"تذوّقها ولا تخَف. إنّك في تافيلالت، أصل حكاية الحُكم في المغرب. وفي هذه الأرض، لا يمسّنّك أيّ سوء"؛ بهذا الفرح، يتحدّث إلينا صاحب فرن في مدينة الريصاني، جنوب شرق المغرب، بينما ننتظر أن تنتهي فترة تحمير "المدفونة" في داخله.
صاحب الفرن يقصدُ المدفونة، أو "البيتزا البربرية" كما يحلو "للدّخلاء" تسميتها. المدفونة قصّة. لكن ليست قصّة وجبة فحسب، بل قصّة تاريخ وخصوصيّة سوسيو-ثقافيّة فريدة ضاربة في أعماق "هامش الهامش". فما أصلها؟ وما مكوّناتها؟ وما هو الدور الذي تحتلّه ضمن البناء الثّقافي لمنطقة تافيلالت؟
مكوّنات وأصل!
توجّه رصيف22، إلى محلّ إحسايني للجزارة، الكائن عند مدخل السوق المركزي. الجو حار للغاية في المدينة. بمجرّد أن تخطو الخطوة الأولى داخل الفضاء، يبدو "الكونتوار" "الزّليجيّ" فاقعاً، ويظهر خلفه زكرياء وهو يحمل سكّينه التي يقطع اللّحم بها إلى أجزاء صغيرة لإعداد المدفونة، وروائح اللّحوم منتشرة في الأرجاء.
وبينما يداه وعيناه منصبّة على إعداد "حشوة" المدفونة، يتحدث زكرياء إلى رصيف22، عن مكونات هذا الطّبق، التي من بينها "اللّوز والبيض المسلوق والقليل من الشحمة؛ وطبعاً اللّحم الذي يُحدَّد حسب حجم المدفونة، فالصغيرة تتضمن زهاء نصف كيلوغرام من اللحم، والمتوسطة تشمل ثلاثة أرباع الكيلوغرام الواحد، والكبيرة تحتوي على قرابة كيلوغرام كامل منه".
يضيفُ زكرياء، الكزبرة والبصل والكثير من التوابل إلى الحشوة ويخلطها، ثمّ يتحدّث معنا عن الثّمن، الذي يقول إنه "يغطي مراحل إعداد المدفونة كافة، من الحشوة إلى العجين الذي سيعدّه صاحب الفرن، بالإضافة إلى ثمن الطهي. والمرجح أنّ كلّ جزار في المدينة يتعامل مع صاحب فرن معيّن. وثمن المدفونة إجمالاً يتراوح بين 50 و120 درهماً (5 و12 دولاراً)؛ 50 أو 60 درهماً ثمن الصغيرة، و70 أو 80 درهماً ثمن المتوسّطة، بينما المدفونة من الحجم الكبير يتراوح سعرها من 90 إلى 120 درهماً. وعموماً، قد تحتاج المدفونة إلى نحو ساعة ونصف لإعدادها وتقديمها".
بعد أخذ المعلومات المتعلقة بالإعداد الأولي كلها، نغادر السّوق المركزي، ونلتقي بعزيز أجهبلي، الصّحافي وابن المنطقة، ليحدّثنا عن أصل هذه الوجبة. يقول أجهبلي إن المدفونة "لم تكن في يوم من الأيّام أكلةً شعبيّةً، كما نرى الوضع اليوم، بل كانت مرتبطةً بمناسبات خاصّة ومحددة، كعيد الأضحى الذي يسمّيه المغاربة العيد الكبير. كما ارتبطت بالأعراس تحديداً، إذ تحضر المدفونة على المائدة الأولى التي يتناولها العريس والعروس في يومهما الأوّل، أو قل في الوجبة الأولى التي تجمعهما".
لكنّ السّؤال الذي يطرحه أجهبلي في حديثه إلى رصيف22، هو لماذا ارتبطت هذه الأكلة بالمناسبات؟ لأنه، وكما يعلم الجميع، المادّة الخام والأساسية للمدفونة هي اللحم الأحمر، وهي مادة لا تتوفر بكمية محترمة إلا في عيد الأضحى وفي مناسبات معيّنة، كالأعراس مثلاً، وفي حفلات العقيقة والضّيافات الفاخرة.
