تركت قطي اللطيف بعهدة والدتي عندما سافرت، ثم عندما توفت والدتي انتقلت العهدة إلى حماتي، والدة زوجتي. كان قطاً لطيفاً ذكراً، بالكاد يموء لكنه يبحلق بعينيه فيك بإمعان.
عندما دخلت جارة حماتي، الحلبية أم عبدو (بالطبع) لمنزل حماتي، تفاجأت برؤية القط، وعندما قالت لها حماتي إنه ذكر واسمه داريوس، خبأت وجهها بإشاربها الطويل. قالت: "شوفي كيف عم بيبحلق فيي. والله يا أم نوّار ما بيجوز. بلكي كان مسحور". ثم رفضت البقاء وقرّرت أنها ستستفتي أحد المشايخ بجواز الانكشاف على قط ذكر أم لا!
تذكرت وأنا أسمع القصة، إحدى حكايات "ألف ليلة وليلة" عندما أحضر رجل كلباً متشرداً وأدخله بيته ليطعمه شفقة عليه، فغطت ابنته وجهها وقالت له: كيف تحضر رجلاً أجنبياً لننكشف عليه، ثم شرحت للوالد المذهول أن الكلب الذي أحضره هو رجل أصلاً كان قد سحره الساحر الشرير كلباً، وقامت بإرجاعه إلى هيئته الآدمية باستخدام "طاسة الإقلاب".
لكن بفرض أن الحيوان، قطي داريوس أو الكلب المذكور بالقصة، فعلاً مسحور، هل يحتوي بهيئته الجديدة على مشاعر وذاكرة هيئته القديمة؟ هل يحتفظ بمشاعر وغرائز الذكر القديم في هيئته الحيوانية الجديدة؟ أليس من المفترض أن يصبح كلباً بذاكرة كلب وغرائز كلب وأفكار كلب؟ أيضاً: هل يشتهي الكلب أو القط صاحبه/ته أو جارته/ها أو ابنته/ها؟ لكن الأهم: من يتساءل أسئلة كهذه؟
جواز سماع الموسيقا
صادفني منذ قليل وأنا أتصفّح فيسبوك خبراً يقول إن هيئة الإفتاء المصرية أجازت سماع الموسيقا واتخاذ العزف مهنة يُتكسّب منها، في الخامس عشر من مايو/أيار، عام 2023.
بعد أكثر من 35 ألف سنة من عزف الموسيقا يقرّر الإفتاء السماح بها؟ أليس من العار وجود أسئلة مشابهة؟ أليس من العار أن أمة لديها هذا التراث الموسيقي والشعري الهائل، تحتاج لفتوى لتستفيد منه أو حتى تسمعه
حقاً! بعد أكثر من 35 ألف سنة من عزف الموسيقا يقرّر الإفتاء السماح بها؟ أليس من العار وجود أسئلة مشابهة؟ أليس من العار أن أمة لديها هذا التراث الموسيقي والشعري الهائل، تحتاج لفتوى لتستفيد منه أو حتى تسمعه؟ ماذا بعد؟ هل يوجد فتوى بالسماح بقراءة مجلات الكوميكس؟ إذ إن الآية المعروفة: "اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لا يعلم"، تتحدّث عن كتابة بالقلم وليس بالكومبيوتر، ولم تذكر سيرة الرسوم أصلاً...
عندما دخلت لموقع دار الإفتاء المصرية (موقع منبر وزارة الأوقاف السورية مضحك للغاية، إذ يحتوي على قسم باسم "السيد الرئيس" ولا أعلم إن كان يُعتبر من الأئمة الصالحين، أو أن هناك فتاوي تخصّه، كجواز كراهيته مثلاً، أم أن اسمه فقط لـ"جذب" الجمهور واستمطار اللعنات) تفاجأت بكمّ هائل من الأسئلة الغريبة التي تخطر ببال الجمهور فيسأل عنها المفتي، كحكم مشاهدة مباريات كرة القدم ولعبها، أو حكم المزاح و"القلش" المصري، حكم اللعب بالألعاب الإلكترونية، حكم قراءة الروايات الرومانسية، وغير ذلك من الغرائب.
ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة أسئلة كهذه هو لأي درجة من الانسحاق وصلت إليه الشعوب العربية، المصرية والسورية ضمناً، لتخاف من اللعب بماريو على سبيل المثال قبل أن يجيز لها المفتي؟ لأي درجة من انعدام القدرة على استخدام المنطق البسيط أوصلنا إليه تحالف البترول مع العسكر مع رجال الدين العصابيين؟ لأي درجة أصبحناً شعوباً مسحوقة بالخوف، فلا نجرؤ على الصراخ إن لم يجز مفتي لنا ذلك؟
ما حكم رجل ضرب زوجته بمصحف ثقيل حتى ماتت، هل يعتبر قاتلاً والمصحف أداة جريمة أم أن الأمر قضاء وقدر؟
لا أتكلّم عن التعاليم الإسلامية التي تود التدخّل في كل تفصيل من حياتنا اليومية لدرجة الشرح كيف نأكل الدجاجة وبأي قطعة يجب أن نبدأ وماذا نقول قبل المضغ وبعد الابتلاع، بل عن انسحاقنا الرهيب، وتغييبنا لمحاكمات العقل البسيط أمام يوميات بديهية لا تحتاج لمعلّم ولا مفتي، فمن غير المعقول أن يكون رفضنا للكذب، أو السرقة، أو الاستيلاء على مال اليتامى، مبنياً على فتوى أو حديث نبوي، فالتحرّش والاغتصاب والعنصرية لا يوجد حديث فيها، وبالتالي هي مباحة حتى يحصل وينتبه أحد في رمضان ما، ويسأل "مفتيه" عن جواز أو عدم جواز التحرّش، وحتى ذلك الوقت يجب علينا أن نمارس التحرّش والاغتصاب، إذا لا حديث نبوي شهير فيه.
إن زراعة فكرة الخطيئة عميقاً في نفس المسلم العربي، إضافة لمشاعر القصور الذاتي عن فهم أو معالجة شؤون الحياة اليومية نتيجة الاستبداد الديني والعسكري الطويل، جعلت من الشعوب العربية المسلمة لا تجرؤ على التنفّس ما لم يتواجد فتوى تبيح لها فعل ذلك. ابحث عن الفتاوى المعروضة على المواقع الدينية الرسمية وغير الرسمية، تتفاجأ بكمّها وبسخافتها حتى، من أبسط الأشياء حتى أعقدها، والمصيبة أن القاعدة التي غالباً ما يستند عليها بإطلاق الأحكام عبارة عن كرة كريستال بألف وجه، فسواء كان الهدف من أي جديد هو المعصية أو العبادة، القاعدة التي نستند عليها في تحريم أو إباحة الشيء، لا نستطيع أن نجزم ولا أن نحدّد بدقة لدرجة إطلاق الحكم، فحتى القرآن نفسه يمكن أن تستخدمه في المعصية كما تستخدمه في العبادة، وهذه قاعدة، أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنها فضفاضة وغير ذات جدوى.
من غير المعقول أن يكون رفضنا للكذب، أو السرقة، مبنياً على فتوى أو حديث نبوي، فالتحرّش والاغتصاب والعنصرية لا يوجد حديث فيها، وبالتالي هي مباحة حتى يحصل وينتبه أحد في رمضان ما، ويسأل "مفتيه" عن جواز أو عدم جواز التحرّش
مثلاً، ما حكم رجل ضرب زوجته بمصحف ثقيل حتى ماتت، هل يعتبر قاتلاً والمصحف أداة جريمة أم أن الأمر قضاء وقدر؟
ثمة مسائل كبرى ربما (أقول ربما) تحتاج لاستفتاء وسؤال، لكن من غير المعقول أن تتساءل فلاحة في صعيد مصر عن جواز أو عدم جواز، حلب بقرتها الوحيدة وهي في حالة حيض وليس عندها من يقوم بذلك، أو أن يتساءل فلاح من القامشلي عن جواز النوم على "بالة" القطن باعتبارها أنثى. هذا يتجاوز المنطق البسيط ويخرجك تلقائياً، ليس فقط من الإسلام باعتباره دين رحمة، لكن أيضاً من الحياة بأكملها باعتبارها عبئاً ومعصية مستمرّتين، ويجعل كل ما يمكن أن تفعله في حياتك هو التساؤل عن جواز أو عدم جواز الحياة نفسها، لكأن المفتين، ومن خلفهم فقهاء الإسلام، مهمتهم الوحيدة تقسيم اليوم إلى "يجوز أو لا يجوز والله أعلم".
نرشي ونستفتي
كنت أعمل، ذات فترة سوداء في حياتي، في شركة شهيرة في سوريا لاستيراد السيارات الصينية. تخيّل معي: أموال آتية من سلفيين سعوديين بالتزاوج مع فساد حكومي سوري مستشري، أضف إلى ذلك عقد نقص لدى صاحب الشركة تجعله يكره كل من أكمل تعليمه إذا إنه بالكاد يقرأ ويكتب، وكراهية إضافية لكل مظهر مدني في الشركة، باعتباره قادماً من أقاصي ريف إدلب المنغلق والقاسي.
