والصيد البحري، وتحدّي السيادة الغذائية"، شارك فيها مجموعة من الخبراء الذين أجمعوا كلهم على فشل مخطط المغرب الأخضر، الذي عمل بالأساس على الرفع من الصادرات إلى الخارج، ما ساهم في عدم توفير منتوجات غذائية أساسية للمواطنين و"إفقار السوق المحلي وإغناء المستثمرين أو ما يعرف بالمُعمِّرين الجدد".
وقدموا بالأرقام الانعكاسات السلبية للمخطط الأخضر في الفلاحة، على الثروات المغربية الفلاحية التي استُنْزفت، ما أدى إلى تشريد العديد من الفلاحين وتفضيلهم الهجرة غير النظامية على المكوث في البلد الذي تحكمت فيه الشركات المتعددة الجنسيات.
غياب سياسة غذائية مغربية
العربي الزكدوني الخبير في الاقتصاد الفلاحي والتنمية القروية أكد في تصريح لرصيف22 أن النقاش الواسع الذي عرفته الساحة الوطنية في الآونة الأخيرة حول الأمن والسيادة الغذائيّين يستدعي توفر مكون مرجعي أساسي لتحديد محتوياتهما وتوجيههما وتقييم السياسات العمومية التي يستوجب اتباعها لضمانهما. فمفهوم "الأمن الغذائي" مثلاً، يحيل برأيه، إلى أربعة مبادئ أساسية يستلزم تبنيها نظرياً واحترامها عملياً، أولها توفير الغذاء اللّازم كمّاً وكيفاً مع تمكين جميع الفئات والأفراد من الحصول عليه في أي زمان ومكان، وهو ما يستدعي تفادي اختزال القضية الغذائية في القطاع الفلاحي فقط، رغم ما له من أهمية كبرى، فمبدأ تمكين الجميع من الحصول على الغذاء اللازم يحيلنا على إشكالية المقدرة الشرائية لكل الفئات والأفراد، التي بدورها تحيلنا على إشكالية الدخل وضرورة تبني سياسة خاصة بشأنها. وهي أمور تتطلب كما يرى المتحدث "وضع سياسة عمومية مندمجة خاصة بالقضية الغذائية، التي يتقاسم مسؤوليتها جميع القطاعات ذات الصلة".
يجمع كثيرون على فشل مخطط المغرب الأخضر، الذي عمل بالأساس على الرفع من الصادرات إلى الخارج، ما ساهم في عدم توفير منتوجات غذائية أساسية للمواطنين وإفقار السوق المحلية
أضاف الزكدوني، الذي عمل لسنوات في "معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة"، وعاين عن قرب عمل العديد من المسؤولين في هذا القطاع، بل وقدّم أبحاثاً ودراسات في المجال، أن "المخطط الأخضر يتحمّل مسؤولية تسريع استنزاف المياه الجوفيّة بالمغرب، لأنه منذ عام 2008 تم الاعتماد على الفلاحات المعتمدة على الريّ ودعمها، حيث ساهمت بالفعل في الرفع من المواد الموجهة للتصدير، وأعطى قيمة مضافة للناتج الداخلي بالمغرب، ولكن بأي ثمن؟".
منطلقات وفرضيات خاطئة
من جهته أوضح بدر عريش الكاتب العام لـ"الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي" في تصريح لرصيف22، أن الجامعة تتبعت هذا المخطط منذ انطلاقه عام 2008 وتبين لها أنه "بدعامتيه يذهب في اتجاه فلاحة إنتاجية موجهة أساساً للتصدير، ولكن منطلقاته وفرضيّاته كانت خاطئة بالمرة، إذ قال إن وتيرة النمو والقيمة المضافة للقطاع ستكون 8.3 في المئة في السنة، بينما وتيرة النمو في العشر سنوات الأخيرة لم تكن تتعدى 3.3 في المئة، كما كان يفترض خلق مليون ونصف منصب عمل، وهو ما لم يتحقق. وفوق هذه المعطيات فإن هذا المخطط صيغ بسرعة في ظرف خمسة أشهر من طرف شركة استشارات أمريكية "ماكينزي"، وكلّف الدولة تقريباً 30 مليون درهم (حوالى 3 ملايين دولار)، دون إشراك الهيئات والباحثين المتخصصين من المغرب الذين يعرفون أدق التفاصيل عن القطاع الفلاحي بالبلد".
أكد عريش أن المخطط كان موجها لكبار الملاكين وذوي النفوذ باستثمارات قدرت بحوالي 115 مليار درهم و900 مشروع، في حين أن الفلاحين الصغار أو "الفلاحة التضامنية" كما يسميها المخطط الأخضر، لم يخصص لها دعم كبير. وقال "باختصار تم صرف المليارات، ولكن النتيجة نشاهدها اليوم، حيث أصبح المغرب يستورد بشكل كبير مجموعة من المواد الغذائية الأساسية، وأصبح يستورد حتى اللحوم، وهو ما يعني أن السلة الغذائية للمواطن المغربي لم تعد مضمونة. المخطط الأخضر انتهى دون أن تقوم الوزارة الوصية بتقييم حقيقي خارجي وموضوعي له، وأطلقت مخططاً جديداً باسم "الجيل الأخضر"، وهو استمرار للسياسة الفلاحية المغربية التي لا تساهم صراحة في تحقيق السيادة الغذائية، رغم أن الدولة رفعت هذا الشعار في المعرض الدولي للفلاحة في مكناس في دورته الأخيرة، حيث تم التوقيع على 19 اتفاقية برنامج رصدت لها استثمارات تقدر بـ110 مليار درهم، 6.8 منها فقط مخصصة للحبوب والبقوليات الغذائية، وهي نسبة قليلة لأن المغرب سيضطر معها للاستمرار في استيراد كميات كبيرة من الحبوب، وسيركّز في المقابل على المنتوجات الزراعية الموجهة للسوق الخارجي من طماطم وفواكه حتى يستجيب للطلب الخارجي ويحترم التزاماته مع الاتحاد الأوروبي وشركائه، دون أي مراعاة للسوق الداخلي واحتياجات المواطنين الغذائية الأساسية.