لم تكن في يوم من الأيّام أكلةً شعبيّةً، كما نرى الوضع اليوم، بل كانت مرتبطةً بمناسبات خاصّة ومحددة، كعيد الأضحى الذي يسمّيه المغاربة العيد الكبير. كما ارتبطت بالأعراس تحديداً
يعدّ أجهبلي هذه الأكلة، في الأصل، إبداعاً خالصاً لنساء المنطقة. والمرجح أنّ تافيلالت لم تعرف هذا الطّبق قبل خمسينيات القرن الماضي، وحتى لو كانت موجودةً في حقبة من تاريخ هذا الفضاء السوسيو-ثقافي، فليست هناك لا كتابات ولا وثائق تؤكّد ذلك.
في المقابل، ثمة سرديات شفويّة شائعة مفادها أنّ هذه الأكلة من بنات أفكار نساء الرحّل الأمازيغ، وذلك لأنّ الرّحل يتوفّرون على قطعان من الغنم والماعز، وهو ما يخوّلهم إضافة اللحم إلى هذا الخبز، الذي يسمى في ثقافتهم "أغروم نوگنسو". وكان في بداياته يُدفن تحت الجمر في التراب، ولهذا سُمّيت بـ"المدفونة"، وفق الرّوايات ذاتها.
يتماهى أجهبلي مع هذه الروايات، ويقول: "فعلاً، ووفق ما يلاحَظ، فالمرأة في المنطقة، حتى لا أقول المرأة الفيلالية حصراً، هي من طوّرت تجربة إعداد المدفونة واستلهمتها من نوع من الخبز الخاص بمناطق أسامر (الجنوب الشرقي)، وهو 'خبز الوسط' أو 'خبز الدواز' أو 'خبز البصل'. وهذا النوع من الخبز يُعدّ، أساساً، حسب ابن المنطقة، من البصل والتوابل، وفي بعض المرات يضاف إلى ذلك الجزر المدقوق (خيزو مطحون). وكل هذه المواد يتم لفّها بالعجين وكانت تُطهى في الأفران التّقليدية الطينيّة المعروفة محليّاً بـ'الكوشة"'.
أكثر من وجبة؟
المدفونة وجبة مالحة، وأحياناً شديدة الملوحة. نتذوّقها ثم نقصد الباحث في الثّقافة المحلية، عبد الرحمن أحميداني، ليساعدنا في سبر أغوارها أنثروبولوجيّاً. ويرى أحميداني أنّها، ابتداءً، "وجبة مميّزة للمطبخ الفيلالي، مثل نظيرتها 'الطّنجية' في مراكش. فمن السّهل جدّاً، هنا، الرّبط بين الأكلة وموطنها الذي تدخل جغرافيته ضمن مكوّناتها. فالشهير أنها لا تستوي إلا في تافيلالت، ولا يمكن لمن هيَّأها خارج أرض تافيلالت إلاّ أن يلاحظ أنها لا تحظى بالذّوق والنّسمة اللذين يميزانها عندما تُحضّر في هذه المنطقة الهامشيّة، إذ معروف أن البهارات تحتلّ مكانةً مهمةً في نكهة المدفونة، لذلك يُكثر منها الفيلاليّون".
يصمتُ أحميداني قليلاً، ثم يتابع بصوت خفيض مشيراً إلى المدفونة: كما نلاحظ، هنا، فالمدفونة أكلة تجسد طابع الاختصار، حيث يجتمع في حجمها الصغير ما يمكن لو جُزّئ أن يعطي الكثير من المكوّنات: كالخبز، الخضروات، اللّحم، البيض، واللوز... ولذلك فإن من أكلها لا يحسّ بالجوع إلا بعد مدّة طويلة لأنها مركزة العناصر. المدفونة، بهذا المعنى، تعفيك من جهد كان يمكن أن يكون مضاعفاً لو حضّرت كل شيء بمفرده، في محاولة لتحصل في النهاية على مائدة ممتلئة.
ولعلّ هذا، بالضبط، وفق ما يفصله أحميداني لرصيف22، "ما جعل المدفونة تُعدّ أسمى أشكال الكرم في المنطقة. فإذا حضّرت المدفونة لضيفك، فأنت تحتفي به، ثقافيّاً وتدمجه في بيئتك. ولقد شاع في المنطقة أنك إن وضعت مثلاً طبقاً من الدّجاج دون اللّحم في البرقوق، مثلاً، أو العكس، فهذا حتماً معيب في حق كرمك، وفق أنماط تفكير أهل المنطقة وأعرافهم. بينما المدفونة، وبرغم أنّها وجبة واحدة، إلا أنها تجعلك تفتخر أمام ضيوفك، لأنك قدّمت لهم أفضل ما يوجد في ثقافتك الغذائيّة".
لا تستوي إلا في تافيلالت، ولا يمكن لمن هيَّأها خارج أرض تافيلالت إلاّ أن يلاحظ أنها لا تحظى بالذّوق والنّسمة اللذين يميزانها عندما تُحضّر في هذه المنطقة الهامشيّة، إذ معروف أن البهارات تحتلّ مكانةً مهمةً في نكهة المدفونة
ومن الواضح أن المدفونة خرجت من مطبخ الأسر في تافيلالت وخيام الرحّل في أسامر، وأصبحت تُعدّ في السوق. لذلك يشرح لنا سكان المنطقة أنّه حين عُرفت هذه الوجبة في السّوق، ظهرت محال خاصة بالأكل تحضّرها للزبائن في مدينة الريصاني. ويرجح الفيلاليون أن ذلك مرتبط بالتّحولات البطيئة التي طرأت على المجتمع الفيلالي.
وللتّذكير، فإن إعداد موائد الإطعام في المناسبات الكبرى كالأعراس مثلاً، كان الذكر هو من يتولاه. وبما أن المدفونة لم تكن شعبيةً إطلاقاً، فهناك من "تحايل" على هذه المائدة وأخرجها من داخل الأسرة وسوقها وأخضعها للعلاقات التبادلية في سوق الريصاني على وجه التحديد، وأصبحت ناجحةً ومتداولةً تجاريّاً.
وفي بداياتها الأولى في السوق، تمت تهيئة محال خاصّة لإعدادها. وكان الرّجال هم الذين يقومون بذلك، حتى أن الجزارين كانوا في البداية يتفادون القيام بذلك، ويكتفون ببيع اللحم فقط. والمحال التي كانت تُعدّ فيها هي عبارة عن أفران تقليدية تتولى إعداد العجين وعملية الخبز والطرح.
والعائلات التي كانت تمتهن هذه الحرف معروفة في المنطقة. لكن اليوم، أصبحت تُهيّأ بصفة حصرية عند الجزّار، وأصبحت تُعدّ حتى باللّحوم البيضاء في السنوات الأخيرة لأصحاب "الرّيجيم". وذلك برغم تحفّظات أهل المنطقة على "المسخ"، الذي طال روح المدفونة وشكلها.
نحو تشريح موضوعي !
التقى رصيف22، بالجامعي والباحث في السيميائيات الثقافية، عبد الله بريمي، ففصّل "البناء الثقافي" للمدفونة، بشكل يتجاوز كل الاعتبارات اليوميّة. ولهذا، يرى بريمي أنه "من الأساسيّ محاكمة علامات هذه الثقافة ودلالاتها، والتي ترقى إلى ما أسماه أمبرتو إيكو، بالسميائيات الناجعة والفعالة؛ فنحن ندرك مسبقاً أن الطعام لغة دالّة ولها شيفرات خاصة، لكنه في الوقت نفسه قادر على نقل قيم وترويجها وصياغة نماذج لعلاقاتنا وطريقتنا في التعامل والتواصل والتّفكير".
