في ثمانينيات القرن الماضي، كانت قريتنا تكره التعليم. يبدو أن أحد شباب القرية قد حالفه الحظ أيامها، وحصل على عمل في السوق الإسرائيلية، ثم صار مثالاً جيداً للشباب في تحصيل لقمة العيش، بالتالي فقد اتجه معظم من يستطيع العمل إلى هذه السوق واستنكفوا عن الدراسة. كانت الفكرة السائدة تتلخّص في "لماذا أنفق من عمري خمس سنوات، وأنفق من جيب أبي مبالغ هائلة، من أجل التعليم الذي يقود إلى العمل، ما دمت أستطيع العمل حالاً ودون كل هذه التكاليف؟"، وكان هذا منطقياً في بلد موارده المادية قليلة، وموارده المعرفية شبه معدومة.
في هكذا بيئة، وربما لقليل من الحظ، كنت نحيلاً هزيل البنية، ولا أستطيع العمل في ورشات البناء أو الحديد كما يفعل أقراني. ولأنني خفت أن يقال عني "لا فالح بالشغل ولا بالدراسة"، فقد صببت كل اهتمامي على الكتب. صرت أقرأ كل قصاصة ورق تقع تحت يدي، وأحاول جاهداً أن أنجح في دراستي. حصلت على شهادة التوجيهي بعلامات جيدة ما أهّلني أن أذهب لدراسة الطب، كمنحة من الحزب الشيوعي الفلسطيني، في المعسكر الاشتراكي آنذاك.
لم يلزمني أكثر من شهر لأكتشف أن معظم سكان القرية يعتبرونني كافراً ولا يجوز أن يتعالجوا عندي، وأن جزءاً لا يستهان به ممن لا يعنيهم هذا الاعتبار يأتون، وفي أذهانهم أن عليّ الشعور بالامتنان والفخر أنهم تنازلوا وزاروني
أنهيت دراسة الطب وعدت إلى القرية وافتتحت عيادتي البسيطة، كطبيب ماركسي يريد أن "يخدم" أهل قريته صحياً، وأن يحاول تغييرهم فكرياً. لا أعرف حتى اللحظة ما هي المقوّمات التي كنت أمتلكها لأفكر، مجرّد تفكير، أنني قادر على هذين الدورين المعقدين. ربما لكوني أول طبيب في القرية، وربما لكوني ماركسياً في بيئة كل أناسها متديّنون بالوراثة، وربما لاعتقادي حينها أن العالم مقسوم بين من يملكون المال ومن يملكون الفكر، ولأنني، كما أعتقد، من القسم الثاني، فلا بد أن أثبت جدارتي بحمل هذا الفكر.
لم يلزمني أكثر من شهر لأكتشف أن معظم سكان القرية يعتبرونني كافراً ولا يجوز أن يتعالجوا عندي، وأن جزءاً لا يستهان به ممن لا يعنيهم هذا الاعتبار يأتون، وفي أذهانهم أن عليّ الشعور بالامتنان والفخر أنهم تنازلوا وزاروني، وبالتالي فلا يجب أن أتقاضى منهم أتعاباً مساوية لما يتقاضاه أي طبيب في المدينة. النتيجة أنني لم أفلح كطبيب يمكنه أن يعتاش من هذه المهنة في قريته وبين أقاربه ومعارفه. لكنني عنيد ولا أكف عن المحاولة حتى عندما أرى النتائج اليومية بأم عيني، وأتلمّسها على جلدي. ساعدني في هذا العناد أن أخي الأصغر كان يعمل في السوق الإسرائيلية ويتقاضى راتباً معتبراً، ويستطيع أن يدعمني مالياً إلى حين تتحسّن أحوالي. فلا بد أن يكتشف سكان القرية خطأهم يوماً ما، ويكفوا عن مقاطعتي. لكن أخي الذي يشبه سكان القرية في كثرة أموالهم، لم يكن يملك منطقاً مختلفاً عنهم، فقد كان يقدم لي دعمه مقروناً بنصيحة هنا وتوجيه هناك، دون أي اعتبار لمكانتي العلمية والمعرفية التي أدّعيها على الأقل.
