شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"ونلفت الأنظار إلى"... صحافيات قُدن الثورة النسائية الفكرية في العالم العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 12 مايو 202301:37 م
Read in English:

Women journalists who led the feminist intellectual revolution in the Arab world


بالبحث في سجلات التاريخ العربي الحديث نجد صفحات مضيئةً ومشرقةً خطّتها أقلام النساء، صولات وجولات مثّلت ثورةً فكريةً رائدةً، فأقوى الثورات تلك التي قامت على أساس العلم والمعرفة، فسلكت طريق العقل، لتسطر بها رصاصات الحبر من الكلمات مصائر الشعوب العربية، ولم تكن معركة المرأة العربية الفكرية سهلةً، بل كان الطريق شاقّاً، وضريبة السير فيه فادحة، لكنها لم تبخل بالعديد من التضحيات، إيماناً بعدالة قضيتها، وصدق رسالتها.

كانت الصحافيات العربيات في طليعة رائدات الثورة الفكرية العربية للنساء، إذ حملت كتاباتهن رؤيةً مستقبليةً تسبق عصورهن، رافضةً للأوضاع القائمة، ومعلنةً التحدي في مواجهة أقفاص المهانة التي رسمها الجهل، فصدرت المجلات النسائية لتنشر دعوات المساواة والحرية، وتطالب بحقوق المرأة، ولم تكتفِ كتابات الثائرات العربيات الأُوَل بقضايا المرأة فقط، بل ساهمت في نشر الوعي السياسي لدى المرأة العربية، كما لم تكن هؤلاء الصحافيات صاحبات قلم فقط، بل اشتركن في العمل السياسي وتظاهرن في الشوارع وواجهن الطغيان بصدر رحب.

هند نوفل... صاحبة أول رصاصة

في كتابه "مصادر الأدب النسائي في العالم العربي الحديث"، يروي جوزيف زيدان، بداية نشأة بطلتنا، في مدينة بيروت في لبنان، في أسرة سورية ساحلية اشتهرت بالعلم والمعرفة. وُلدت هند نوفل عام 1860، وتلقت علوم العربية والإنكليزية في المدارس الإنكليزية لمدة ثماني سنوات، قبل أن تنتقل أسرتها إلى الإسكندرية في مصر، حيث التحقت بمدرسة الراهبات، وتعلمت العربية والفرنسية، وتتلمذت على يد الشيخ أحمد الإسكندراني. وقد أثرت هذه النشأة في أخلاق هند، إذ عُرفت بالحديث اللبق وعزة النفس والوقار والذكاء. وفي بيت والدها، الأديب الصحافي نسيم نوفل، التقت بالعديد من كتاب العصر وشعرائه وأدبائه، وناقشتهم، ما كان له كبير الأثر في تذوقها للأدب والشعر.

كانت الصحافيات العربيات في طليعة رائدات الثورة الفكرية العربية للنساء، إذ حملت كتاباتهن رؤيةً مستقبليةً تسبق عصورهن، رافضةً للأوضاع القائمة، ومعلنةً التحدي في مواجهة أقفاص المهانة التي رسمها الجهل

ويقول الدكتور إسماعيل إبراهيم في كتابه "صحفيات ثائرات" إن المرأة العربية في ذلك الوقت لم تكن تتلقى التعليم إلا قليلاً، حيث كانت الأسر ترحب بمولد الذكور، وتحزن لمولد الإناث، فعانت المرأة الكثير من الإهمال خلف جدران المنزل، إذ لم يكن هناك وعي بين الآباء لتعليم بناتهن، بل كانوا ينظرون إلى تعليم البنت بوصفه عملاً من أعمال الشيطان. كانت هند صاحبة عزم كبير وهمة عالية، وأفكار متقدمة، وكانت تؤمن بأن المرأة لا بد أن تحتل مكانتها بجانب الرجل، ولا بد أن تتمتع بحقوقها، وفي مقدمتها التعليم والعمل والثقافة.