بناءً على ذلك، يتساءل بريمي: ما هي، مثلاً، القيم المرتبطة ببعض الأطباق الرئيسية في المطبخ الفيلالي؟ وكيف يمكننا مقاربة هذا المطبخ من خلال أكلة "المدفونة" بطريقة سميائية من أجل ترسيخ بعض ثوابت الثقافة المغربية نفسها عامةً، والفيلالية على نحو خاص؟ وما هي المكانة التي يحتلها الذوق الرفيع والصحة العامة في المتخيّل عن الطاولة الفيلالية؟ بل كيف تصير المدفونة مرتبطةً ببناء الهوية الفيلالية في تعدد معاني الطعام؟ وكيف تندمج الخطابات الإعلانية التجارية المغربية اليوم مع تلك التي تروّج لمنتجات التغذية المحلية؟
يعدّ المتحدث المدفونة آليةً لفهم دور الاتصال في التجارب الغذائية اليومية، فالوجبة، هنا، "أكثر من مجرد مسألة تتعلق بالصحة العامة؛ إنها أيضاً مسألة التفكير في التفاوض على العيش معاً من خلال الطعام. وبما أن السميائيات علم يهتم بدراسة العلامات داخل الحياة الاجتماعيّة وتأويلها، وبدراسة الخطابات والنّصوص التي تتحدث عن ثقافة الطبخ وفنّياته وتعطيه تحقّقاته وتمثيلاته كافة، سواء في أذواقه أو في الطريقة التي يقدم بها أطباقاً للضّيوف مثلاً، فإننا -للأسف- لا نجد في تراثنا الأدبي والفني أشكالاً تعبيريةً أو فنيةً مكتوبةً أو مرسومةً أو مغنّاةً كُتبت عن المدفونة الفيلالية وروّجت لها، بل كل ما قيل حولها عبارة عن ممارسة شفهيّة تتوارثها الأجيال".
المدفونة آليةً لفهم دور الاتصال في التجارب الغذائية اليومية، فالوجبة، هنا، "أكثر من مجرد مسألة تتعلق بالصحة العامة؛ إنها أيضاً مسألة التفكير في التفاوض على العيش معاً من خلال الطعام
وبالنسبة لأستاذ السيميائيات في جامعة مولاي إسماعيل، فإنه اليوم، وفي ظلّ تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الرقمية أصبح الترويج لها من قبل خبراء التغذية وأرباب المطاعم في المدن المغربية الكبرى أمراً بالغ الأهمية والتأثير، بحيث نجد من يرادف بين المدفونة الفيلالية والبيتزا الإيطاليّة وهي مقارنة لا أساس لها من الصحة والفرق بينهما كبير جداً، شكلاً ومحتوى. المدفونة قبل كل شيء، شكل من أشكال التواصل الإنسانيّ، وليس ترفاً أن نجد "المدفونة الفيلالية" حاضرةً في لائحة أحد أكبر المطاعم التقليدية في العاصمة الرباط. فهذه الوجبة حلّقت من هامش الهامش إلى مركز المركز.
لذلك تشكّل ثقافة الطّبخ الفيلاليّة من خلال المدفونة، عمليّاً، جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ هذه الثّقافة الممتدّة، في كبرياء أناسها وكرمهم وبساطتهم الطافحة. وهنا، يُجمل بريمي بأنّه بعد كلّ الأشواط التاريخيّة التي قطعتها المدفونة، حتى أصبحت أكلةً معروفةً بثقافة ما، فقد استطاعت، كصوت قادم من هامش المغرب، أن تفرض نفسها على نسق الطبخ المغربي لتصبح في متناول العامة.
وبهذا أضحت ثقافة الطبخ الفيلالية قادرةً على خلق نموذجها الخاص من خلال المدفونة، وهو النموذج الذي يميزها ويعطيها امتدادها الوجودي والهوياتي واستمراريتها التاريخية؛ فالمدفونة علامة مميزة لهذه الثقافة الخصبة، وماركة مسجلة لتافيلالت حصراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...