في تلك الأيام كانت الآراء عن قريتنا كقرية لا تحب التعليم، قد انتشرت في عموم مدن وقرى الضفة الغربية. معظم الناس كانوا يعرفون أن هذه القرية لا ترسل أولادها ولا بناتها إلى الجامعات، بل ترسلهم إلى سوق العمل. وبالتالي فهم يستثمرون في المباني والطرق والسيارات، ولا يعنيهم الاستثمار في الكائنات البشرية التي تشبهني، أنا وقلة قليلة في القرية.
ولأن إحدى مهام الصحافة هي النبش فيما وراء الخبر، فقد تطوّعت صحفية من رام الله لتجري تقريراً لصحيفتها، عن عزوف الناس عن التعليم في بلدي. وفعلاً حضرت الصحفية إلى القرية وبدأت في إجراء لقاءات مع العمال في السوق الإسرائيلية. السؤال المركزي هو لماذا تفضلون العمل على استكمال الدراسة؟ وكل شخص يختار إجابته كما يرتئي، سواء من الواقع أو من الخيال الذي تفرضه الكاميرا أو الميكروفون. المهم أنني لم أكن أعلم بوجود هذه الصحفية إلا من أخي عندما رأيته مساءً، حيث قال لي بفخر شديد: اليوم الجريدة عملوا معي مقابلة.
أجاب أخي عن سرّ ذهابه المبكر إلى سوق العمل: "ليش أتعلم، هاي أخوي الدكتور عامر بدران، قعد ست سنين يدرس في الغربة، وبالآخر بيوخذ مصروفه مني؟"
لا أنكر شعور الغيرة الذي انتابني لحظة سماع هذه الجملة، فأنا من يستطيع الحديث أمام الصحافة وليس هذا الذي لا يهتم إلا بالمال. أنا الذي أضعت عمري في القراءة وبين روائح الورق، وعند قطف نتائج الشهرة تأتي الصحافة لتجري لقاءً مع أخي. ألا يكفيه أنه حاز على رأس المال المادي، ليحوز على رأس المال المعنوي أيضاً؟ هذا الشعور بالغيرة منعني أن أسأله عن فحوى لقائه مع الصحافة، لكنني ذهبت صباح اليوم التالي واشتريت الجريدة التي أجرت هذا الحوار.
بعد ساعة كنت أجلس على مكتبي المتواضع في عيادتي المتواضعة، وأقرأ التحقيق الصحفي المطول عن قريتنا، وشبابها الذين لا يحبّون المدرسة ولا الجامعة. كنت أقفز بين السطور بحثاً عن اسم أخي، لكنني بدل أن أجد اسمه وجدت اسمي أنا. ففي سؤال الصحفية لشاب من القرية عن سرّ ذهابه المبكر إلى سوق العمل، وعدم اختياره الدراسة كمشروع آمن للمستقبل، أجاب الشاب (ويبدو أن الإجابة واثقة تماماً): "ليش أتعلم، هاي أخوي الدكتور عامر بدران، قعد ست سنين يدرس في الغربة، وبالآخر بيوخذ مصروفه مني؟".
هذه كانت أول مرة في حياتي يتم فيها ذكر اسمي في الصحافة. صحيح أن المناسبة كانت مخزية نوعاً ما، لكنها بداية معقولة لشخص طموح، ولا يملك الأدوات المناسبة لتحقيق طموحه. فأن تكون الطبيب الذي يأخذ مصروفه اليومي من أخيه العامل، فكرة صحافية لا يمكنها إلا أن تشدّ القارئ، ثم ألستُ أنا من يدعو إلى حكم الطبقة العاملة؟ لماذا إذن أحنق على أخي الذي يضربني مثالاً لفشل الإنتليجنسيا؟ ثم ما أدراني بالذي يجول في باله حينها، فربما قرّر أن يساعدني على الشهرة التي أتمناها، لكنه فعل ذلك بطريقة أهل القرية قليلة الموارد المادية ومعدومة الموارد المعرفية.
في ذلك اليوم لم أنقم على أخي، ولا على وضعي المادي، بقدر ما نقمت على التعليم الذي ينتج هكذا صحفيين، لا يجدون حرجاً في ذكر اسم شخص دون استشارته. بل ويعتبرون ذلك شأناً عادياً يتوافق مع منطق الأشياء. كظمت غيظي وشكرت أخي على مثاله الموفق، وبعد أيام من هذه الحادثة، قمت ببيع عيادتي، وأعدت له قسماً من الأموال التي اقترضتها منه، ثم غادرت القرية، لأبدأ حياة جديدة في مكان آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...