تبعية غذائية واستغلال للعمال
وأشار عريش إلى أن "مخطط المغرب الأخضر فشل، ولكن الدولة لم تقرّ بفشلها ولم تقم بتقييم حقيقي له، ولكنها أمعنت في ذلك بإطلاق مخطط "الجيل الأخضر" الذي سيستمر إلى غاية 2030 والذي سيكرّس مسألة التبعية الغذائية، حيث سنظل رهناً للسوق الخارجي من أجل تلبية الحاجيات الداخلية".
وبخصوص وضعية العمال في القطاع الفلاحي، يرى عريش أنها "كارثية"، وأنهم مازالوا يعانون من التمييز القانوني في الأجور مقارنة بنظرائهم العاملين في القطاع الصناعي والخدماتي والتجاري، فالحد الأدنى للأجور في القطاع الفلاحي هو أقل بنسبة 40 في المئة من القطاع الصناعي، وساعات العمل هي 48 ساعة في القطاع الفلاحي مقابل 44 ساعة في القطاعات الأخرى، هذا ناهيك عن محاربة العمل النقابي والتضييق على الحريات.
ما نعيشه اليوم هو نتيجة لعدة تراكمات سلبية في هذا القطاع الحساس، إذ لم تكن للمسؤولين رؤية استشرافية للوضع، خاصة فيما يتعلق بالتقلبات المناخية والجفاف
في الوقت الذي رصدت فيه الدولة اعتمادات مالية ووفرت الأراضي ومنحتها للقطاع الخاص أو أجّرتها له بأثمنة رمزية من أجل النهوض بالقطاع الفلاحي، وبأوضاع العمال الزراعيين الذين يقدرون بأكثر من مليون عامل والذين لهم دور أساسي في عملية الإنتاج، فإن كل ذلك، كما يقول النقابي عريش لم ينعكس بالإيجاب عليهم وظلوا عرضة للاستغلال والتشريد والحوادث المؤلمة ودون حماية اجتماعية، حيث لا يصرح بغالبيتهم في الضمان الاجتماعي، إضافة إلى قمع الحركات الاحتجاجية باللجوء إلى الفصل 288 من القانون الجنائي المغربي الذي يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة مع غرامة مالية كل من حمل على التوقف عن العمل، وهذا هو الذي يحاكم به أغلب النقابيين من العمّال في المغرب، وعدم تطبيق مدونة الشغل (قانون العمل) على علّاتها، بل إقدام الباطرونا (أصحاب الشركات) على الإجهاز على ما بقي من مكتسبات.
مخطط "مقدس"
حول قضية الأمن الغذائي، التي يتم رفعها من حين لآخر كشعارات بالمغرب، قال العربي الزكدوني إنه لم يتم الإعلان عنها كهدف في هذا المخطط منذ البداية، كما لم يشر إلى المحافظة على الموارد الطبيعية إطلاقا من البداية، بل تمت إضافتها بصفة شكلية، هذا ناهيك عن عدم إعطاء أهمية للبحث والتكوين في المجال.
كل ما هنالك، كما أشار إلى ذلك الزكدوني، هو الاهتمام بالجانب الاقتصادي الرأسمالي المحض، دون السماح بأي تقييم علمي لهذا المخطط، الذي رغب المسؤولون عنه إدراجه في خانة "المقدسات"، حيث لم يسمح للمتخصصين بالاطلاع على أي معلومات عنه، كما أن نتائج الإحصاء العام للفلاحة الذي أنجز منذ عام 2016، مازال لحد اليوم حبيس أدراج مسؤولي الوزارة.
والأخطر من هذا كله، كما أوضح الزكدوني، هو أن المسؤولين عن القطاع الفلاحي بالمغرب لم يولوا الاهتمام اللازم للوحدات الإنتاجية الأسرية، التي تعد من المقومات الأساسية في القطاع وتساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجموعة من سلاسل الإنتاج كالحليب واللحوم الحمراء، والتي بدأت تعرف هي الأخرى خصاصاً كبيراً. ولهذا كما قال، "إذا لم يسارع المغرب في بلورة سياسة خاصة للتغذية، وإعادة النظر في النموذج الفلاحي المتبع، وتربية المواطن على نموذج غذائي جديد، فلن ننجح في الحد من المخاطر والمشاكل التي يعانيها القطاع الفلاحي في المغرب، والتي فاقمتها تداعيات أزمة كورونا التي بعثرت العالم وجعلت المبادلات التجارية تكتوي بالغلاء، والتقلبات المناخية الكبيرة والجفاف الذي أصاب المغرب في السنوات الأخيرة، هذا ناهيك عن تبعية التضخم والحرب الروسية الأوكرانية".
وخلص الزكدوني إلى أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة لعدة تراكمات سلبية في هذا القطاع الحساس، إذ لم تكن للمسؤولين رؤية استشرافية للوضع، خاصة فيما يتعلق بالتقلبات المناخية والجفاف، حيث لم تتخذ الاجراءات اللازمة لتفادي تداعياتهما التي أصبحت تهدّد استدامة القطاع الفلاحي في المغرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون