شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
بوشكين العرب الذي لم يعرف مفردة واحدة من الكتابة السلافية

بوشكين العرب الذي لم يعرف مفردة واحدة من الكتابة السلافية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الثلاثاء 20 يونيو 202303:48 م

دائماً كنت أتساءل عن نوع العلاقة بين الكتابة الكريلية (الأبجدية السلافية)، نسبة للقديسين البيزنطيين الشقيقين كيريل وميتودي المولودين في تسالونيكي في اليونان بين الأعوام (820-827)، وصديقي الشاعر العراقي الذي رحل عن عالمنا في مدينة حلب السورية قبل عشرة أعوام.

ولولا دراستي في بلغاريا 1987-1994، لما تساءلت أبداً عن نوع هذه العلاقة، فليس لغير عارف بشؤون هذه اللغة، من أن يبحث في جذور هذه العلاقة التي كانت تميل في جانب أساسي إلى طبيعتها، والتداخلات الثقافية واللغوية التي تأثرت بها، وأثرها من جوانب كثيرة.

بالطبع كثيرون يعرفون أن شعوباً سلافية تدين لهذه الكتابة، التي وضع الشقيقان القديسان لها أسس الألفبائية المكونة من أربعين حرفاً، والمبنية بشكل أساسي على طابع الحرف اليوناني، ومن ثم قام بطرس الأكبر بـ"تثويرها" من جديد، وهو العائد حديثاً من بعثاته الغربية وأضاف إليها أبعاداً ورموزاً لاتينية تتناسب مع التقدم العلمي الذي دعا إليه.

ماكان ممكناً إيجاد مثل هذه العلاقة بين الشقيقين القديسين، والعالمين اللاهوتين الكبيرين، وصاحبي، لولا أنهما قد انتدبا للتبشير بين العرب، وتعلُّم اللغة العربية في بغداد

ماكان ممكناً ايجاد مثل هذه العلاقة بين الشقيقين القديسين، والعالمين اللاهوتين الكبيرين، وصاحبي، لولا أنهما قد انتدبا للتبشير بين العرب، وتعلّم اللغة العربية في بغداد، التي مكثا فيها مدة سبع سنوات بطلب من الكنيسة البيزنطية، ما يعني أنهما قد أضافا مفردات كثيرة إلى اللغة البلغارية القديمة (بحسب بعض الدراسات ثمة 4 آلاف كلمة عربية أدخلت إليها).

كان كل شيء سيسير بشكل طبيعي، ويُرَدّ في أصله إلى الدراسات المتخصصة التي تهتم باللغات، والإناسة اللغوية، لولا هذه القطبة المخفية بينهم: بغداد التي كانت منارة اللغة العربية، والعلوم، في ذلك العصر المتوهج.

صديقي الشاعر العراقي، الذي كان متيماً بالحسناوات، لم يكن يشذ عن القاعدة التي تفترض أن كل شاعر هو متيم بالضرورة، وإلا يفقد هويته وكينونته كشاعر، لهذا لم يبتعد أيضاً عن كنز المفردات التي توحي بهذه القاعدة، وصار لديه مفردات خاصة به، تميزه عن سواه، وهذه قد تحسب له في "ميزان حسناته"، لأنه صنع أسلوبية خاصة في التعبير عن ولهه، وهيامه بالجنس اللطيف، بالرغم من أن هذه الأسلوبية، قد سببت له الصداع، ووجع الرأس الذي لاينتهي بعلاقاته مع جنس الذكور الذي ينتمي إليه.

لم يكن سهلاً عليه –أبداً- التعبير عما يجول بخاطره عن هواجسه، ووقوعه بغرام بفتاة فلسطينية، ابنة لشهيد، رفضته، ولم تُعجب به من النظرة الأولى، كما كان يتوقع، في جلسة "التحشيش" الوحيدة التي حضرتها برفقته، في زيارتنا لشاعر فلسطيني، من جيلنا، عرض علينا حشيشة الكيف في يوم شتوي بارد، في مخيم اليرموك، منتصف ثمانينات القرن الماضي (1985).

أنا من جهتي وافقت بحماس أن أجربها، وكنت أدخن السجائر يومئذ،-قبل أن أنقطع عنها نهائياً مع تسريحي من صفوف جيش التحرير الفلسطيني مطلع 1999، فيما نظر هو إلينا نحن الاثنين متوجساً، ومرتاباً، ورفض العرض قائلاً بلهجته العراقية المميزة: "غواويد باكر أستلم السلطة بالعراق، وتكولون كان يحشش ويانا".

خاف على سمعته، وعلى مستقبله السياسي، ورفض حشيشة الكيف. أما أنا فقد جربتها، في تلك الجلسة الشتوية الباردة، ولم أشعر بشيء، ولم أعد إليها مرَّة أخرى، وان كنت أشم رائحتها من بعض أصدقائي بين الفينة والأخرى حين نلتقي في أمكنة وأوقات مختلفة، وأتعرَّف إليها بسهولة أكبر، ربما لم يكن بوسعي ذلك لو لم أجربها، وأنا لم يكن لدي "مشاريع سلطوية" في أي مكان.