ويشير إسماعيل إبراهيم في كتابه المشار إليه أعلاه إلى أن هند كانت تعرف أهمية الصحافة ودورها في تنمية الوعي وإيقاظ الأمة، ولذلك رأت أن أفضل وسيلة للارتقاء بالمرأة العربية ومساعدتها على نيل حقوقها، خاصةً الصحافة التي تتوجه إلى النساء. ولذلك استقر عزمها على إصدار مجلة تكون منبراً تدعو من خلاله إلى تخليص المرأة من قيود الجهل، وبمساعدة والدها وعمها، في العشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1892، أصدرت هند مجلة "الفتاة" لتكون أول مجلة نسائية في الوطن العربي، وتصبح أم الصحافيات العربيات وعميدتهن.


في كتابها "الحركة النسائية الحديثة... قصة المرأة العربية على أرض مصر"، تنقل د. إجلال خليفة أن الأوساط الأدبية والصحافية قد احتفت بهذه الصحيفة الجديدة، فعدّتها "المقتطف" درةً ثمينةً بين الجرائد، ووصفتها "الهلال" بكونها أول جريدة عربية أنشأتها سيدة شرقية، جمع جزؤها الأول لطف المرأة ونشاط الرجل، ووصفها زعيم الصحافيين إسماعيل الخشاب بقوله: "أما مباحث هذه المجلة فكانت مبتكرةً تحت سماء الشرق، بمواضيعها المتعلقة بالجنس اللطيف، فكانت تتحاشى الأمور السياسية، عملاً بمبدئها الوحيد وهو الدفاع عن حق المرأة المسلوب". وظلت لفظة "جريدة" ترِد في تعريف الفتاة، ثم استُبدلت بلفظة "مجلة" ابتداءً من جزئها السادس.

في إصلاح أوضاع النساء، إصلاح للهيئة الاجتماعية والجنس البشري، فهن مربيات الأجيال؛ بهذه النظرة الفلسفية كانت ترى روز أنطون حداد هدفَها الأساسي كونها من رائدات الصحافة النسائية.

وفي افتتاحية العدد الأول لمجلتها، توضح هند الهدف الذي أصدرت من أجله مجلتها، وتبيّن الخط الذي سوف تسير عليه.

وينقل نيقولا يوسف، في كتابه "أعلام من الإسكندرية" افتتاحية العدد الأول لـ"الفتاة"، تحت عنوان "إيضاح والتماس واستسماح"، وفيه كتبت هند: "سيداتي: إن مبدع العالم ومدبر الكائنات قد أوجد العناصر، وأودعها من خصائص الفعل والانفعال والتجاوب والتدافع والتواصل والتفارق، وميّز كلاً منها بخواص مختلفة، وأوضاع شتى على وجه غريب ونمط عجيب، ثم ألّف منها عالماً كبيراً".

وتقول إجلال خليفة في كتابها المشار إليه أعلاه إن هند عرّفت مجلتها في افتتاحيتها بأنها جريدة "علمية، تاريخية، أدبية، فكاهية، لن تخوض في الأمور السياسية والمشاحنات الدينية، بل إنها سوف تهتم بكل ما يتصل بالنساء، والدفاع عن حقهن المسلوب، والالتفات إلى الواجب المطلوب".

وطبقاً للدكتور إسماعيل إبراهيم، في كتابه المشار إليه فإن "'الفتاة' قد قدّمت خدمات جليلةً للحركة النسائية في ذلك الوقت المبكر، فكانت جامعة نسائية شاملة، حيث أفادت الحياة النسائية في نهاية القرن الماضي، ووضعت بعض الأسس لمستقبل المرأة بعد ذلك، وكان دور هند في الحركة النسائية كرائدة للصحافة النسائية في البلاد دوراً كبيراً ومهماً، كما أنها أفسحت صدر مجلتها لأقلام سيدات من مصر والدول العربية، يعبّرن فيها عما يختلج في رؤوسهن من أفكار وأحلام وأمنيات لفتاة المستقبل، واستمرت 'الفتاة' حتى بداية 1894، عندما توقفت بسبب زواج هند، وانشغالها بأمور المنزل والأسرة".

روز حداد... رائدة الدعوة إلى الوحدة العربية والتحذير من الخطر الصهيوني

في إصلاح أوضاع النساء، إصلاح للهيئة الاجتماعية والجنس البشري، فهن مربيات الأجيال؛ بهذه النظرة الفلسفية كانت ترى روز أنطون حداد، هدفها الأساسي كونها من رائدات الصحافة النسائية. ويروي إسماعيل إبراهيم في كتابه سابق الذكر قصةَ روز التي وُلدت في طرابلس لبنان عام 1882، حيث تلقت دراستها الابتدائية والعالية في مدرسة الأمريكان، ثم نزحت إلى مصر مع أسرتها، حيث عملت مدرّسةً، ثم ناظرةً لمدرسة، وكان لتعليمها أثر كبير في إيمانها بأن رقي المرأة يعني رقي الأمة والمجتمع والجنس البشري.

