شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"مؤسسات العنف" في المجتمع و"الدولة" السورية

رأي نحن والتاريخ

الخميس 18 مايو 202301:38 م

تشكل معادلة الحقوق/ الواجبات، محور العلاقة بين الشعب وحكومته في الدولة الحديثة، المعادلة التي تعمل بهدي الدستور والقوانين النافذة. وبسبب طبيعة الأنظمة غير الديمقراطية المناقضة لهذه المعادلة، لا بد لها من اعتماد أساليب الضبط وأدواته بأشكالها كلها، الضبط الذي يضمن انصياع المحكومين وولاءهم واستكانتهم. وتبدو تقاليد الانضباط الجمعي والتنظيم العسكري أو شبه العسكري لفئات المجتمع، هي ما يساهم بشكل فعّال في إدامة هذا الخضوع، خاصةً حين يتراكب مع شعارات كبيرة صراعية الطابع يجري تضمينها في أشكال الخطاب والثقافة والتعليم كلها.

وتُعدّ العسكرة تنميطاً وانتظاماً قسرياً للمجتمع لأداء مهامّ حربية أو شبه حربية، في حين تُمنع أشكال الانتظام الحرة والمستقلة ذات الطابع المدني، والأحزاب والنقابات والجمعيات إما أن تُقمع أو يجري تدجينها أو الاستيلاء عليها وتوظيفها وفق آلية تحاكي الانضباط العسكري.

ولعل المقدمات الأولى في سوريا كانت في ستينيات القرن الماضي، حين نجح حزب البعث في آذار/ مارس 1963، في الإمساك بالسلطة واحتكارها، فتم ربط الجيش بالحزب الحاكم بما يعني نزعاً لحيادية الجيش السياسية كما يُفترض في الدولة المدنية، بالإضافة إلى فرض حالة الطوارئ التي تطبقها الدول عادةً في حالات الحرب أو الأخطار الكبيرة التي تهدد الكيان الوطني أو الكوارث العامة، وقد كانت شرطاً للترقي الحزبي يومها، المساهمة في العمل الفدائي الفلسطيني. وبرغم استناد الحزب إلى قضيته القومية الأولى في وضع الاستعداد العسكري لعضو الحزب على رأس سلم الأولويات، إلا أنه يمثّل بدايةً لترسيخ فكرة أن البعثي الحقيقي هو البعثي المقاتل، وتالياً المواطن الصالح هو المواطن المقاتل.

طلائع... شبيبة وتدريب عسكري

يروى أن الرئيس الراحل حافظ الأسد، أعجبته تجربة منظمة الأطفال في كوريا الشمالية خلال زيارته لها عام 1974، من بين مظاهر أخرى لقبضة حكم نظام كيم إيل سونغ آنذاك، فاستلهم التجربة لإنشاء منظمة "طلائع البعث"، التي تهدف إلى تربية الأطفال على التمسك بشعارات حزب البعث وحب الوطن والقيادة، وتالياً لا بد من لباس موحد شبه عسكري، وفرض التنسيب التلقائي لجميع أطفال المدارس في مرحلتها الأولى في تظاهرة احتفالية كل عام دراسي، وما زال الأمر معمولاً به حتى اليوم برغم غياب النص الدستوري على قيادة البعث للدولة والمجتمع.

يروى أن حافظ الأسد، أعجبته تجربة منظمة الأطفال في كوريا الشمالية خلال زيارته لها عام 1974، من بين مظاهر أخرى لقبضة حكم نظام كيم إيل سونغ آنذاك، فاستلهم التجربة لإنشاء منظمة "طلائع البعث"

لم تكتفِ المنظمة بممارسة دورها في المدارس، فقد أقامت المعسكرات والمخيمات الصيفية لاستكمال عملها التربوي في توجيه الأطفال وتلقينهم وتدريبهم على شكل من الانضباط العسكري، يوجب على الطفل أن يؤدي التحية العسكرية "للرفيق المدرِّب" كلما التقى به.

أما منظمة" اتحاد شبيبة الثورة"، التي أنشأها حزب البعث أواخر الستينيات كمنظمة رديفة له، فقد جرى استثمارها وتفعيلها بطريقة جديدة منذ اندلاع الصراع الدموي بين السلطة والإخوان المسلمين في آخر عقد في سبعينيات القرن الماضي، فظهرت "كتائب البعث المسلحة" التي شاركت جزئياً في القتال، لكن وجودها كان ملحوظاً في كل الأماكن؛ كدوريات وحواجز وحرس لبعض المنشآت، وتطور الأمر إلى إقامة الدورات العسكرية تحت عنوان "دورات الصاعقة"، وترغيب الشباب في الخضوع لها وإغرائهم ببعض المكاسب التعليمية في المعاهد والجامعات وربما فرص العمل في الوظائف الحكومية، أو التفرغ في إحدى المنظمات أو النقابات.