إن ديناً يخاف من مقطوعة موسيقية، أو قصيدة شعرية، أو رسماً كاريكاتورياً، لهو دين يجب ألا يؤمن به أحد، سوى ساكني الكهوف والمتخفين في الظلمات
والنتيجة هي شركة فيها كل ما "يُغضب الله": سرقة، فساد، رشى، نميمة، مؤامرات طائفية، ابتزاز، تزوير، فواتير وهمية، بغطاء ديني رقيق، حيث تُحشر الشريعة الإسلامية في كل مفصل، ويضطرّ أغلب الموظفين للصلاة علناً لإقناع المدير المنتفخ بأموال السعوديين وفساد الأسرة الحاكمة في سوريا، أنهم يستحقون الاستمرار في العمل، رغم أنها تستخدم أحدث الأساليب في التسويق والمحاسبة والصيانة، وهذه الشركة العائلية أغرقت السوق السورية، وجزءاً من العراقية واللبنانية، بالسيارات الصينية سيئة الصنع رخيصة السعر، وسرقت مئات ملايين الدولارات من السوق السورية وأخرجتها إلى بنوك دبي، بالتعاون مع فاسدين في القصر الجمهوري كانوا يأخذون حصتهم من أعلى الكومة.
في هذه الشركة أُجبرت على الصيام (لم أصم أبداً، إنما ادّعيت ذلك) قبل أن يتمّ طردي لاحقاً، وكنت واحداً من ثلاثة علويين ومسيحي واحد (الثاني كان عامل بوفيه، والثالث محامي الشركة، وهو من جئت بمعيّته للعمل فيها، والمسيحي هو المهندس الميكانيكي المسؤول عن كل ما يتعلّق بالصيانة) يعملون في الشركة التي تحوي أكثر من عشرة آلاف موظف في كلّ المحافظات السورية، وواحداً من خمسة أشخاص فقط يحملون شهادات جامعية.
إن أمة تنتظر رأي مفتيها لتستمع إلى الموسيقا، وتنتظر رأي مفتيها لتترحّم على جار مسيحي أو علوي أو درزي، وتنتظر رأي مفتيها لتقرأ الروايات الرومانسية، لهي أمة غير جديرة بالبقاء أصلاً
المضحك أن شيخاً بلحية بيضاء طويلة وجلباب أبيض وزبيبة صلاة بحجم فأر، وكان إماماً أيضاً لأحد مساجد اللاذقية، كان من ضمن موظفي الشركة براتب مهول، وكان يُدعى للاجتماع مع الوفود التقنية الصينية لضمان عدم انحراف العقود الموقعة مع الشركة الصينية عن الشريعة الإسلامية، رغم أن الشيخ (وصاحب الشركة نفسه) لا يتكلم الإنجليزية، إلا أن وجوده كان ضرورياً لمنع الحرمانية، كما كانوا يقولون، وحقيقة لا أدري ماذا تعني الكلمة. موظف بمرتبة شيخ في أكبر شركة تمارس كل ما تنهي عنه الأخلاق والشيخ نفسه.
في مرة، وكان ذلك إبان غزو العراق والبحث عن أسامة بن لادن يشغل بال العالم، دخل الشيخ بشكل مفاجئ لاجتماع الوفد الصيني مع مدير الشركة. رأيت بعيني كيف انكمشت المترجمة الصينية صغيرة الحجم في مقعدها عندما فتح الشيخ الباب دون أن يطرقه ودخل، ورأيت كيف توسّعت أحداق المهندسين الصينيين الآخرين وتقلّصت أحجامهم الصغيرة أصلاً في مقاعدهم، قبل أن يُشرح لهم أن الأمر لا يتعلّق بعملية تفجير انتحاري أو خطف وطلب فدية، إنما لمباركة العقد وقراءة بعض الآيات لتحليله، والسماح بدفع الرشى للفاسدين في القصر الجمهوري.
كل هذا حصل ويحصل في مؤسسات تجارية أحلّت الشريعة عملها، فماذا لو كان هناك لبس، أو تحليل شائك؟ كيف نُخرج بعبع الشيوخ والفقهاء والتحريم من أدمغتنا؟ كيف ننظر لشجرة جميلة أو لوكر نمل ونتعجّب من قدرة الطبيعة على التنظيم بدون أن نقول: سبحان الله؟
إن أمة تنتظر رأي مفتيها لتستمع إلى الموسيقا، وتنتظر رأي مفتيها لتترحّم على جار مسيحي أو علوي أو درزي، وتنتظر رأي مفتيها لتقرأ الروايات الرومانسية، لهي أمة غير جديرة بالبقاء أصلاً.
وإن ديناً يخاف من مقطوعة موسيقية، أو قصيدة شعرية، أو رسماً كاريكاتورياً، لهو دين يجب ألا يؤمن به أحد، سوى ساكني الكهوف والمتخفين في الظلمات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com