وكانت ترى أن الصحافة مثلها مثل المدرسة التي تقوم بوظيفة التربية، فكان عملها في صحف أخيها الأديب فرح أنطون، الذي أهّلها لإصدار مجلتها الخاصة. في نيسان/أبريل 1903، في مدينة الإسكندرية، صدر العدد الأول من "السيدات والبنات"، وكانت مجلةً نسائيةً، عائليةً، أدبيةً، وفكاهيةً، واستمرت في الصدور بشكل شهري حتى تشرين الأول/أكتوبر 1906، بسبب سفر أخيها إلى أمريكا، إذ كان يساعدها في إصدار مجلتها، وكانت روز تعتمد في تحرير مجلتها على المصادر الأوروبية لمؤلفين ومؤلفات من الإنكليز والأمريكان، وضمت المجلة أبواباً ثابتةً مثل "أشهر النساء"، و"المنزل والمطبخ والمائدة"، و"الجنة تحت أقدام الأمهات".


وتشير إجلال خليفة في كتابها "الصحافة النسائية في مصر" إلى أن روز عادت إلى الصحافة من جديد في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1921، بعدما غيّرت اسم المجلة إلى "السيدات والرجال"، وقد تغيرت المادة التحريرية في المجلة بعد عودتها، حيث بدأت المجلة تعمل على توعية المرأة سياسياً، ونشرت مقالات عدة بأقلام كاتبات سوريات عن آرائهن تجاه نهضة المرأة العربية، وأضيفت أبواب جديدة مثل "عوامل النهضة في الشرق".

ينقل إسماعيل إبراهيم في كتابه بعضَ كلمات روز في مجلتها للدفاع عن حقوق المرأة، حيث كتبت: "ونلفت الأنظار إلى حقيقة أصبحت واضحةً وضوح النهار، وهي أن النظام الاجتماعي القادم يستلزم أن تنزل المرأة إلى ساحة العمل كالرجل، لأنها تطلب مساواتها به في الحرية والاستقلال، فيجب أن توازنه في العمل أيضا".

وسياسياً كتبت روز عن دور البرلمان في مصر، وتطور النظام البرلماني في العالم. ويستطرد إسماعيل إبراهيم موضحاً أن روز قد اهتمت عبر مجلتها بمعالجة مشكلات الوطن العربي، وكانت سباقةً في الدعوة إلى الوحدة العربية، ونقلت ما يجول في أذهان الشعب السوري، خاصةً تجاه الحكم التركي ثم الفرنسي، وطالبت بالوحدة العربية ليتحقق الاستقلال والقوة في الوقوف أمام أطماع الدول الأخرى، كما نادت بالحفاظ على اللغة العربية، وكان لها السبق في إيقاظ الوعي العربي بقضية فلسطين، والخطر الصهيوني على الأمة العربية. وكانت "السيدات" أول مجلة نسائية تطالب باتحاد الوطن العربي لمواجهة شرور الاتحاد الأوروبي، منبهةً إلى خطورة المخططات الصهيونية على أهل فلسطين.

درية شفيق... الصحافة ليست مجرد قلم

في 14 كانون الأول/ديسمبر 1908، وفي مدينة طنطا في مصر، وُلدت درية شفيق، حيث أتمت دراستها الابتدائية والثانوية في مدرسة نوتردام، ثم التحقت بمدرسة الليسيه الفرنسية في الإسكندرية لتحصل على شهادة البكالوريا، قبل أن تسافر إلى فرنسا عبر منحة من وزارة المعارف لاستكمال دراستها في جامعة السوربون، حيث حصلت على درجة الدكتوراه.

يقول إسماعيل إبراهيم، إن درية شفيق كانت على علاقة وثيقة بالأميرة شويكار، التي منحتها رئاسة تحرير مجلة "المرأة الجديدة" عام 1945، قبل أن تصدر "درية" أولى مجلاتها "بنت النيل"، ثم مجلة الأطفال "الكتكوت" عام 1946. وفي عام 1948 أسست درية اتحاد بنت النيل وهو حزب سياسي نسائي، كخطوة على طريق نضال المرأة المصرية والعربية، وطالبت من خلاله بتعديل الدستور وقانون الانتخاب ليُسمح للمرأة بمزاولة حق الانتخاب والترشح، وتمكينها من المساهمة مع الرجال في الدفاع عن أرض الوطن عبر تعديل قانون التجنيد، كما طالبت بالعمل على أن تتولى المرأة جميع وظائف الدولة، وبالمساواة المطلقة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات.

وتضمن برنامج الحزب مطالب لاستصدار القوانين الخاصة بحماية الأم والطفل، وتعميم مشروع "بنت النيل" لمكافحة الأمية بين النساء في مدى خمس سنوات، وإقامة المعسكرات الصيفية لطالبات الجامعات ومعاهد تعليم البنات، وإصدار تشريعات لحماية العاملات والفلاحات. وعندما تم إلغاء الأحزاب السياسية عام 1953، تحول الحزب إلى اتحاد نسائي.

في عام 1948، أسست درية اتحاد بنت النيل وهو حزب سياسي نسائي، كخطوة على طريق نضال المرأة المصرية والعربية، وطالبت من خلاله بتعديل الدستور وقانون الانتخاب ليُسمح للمرأة بمزاولة حق الانتخاب والترشح

وتروي إجلال خليفة في كتابها "الحركة النسائية الحديثة" أن د. درية شفيق قادت مظاهرةً نسائيةً كبيرة إلى البرلمان المصري في 1951، للمطالبة بالمساواة بين الجنسين في الحقوق الانتخابية، وقد انطلقت المظاهرة من قاعة يورت في الجامعة الأمريكية، حيث كن يعقدن مؤتمرهن، وهن يحملن لافتات "الحرية والمساواة والسلام"، ويهتفن بسقوط الرجعية، والاستعمار عدو المرأة، وحينما وصلن إلى مقر البرلمان قمن بتوزيع منشورات على أعضائه تتضمن توصيات بقراراتهن التي اتخذنها في مؤتمرهن.

بعدها قررت درية ومعها مجموعة من زميلاتها الاعتصام في نقابة الصحافيين والإضراب عن الطعام، وقد أحدث الاعتصام دوياً إعلامياً كبيراً، واتصلت السلطات المصرية بهن مطالبةً إياهن بتقديم مذكرة بأسباب اعتصامهن، وانتهى الإضراب بعد أن أخبرهن الرئيس محمد نجيب بأن مطالبهن وصلت إلى اللجنة المختصة بتكوين الجمعية التأسيسية للدستور للنظر فيها.


في عام 1957، أقدمت درية على الاعتصام والإضراب عن الطعام مرةً أخرى، ولكن هذه المرة في السفارة الهندية في القاهرة، وأصدرت بياناً طالبت من خلاله السلطات الدولية بالعمل على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المصرية، والوصول إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين العرب، كما طالبت السلطات المصرية برد الحرية التامة للمصريين وإنهاء الحكم الذي يسير بالبلاد إلى الإفلاس والفوضى، ووصفت خطواتها بأنها إقدام على التضحية بحياتها لتحرير بلادها.

يروي إسماعيل إبراهيم في كتابه،أن الرئيس نهرو طلب من عبد الناصر عدم القبض عليها، فوافق عبد الناصر على تحديد إقامتها في شقتها في حي الزمالك، وأصدرت الحكومة قراراً بإغلاق مجلة "بنت النيل" و"المرأة الجديدة" و"الكتكوت"، فأقامت درية دعوى قضائية لإلغاء القرار، إلا أن الدعوى قوبلت بالرفض، وأيّدت المحكمة قرار الحكومة.

وكما كانت ثائرةً في حياتها، أرادت أن تكون ثائرةً أيضاً في مماتها، وكأنها أرادت أن تعلن رفضها لكل ما عانته، فقررت إنهاء حياتها في ضجة وجلبة، ففي ظهيرة الـ20 من أيلول/سبتمبر سنة 1975، أنهت درية شفيق حياتها بالإلقاء بنفسها من الظابق السادس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image