وفي سياق تعميم مظاهر العسكرة، لجأ النظام إلى توسيع التدريب العسكري -أو الفتوّة كما شاعت تسميتها قبل ذلك بزمن في المرحلة الثانوية فقط- وجعله مادةً دراسيةً ابتداءً من الصف السابع وحتى نهاية المرحلة الجامعية، حيث يخضع الطالب الجامعي لمعسكرات تدريبية عدة يُعفى بمقابلها من جزء من مدة الخدمة الإلزامية، ويتلقى الطالب في الدرس الأسبوعي، أو في المعسكرات الصيفية، تدريباً على حمل السلاح والرماية وبعض المهارات الرياضية/ العسكرية والتوجيه العقائدي، والخضوع لهذه المعسكرات كان شرطاً للطالب الجامعي للتخرج، واستمر ذلك حتى تم إلغاء التدريب العسكري عام 2003، واستبدال اللباس المدرسي الموحد.

المظلة تأخذك إلى الجامعة

في أوائل الثمانينيات، وفي فترة نمو ما سُمّي بـ"سرايا الدفاع" وبروزها، والتي تشكلت في السبعينيات ويقودها شقيق "الرئيس"، كواحدٍ من تشكيلات الجيش التي لها خصوصيتها، نظمت دورات القفز المظلي لأعضاء منظمة الشبيبة، وهو ما كان يؤمّن بعض الامتيازات، أهمها منح من أنجز الدورة درجاتٍ إضافيةً في الشهادة الثانوية تؤهله لدراسة فرع جامعي أعلى، وليس المهم هنا كم تنطوي هذه الآلية على احتقار العلم والمؤسسات التعليمية ومعاييرها، وإهدار مبدأ تكافؤ الفرص، فالأولوية لأساليب كسب الولاء. حينها انتشر الرسم الكاريكاتوري المشهور لعلي فرزات، ويظهر فيه مظلّي يهبط في كلية الطب.

ولم يكن نادراً أن يمارس هؤلاء المظليون شكلاً مبكراً من أشكال "التشبيح" في الشارع، وفي بعض المؤسسات، بما فيها الدخول إلى المدارس باللباس العسكري بذريعة أن تلك أوامر "القائد"، والقائد المقصود هنا هو شقيق "الرئيس".

إن كثرة تداول مصطلحات وتسميات مثل" الجيش الشعبي" و"الحرس القومي" و"الحماية الذاتية" و"الكتائب المسلحة" و"معسكرات الفتوة" و"الدفاع الوطني" وغيرها، تعبير عميق الدلالة على نهجٍ يريد وضع المجتمع بكل فئاته ومؤسساته وثقافته في حالة تحفز واستنفار كامل لمواجهة "الأعداء الأشرار" الذين لا يكفّون عن التآمر على الوطن، ولا بد من الحضور الدائم للأعداء ولخططهم التدميرية، ولا بد من وجود "أعداء الداخل"، وبديهي أن "أعداء الداخل" عبارة تشمل معارضي الرأي، الخونة، حيث أن اعتصاماً صغيراً من 20 شخصاً للتعبير عن مطلب ما، كان يواجَه بإنزال أضعاف هذا العدد من البعثيين قبالتهم هاتفين بفداء القيادة بالروح والدم، ولا يخفى هنا الطابع العسكري حتى لهتاف من هذا النوع، كونه يتضمن عنفاً رمزياً يستبطن إقصاء المختلفين ونفيهم من "جنة الوطنية".

الحذاء العسكري كأيقونة

كان من الواضح منذ الأيام الأولى للانتفاضة السورية، وتجرؤ السوريين على النزول إلى الشارع والتظاهر، أن النظام قد قرر مسبقاً المواجهة العسكرية وأعد خططه لها، لذلك بدأت ماكينته الإعلامية فوراً بتكرار ذكر الجيش ودوره ومكانته المقدسة التي يجب أن تكون "خطاً أحمر"، برغم أن الأمر لم يكن قد تعدّى بضعة آلاف يتظاهرون سلمياً، وقد أراد النظام بذلك التمهيد لزجّ الجيش في صراع دموي مع حالات الاحتجاج بعد إظهارها كأعمال عنف لا تخالف القانون فقط، بل تهدد وجود الدولة، أي الإيحاء لعموم السوريين -وربما لغيرهم- بأن ما سيحصل في سوريا هو اعتداء خارجي، وحرب إرهابية، وتهديد للسلم الأهلي، ومؤامرة دولية واسعة على سوريا وموقفها المقاوم، وتالياً لا بد من الاستعداد العسكري، والمواجهة بالسلاح لكل من يقبل بالانخراط في هذه المؤامرة التي تشكل المظاهرات جزءاً منها.

