لن تتوقعوا بعد مشاهدة العرض المسرحي "أكاديمية الضحك"، الذي عُرض في دمشق خلال الشهر الحالي، وهو من إعداد الدكتور سمير عثمان الباش وإخراجه، أنه عرض مقتبس عن نص مسرحي يحمل العنوان نفسه للكاتب الياباني كوكي ميتاني. كما أن أول إحساس سينتابكم بعد تلك المعلومة هو الشعور بالامتنان للمسرح، ذلك الفن الذي استطاع إعادة صياغة الواقع بكل حرفية، وجعله ملائماً لكل زمان ومكان بما تعنيه الكلمة من معنى. فهل العالم متماهٍ مع نفسه ومتشابه إلى هذا الحد؟ وهل فعلاً كل الأنظمة مرت عليها فترات كانت فيها ديكتاتوريةً إلى حد ما؟ أسئلة كثيرة ستراودنا بعد أن نطّلع على النص الأصلي الذي كتبه ميتاني في العام 1996، وتم عرضه على خشبة المسرح لأول مرة في اليابان في العام 1997.
ولعذوبته، أعيد تقديمه كفيلم سينمائي في العام 2004، وكان من بطولة النجم الياباني الكبير كوجي ياكوشو والنجم غورو إيناغاكي، ومن إخراج مامورو هوشي. أيضاً كان قد ترشح عنه كوجي ياكوشو لجائزة أحسن ممثل في مهرجان أكاديمية السينما اليابانية، وكذلك كوكي ميتاني لجائزة أحسن سيناريو.
تدور في زمن الحكم العسكري في اليابان، الذي كانت فيه الرقابة فارضةً سطوتها وبشكل شبه تعسفي على حربة التعبير والفكر، سواء في مجال الإعلام أو الثقافة بأشكالهما كافة
يقول كوكي ميتاني في أحد لقاءاته: "من المحتمل أن يتعاطف مع هذا النص أشخاص من دول وثقافات أخرى"، ويبدو أن مقولته صدقت؛ فهذا ما حصل بالفعل، حين تكرر عرض المسرحية في كل من بريطانيا وروسيا وفلسطين، وهو اليوم حاضر على أحد مسارح دمشق، وقد تلقفه الجمهور، خاصةً الشباب، بكل حماسة واندفاع، إلى درجة أعاد المخرج تقديمه مرتين متتاليتين؛ الأولى ضمن مدرسته مدرسة الفن، والثانية على خشبة مسرح القباني التابعة لمديرية المسارح والموسيقى في دمشق، وزاد عدد أيام العروض بناءً على رغبة الجمهور، الأمر الذي ينهي بشكل قاطع المقولة الشائعة: "الجمهور عاوز كده"، التي يلجأ إليها البعض كنوع من الاستسهال في انتقاء النصوص وعرضها.
أحداث مسرحية "أكاديمية الضحك"، أو "جامعة الضحك" كما وردت في الترجمة الإنكليزية للنص University Of Laughs، تدور في زمن الحكم العسكري في اليابان، الذي كانت فيه الرقابة فارضةً سطوتها وبشكل شبه تعسفي على حربة التعبير والفكر، سواء في مجال الإعلام أو الثقافة بأشكالهما كافة، حول شخصيتين: كاتب مسرحي شاب في مواجهة رقيب حكومي على النصوص وظيفته الواضحة منع أي تعبير سياسي أو محظور من المرور عبر وسائل الإعلام.
لكن ذلك الرقيب لديه شيء ضد الكوميديا أيضاً، ولديه أيضاً موقف سابق من مدير وبطل فرقة "جامعة الضحك"، ويريد بأي شكل أن يعطّل ذلك العرض، وربما إغلاق ذلك المسرح وإنهاء الفرقة. بناءً عليه، سيقوم بتعجيز الكاتب وسيخترع له أخطاء دراميةً، لكن صبر الكاتب وليونته في التعامل مع الرقيب وقيامه بكل التعديلات التي طلبها على مدى ستة أيام، بسلاسة، جعلت من النص بديعاً بل عملاً مضحكاً جداً لدى الرقيب نفسه الذي سيشعر بالامتنان.
أنها في الحقيقة حملت الكثير من التلميحات السياسية إلى فترة مظلمة من تاريخ اليابان، عانى فيها المثقفون والفنانون صراعاً كبيراً مع الرقابة والتعتيم على حرية التعبير والفكر.