صحيح أن صديقي الشاعر العراقي الذي كان يحلم بالاستيلاء على السلطة في العراق في يوم ما، فقد صديقه الكاتب الصحفي (س.ج) في ضاحية مساكن برزة (شمال شرق دمشق)، وعاش رعباً حقيقياً في تلك الأيام، التي تلت مصرعه، فهو قال لي حرفياً إن سيارة "غامضة" تعمدت دهس شريكه في الحزب السياسي الذي أسساه معاً على الرصيف الذي كان يتريض عليه صباحاً، وأن الدور سيأتي عليه، واختفى لفترة زمنية طويلة نسبياً، قبل أن يعود ويظهر، وقد فقد حماسه للحزب، وخططه بالاستيلاء على السلطة في العراق بشكل نهائي.


التقيته في تصوير فيلم وثائقي في مدينة حلب عام 2008، وكانت عضلة القلب عنده قد نال منها الوهن، وغاب عن الوعي أكثر من مرة، وسألته إن كان نادماً على رفضه أن يحشش معنا في ذلك اليوم الشتوي البارد، بعد أن حكينا عن مآلات العراق نفسه، وماحلَّ به بعد الغزو الأميركي، وكيف أن كرسي السلطة قد صار بعيداً في كوكب آخر، لاينتمي إلى كوكبنا.

ربما دمعت عيناه تأثُّراً، لكنه لم يبكِ. قال إنه لم يندم على رفضه "الدواء البطولي"، كما كان شارل بودلير يسمي حشيشة الكيف، وهو بالمناسبة باح لي بأنه لم يكن معجباً بصاحب "أزهار الشر" على الإطلاق، مثل كثيرين من أقرانه من الشعراء العراقيين، وكان يمازحنا دائماً بسالفيه اللذين أطلقهما على صدغيه السمراوين ردحاً طويلاً من الزمن بقوله إنه هو "بوشكين العرب"، ولا أحد سواه، ودليله كان بطبيعة الحال هذين السالفين.

ماهي درجة القرابة بينه، وبين الراهبين القديسين كيريل وميتودي؟

للإجابة عن هذا التساؤل، كان لابد أن أراقب صديقي الشاعر دوماً، وهو يغوص في دلالات ورموز الإيحاءات الجنسية التي كان يجيء عليها حين يحكي عن هيامه بحسناء ما، أو حين يعلق حول علاقة صديق له بأنثى ما، وكنت أعرف كيف يعبر عن كل ذلك بمفرداته الخاصة، فيصف الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة بواقعة "الرجل يطيها النار"، يعطيها النار، وكنت أصفن أكثر، بعد مشاغباته اللغوية، بعضو الذكورة (كور، باللغة البلغارية)، وأجد علاقة دلالية قوية بين النار التي يقصدها، وكور الحداد. الحداد هو من ينفخ بالكور، ويستقوي على الحديد الصلب قبل أن يطرقه بمطارقه، بالنار.

كان يمازحنا دائماً بسالفيه اللذين أطلقهما على صدغيه السمراوين ردحاً طويلاً من الزمن بقوله إنه هو "بوشكين العرب"، ولا أحد سواه، ودليله كان بطبيعة الحال هذين السالفين

صديقي الراحل لم يكن يعرف شيئاً من اللغة البلغارية، ولا أعرف كيف اعتمد سالفة النار في حكيه عن علاقة الرجل بالمرأة، ولكن ها هنا في هذا الحيز اللغوي الغريب أجد قرابة من نوع ما، ولست أبارك هذه القرابة من هذه البوابة، ولكنها مناسبة لقول شيء، فأيام الأبجدية السلافية، وذكرى الشاعر يقرعان عليَّ الأبواب بقوة، ويفترض بي أن أقول شيئاً عنهما.

وهو قد كان يصف نفسه من باب المزاح بـ"الفائز" دوماً، ولكنه خسر أهم معركتين في حياته حين تنازل مبكراً عن استلام مقاليد السلطة في بلاده بعد مقتل صديقه، الذي لم يشك للحظة بحادثة الدهس المدبرة له، دون أن يوجه أصابع الاتهام لأحد. وحين صار يكتفي من أي حسناء قد يلتقي بها في المصعد، أو في أي جلسة أدبية، أو حتى في الشارع، مع تدهور حالته الصحية، بالاستفسار منها ما إذا كانت تحب قراءة الشعر حتى يهديها مجموعاته الشعرية التي أصدرها في مجلد كبير، وأنيق فقط، ولاشيء غير ذلك. كان صديقي الراحل حكاءً كبيراً أيضاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image