انتشر اللباس العسكري بين المدنيين، ووصل الأمر إلى إنجاز مجسّم كبير لحذاء عسكري، مرفوعاً على منصة تعلو فوق هامات العابرين(!)، وصور عدة لـ"مواطنين" يضعون الحذاء العسكري على رأسهم

ومنذ الأيام الأولى، عملت آلة الإشاعة والتخويف على دفع المدنيين إلى إقامة الحواجز على مداخل الأحياء والقرى، بإشراف الأجهزة الأمنية وبتسليحٍ منها، فضلاً عن تسهيل انتشار السلاح غير المرخص والتعامي عن تهريبه، ثم تشكيل المجموعات العسكرية الرديفة التي تساهم في بعض العمليات العسكرية، لكنها في الوقت نفسه دائمة الاحتكاك بالمدنيين وتقوم بأعمال التشبيح والتسلط والسطو باستخدام السلاح، بما في ذلك سرقة مؤسسات الدولة، وتكاثرت عمليات القتل والخطف حتى في المدن والقرى البعيدة عن الجبهات العسكرية من دون أي جهود لكبحها ومواجهتها من قبل السلطات المختصة.

نشطت الآلة الإعلامية للنظام في تسويق الشعارات والرموز العسكرية وتكريسها وإضفاء القداسة عليها، وهتافات التحية للجيش وتبجيله انتشرت بين أطفال المدارس بحيث صارت تُسمع في الشارع ويهتف بها أطفالٌ دون سنّ المدرسة، وانتشر اللباس العسكري بين المدنيين، ووصل الأمر إلى إنجاز مجسّم كبير لحذاء عسكري في ساحة إحدى المدن، مرفوعاً على منصة تعلو فوق هامات العابرين(!)، وانتشرت صور عدة لـ"مواطنين" يضعون الحذاء العسكري على رأسهم، كنوعٍ من العرفان بالجميل لجيش حفظ الوطن وحدوده وحياة مواطنيه(!)، في الوقت نفسه الذي كانت فيه معظم أراضي الدولة خارج سيطرة النظام وأعداد الضحايا بمئات الآلاف والمهجرين والنازحين بالملايين.

إذاً، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ويجب فرز جميع المحكومين إما إلى جيشٍ كبير يدافع عن الوطن، وإما إلى أعداء يستحقون الإقصاء والمحو، ويجب التغني بقيمة الشهادة، ويجب على الأهل الافتخار بتقديم أبنائهم الشباب فداءً للوطن والقيادة، وإلباس الأطفال الزي المموّه وبالرتب العسكرية، ويجب أن تتحول جدران المدن إلى معرض كبير لصور الشهداء بلباسهم العسكري، ويجب عدّ ضابط الجيش نموذجاً للنجاح ومبعث فخر لذويه؛ هالة القداسة هنا ليست عبثاً، ولا عرضاً جانبياً لسياسة الضبط فقط، بل توظيف ذكي يريد تطبيع الصراع العنيف مع الآخرين وعدّه من طبيعة الأشياء مقابل تهشيم الطابع المدني للدولة بما يحمل من تنافس سياسي وتنوع، وتنمية وثقافة وتداول للسلطة وحوار بين المختلفين، فالحوار الوحيد الذي تتقنه السلطة مع خصوم الداخل هو حوار السلاح، ومظاهر العسكرة تفضح آلية الإكراه المفضلة لديها.

أفضت هذه المظاهر كلها إلى اختلال عميق في علاقة المدنيين بدولتهم، فالمدني سواء كان عابرَ طريق أو واقفاً في طابور الخبز أو موظفاً أو أستاذاً جامعياً أو وزيراً، هو أضعف ما يكون في مواجهة أي عسكري في الأمن أو الكتائب المسلحة أو الدفاع الوطني أو غيرها، لتكرس دور مؤسسات العنف كأداة قمع يخشاها المحكومون ويخضعون لإرادتها، بدلاً من كونها جزءاً من تكوين دولة المؤسسات تؤدي وظيفةً مقدسةً في حفظ الأرواح وسلامة الحدود والمؤسسات والسيادة. فهل تشهد سوريا في القريب المنظور تغييراً يفضي إلى تصحيح هذا الاختلال؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image