ولكن القدر، وبعد كل ما عاناه الكاتب، سيقف حائلاً دون عرض المسرحية، لأنه استُدعي إلى الحرب التي قد لا يعود منها حياً. يقول الرقيب مخاطباً الكاتب: "لقد فتحت عيني على عالم لم أشعر بوجوده من قبل. منذ أسبوع وأنا أضحك يومياً، أنا الذي لم أضحك سابقاً، وتخيلت أداء الممثلين". فهل انتصر الكاتب على الرقيب، أم أن التعسف والبيروقراطية كانا سبباً في نجاح النص؟ هذا ما لا يمكن أن نحدده من النص، فوجهة نظر ميتاني متلاعبة إلى درجة يجوز معها التفسيران.
ومتياني بالمناسبة كاتب ومخرج، يذكر في أحد لقاءاته أنه استوحى موضوع المسرحية من مسيرة حياة أحد كتاب نجوم الدراما، أي الذين كانوا يكتبون لممثل بعينه، وغالباً ما يكون مشهوراً ولديه حركاته الخاصة وجمله التافهة التي يكررها، والتي يرغب دوماً في استخدامها واستثمارها لأن الجمهور تعوّد أن يضحك عليها ومنها، فمثلاً في هذا النص لمّح ميتاني إلى تعبير يحب ذلك الفنان المشهور استخدامه: "أستميحك عُصراً، بدل عذراً" Exsqueez me، Excuse me، فتمادى في تكراره كاتب النص حين قدّمه للرقيب إلى درجة استهجن معها الرقيب ذلك التعبير. أما في النص الذي أعدّه الدكتور سمير عثمان، فقام باستبداله بتعبير آخر.
المسرحية، وبرغم بساطة قصتها، واعتمادها على الشكل الثنائي والذي يُعدّ اليوم واحداً من مظاهر المسرح وتقام مهرجانات له بعنوان "المسرح الثنائي"، إلا أنها في الحقيقة حملت الكثير من التلميحات السياسية إلى فترة مظلمة من تاريخ اليابان، عانى فيها المثقفون والفنانون صراعاً كبيراً مع الرقابة والتعتيم على حرية التعبير والفكر، ويبدو أن هذا الصراع الذي انتهى في اليابان بشكل شبه تام بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية قد جعلها تصحو، بينما ما زال قائماً في بعض من أوطاننا، وهو الأمر الذي يجعل هذا النص جذاباً لاقتباسه.
بين النص الياباني والعرض السوري
حاول المخرج المعدّ الالتزام بحرفية النص الأصلي، لكنه استبدل بعضا من مقاطع المسرحية بمقاطع أخرى ليصبح أقرب إلى البيئة العربية أو السورية على وجه الخصوص، فالمراقب في الحالتين لا يرى في النص ما هو كوميدي أو مضحك، وسيبدأ باختراع الحجج لاستبعاده، فيرفضه المراقب الياباني بحجة أنه مقتبس عن روميو وجوليت للكاتب الإنكليزي شكسبير، مما يعني أن الشخصيات ستكون غربيةً وقصة الحب بالتالي أجنبيةً، فكيف يعقل ذلك واليابان ستحتفل بالذكرى 2،600 لتتويج الإمبراطور "جيمو". يطلب أن تجري الأحداث في اليابان، وأن يكون أبطالها يابانيين، بينما في النص السوري سيعترض الرقيب على قصة الحب، خاصةً القبلة التي سيمنحها روميو لجوليت، فهو لا يراها مناسبةً للعرض في وقتنا الحالي وضمن ظرفنا الاقتصادي الحالي.
أما على صعيد الأداء الذي لعبه لجين إسماعيل وكرم حنون، فكان أشبه بمبارزة بين الشابين وهي مبارزة لا تتعلق فقط بمضمون النص والخطوط الدرامية للشخصيتين، ولكنها مبارزة من نوع آخر بين إسماعيل خريج المعهد العالي للفنون المسرحية (2015)، والمعروف بوسامته ونجوميته، وبين النجم الصاعد حنون خريج مدرسة الفن التي أسسها المخرج قبل سنوات وقام بتخريج دفعات منها. إنه سباق محموم للفوز برضا الجمهور وإعجابه، والحقيقة أن البطلين استطاعا أن ينافسا بعضها البعض وأن يستحوذا على قلب الجمهور، فهما يلعبان وعلى مدى ساعتين متواصلتين عرضاً مسرحياً مليئاً بالحوار والحركة من دون تعب ومن دون أن يشعر الجمهور بأي ملل أو كلل، بل سيتفاعل معهما وسيضحك لبعض حركات (الفارس/ التهريج)، التي وظفها المخرج بطريقة لا تخلو من العبث بعيداً عن الإسفاف والتهكم، وأعتقد أن النص الأصلي كان يحتمل هذه المبارزة، فلكل دور ثقله ويحتاج فعلاً إلى ممثل قادر على حمله.
ويبدو أن المخرج قد التزم حرفياً بملابس الشخصيتين كما وصفها المؤلف، فمراقب النصوص الذي لعب دوره لجين إسماعيل بطريقة حازمة لا ابتسامه فيها، ارتدى الطقم الرسمي وربطة العنق وسلك سلوك رجال الرقابة في هدوئهم المريب وصراخهم المفاجئ، أما كرم حنون الذي لعب دور الكاتب المخرج فارتدى قبعته (الكاسكيت) التي ترمز إلى المثقفين، وربما الشيوعيين تحديداً، وحمل حقيبته المدرسية التي تذكّرنا بالموظفين التقليديين.
"لم أقصد في النص أي نقد سياسي، وبرغم أن موضوعه يدور حول الرقابة، إلا أنه لا يتطرق إلى سلبياتها. في الواقع ما هو ساحر في النص هي الطريقة الذكية التي ستتحسن بها مسرحية كاتب نتيجة الاضطرار إلى التغلب على القيود التي يضعها الرقيب عليه"
وليتناسب المكان مع وصف الشخصيات وملابسها، نفّذ المخرج ديكوراً كان قد صممه الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي، وهو عبارة عن غرفة فيها طاولة مكتب وكرسيان ومحاطة تماماً بجوارير تشبه جوارير المدرسة الصدئة، وكأن المكان بدلالاته يشبه أحد صفوف المدرسة، وهناك الأستاذ المصحح والطالب الذي ينفذ الملاحظات. ولقد استفاد المخرج بشكل كبير من صغر حجم خشبة مسرح القباني مقارنةً بغيرها من المسارح، ومع كل فصل ينتهي يوم، ليبدأ يوم آخر، فيقفل المخرج الستار ويغيّر موقع تلك الطاولة من الوسط إلى اليمين فالشمال فالمقدمة، وكأن الطاولة مهما انتقلت وتغيّر مكانها سيبقى صاحبها بالعقلية نفسها.
"اليابان أكثر ظرافةً للنص"؟
في العرض السوري خرج النقاد والجمهور منتشين ضاحكين، لشعورهم بأن النص استطاع نقد الرقابة في سوريا بكل تلك القوة والشفافية، لكن الموقف الحقيقي لميتاني تجاه الرقابة لم يكن واضحاً تماماً في النص. ففي نهاية المسرحية، سيتوصل الرقيب إلى نص مسرحي كوميدي ممتاز بحسب رأيه، على الأقل لأنه جعله يضحك مرات عدة، وكأن ذلك الكاتب قام بتغيير سلوك الرقيب ووجهة نظره تجاه الضحك والكوميديا، وسيتأسف لأن النص لن يرى النور فصاحبه سيلتحق بالخدمة العسكرية، وهنا سيكون السؤال: هل ميتاني كان راضياً حقيقةً عن تعسف ذلك الرقيب ويرى في تعديلاته الفرصة لتحقيق نص مثالي؟
يقول الكاتب مخاطباً الرقيب بعد أن انتهى من كتابه النسخة الأخيرة من النص، ونفذ كل الملاحظات: "الحقيقة لا بد أن أشكرك، المكان والزمان في اليابان ربما أكثر ظرافةً للنص".
أم أن ميتاني بهذه العبارة كان يسخر من الرقيب ويمرر عبره رأيه في الأنظمة الديكتاتورية التي لا تسمح لحرية الرأي بالتعبير عن نفسها؟ يقول ميتاني في حوار معه: "لم أقصد في النص أي نقد سياسي، وبرغم أن موضوعه يدور حول الرقابة، إلا أنه لا يتطرق إلى سلبياتها. في الواقع ما هو ساحر في النص هي الطريقة الذكية التي ستتحسن بها مسرحية كاتب نتيجة الاضطرار إلى التغلب على القيود التي يضعها الرقيب عليه".
أيّاً كانت المقولة التي انتهى بها العرض في دمشق، إلا انه عُدّ عرضاً مسرحياً جميلاً جداً، أعاد الجمهور المتعطش إلى المسرح ونتمنى أن تتكرر مثل تلك التجارب الجادة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...