"الصداقة نوع من الحب، هو معجزة تتحقّق. مع الوقت، تتكوّن عائلتنا الحقيقية من الأصدقاء". هذه كلمات إيتيل عدنان، المترجمة من الفرنسيّة، في مقابلة لها مع ريكاردو كرم تعود إلى 2019.
تعود هذه الكلمات إلى ذاكرتنا في ندوة أقيمت في بيروت، المدينة التي أحبت إيتيل وأحبتها، لنرى بأعيننا أن لإيتيل فعلاً عائلة من الأصدقاء، جاءوا من مختلف أقطاب الأرض لحضور ندوة ليومين نظمتها الجامعة الأمريكية في بيروت للاحتفاء بهذه الفنانة التشكيلية، الروائية، الشاعرة، إيتيل الصديقة والإنسانة.
تقرّ إيتيل في مقالة لها أنها لا تكتب بلغتها الأم، وأنها تفتقد الشعور الأهم الذي يشعر كل كاتب به: التواصل المباشر مع الجمهور. تكتب في المقالة نفسها أنها جزء من دائرة الثقافة العربية دخلتها من أبواب غير مباشرة
من ضمن هؤلاء الحضور كان الكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي الذي أخذ الحضور في مداخلته القصيرة إلى عالم أدبي يتميز بدفء الصداقة التي جمعت بينه وبين إيتيل. كرّمها فواز كما كانت تحب أن تذكر وتكرّم، بالعربية، تلك اللغة التي تربطها بها علاقة معقدة، فيها شيء من الانتماء والغربة، من القرب والبعد؛ اللغة التي كانت تصفها إيتيل بفردوسها المحرّم.
ليس غريباً من صديقها فواز أن يهتم بفن إيتيل وكتاباتها منذ أن سمع باسمها للمرّة الأولى حين فازت بمسابقة لكتابة القصة القصيرة في المدرسة الثانويّة آنذاك. وليس غريباً عليه أن يغدو مترجماً لقصائدها ومقالاتها لنشرها لاحقاً مع إلياس خوري في جريدة "النهار" أو في مجلة " بدايات" التي يرأس تحريرها. قال فواز في كلمته: "اعتبرت إيتيل أن تعلم العربية نوع من أنواع المقاومة، لكن ما فعلته هو أكثر من مقاومة، فهي رسمت بالعربية وبفن الخط العربي".
تقرّ إيتيل في مقالة لها أنها لا تكتب بلغتها الأم، وأنها تفتقد الشعور الأهم الذي يشعر كل كاتب به: التواصل المباشر مع الجمهور. تكتب في المقالة نفسها أنها جزء من دائرة الثقافة العربية دخلتها من أبواب غير مباشرة، منها انخراطها بالقضايا العربية، ككتابتها عن الحرب الأهلية اللبنانية في رواية "ست ماري روز"، وعلاقاتها الوطيدة بالشعراء والكتاب العرب، تذكر منهم في مقابلاتها كلاً من إدوارد سعيد، أنسي الحاج، و أدونيس. ويمكن القول اليوم إن إيتيل استطاعت التواصل مع جمهورها العربيّ عبر وسائل متنوّعة، أهمّها الرسم بالعربيّة حين عجزت عن الكتابة بها، هي التي تعتبر أن الكتابة هي الرسم، وأن الرسم هو الكتابة.
آمنت إيتيل أن الموت ليس الكلمة الأخيرة، وإن لم تكتب هي بالعربية سيُكتب عنها بتلك اللغة. وسوف تُذكر إيتيل بمختلف لغات العالم، وبكل ألوانه.
يعود طرابلسي بالذاكرة إلى اللقاء الأخير الذي جمعه بإيتيل في بيتها الباريسي في ليلة الحادي والعشرين من تشرين الاول/أكتوبر 2021. "قالت حينها: 'سجل ما سأقوله الآن'. وقبل أن أستعد لبدء التسجيل، كانت قد بدأت بالكلام: 'يقول النقاد إنني أول من أدخلت الفلسفة في الشعر الأمريكي'. بدأت بعدها بنقاش افتراضيّ نقديّ مع نيتشه: 'ما لم يقله نيتشه أن العودة الأبدية هي العودة لأنفسنا، لاكتشاف القدسيّة فيها. لربما أراد أن يقول هذا لكنه لم يقل'". وبقيت تفكّر إيتيل في أمور شغلتها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة قبل موتها، بما فيها النظرية المادية والصوفية والشعر والأدب و الألوان والرغبة في البقاء.
يذكر طرابلسي أنه سألها إن كانت تخاف الموت، فقالت إنها لا تفكر بالموت كثيراً إلا ليلاً في معظم الأحيان؛ "قدرنا الموت، وعلينا تقبل ذلك. الصعوبة ليست في الموت، بل في كيفيته وتوقيته. الواحد منا لا يموت بسهولة".
وسألها إن كانت تتمنّى تحقيق هدف ما ولم تستطع، فقال إنها عملت كثيراً، وحققت كثيراً. وهمست إيتيل لفواز وسط ضجيج أصوات أصدقائها الآخرين في منزلها: "أردت أن يتحرر الشعر"، كأنما أرادت بنظر فواز أن تنهي حديثها بنفس الطريقة التي بدأته.
يذكر طرابلسي أنه سألها إن كانت تخاف الموت، فقالت إنها لا تفكر بالموت كثيراً إلا ليلاً في معظم الأحيان؛ "قدرنا الموت، وعلينا تقبل ذلك. الصعوبة ليست في الموت، بل في كيفيته وتوقيته. الواحد منا لا يموت بسهولة"
يعتبر فواز هذا الحديث القصير والعميق وصيّة إيتيل الفكريّة والفنيّة، فيه تجمع الفلسفة بالصوفية والشعر والكتابة والماديّة، هي التي لطالما أحبت ربط الأشياء أو نسجها ببعضها بعضاً. ربطت الإنسان بالفكرة، والفكرة بالشعور، والشعور بالشيء. ولم يتفاجأ طرابلسي بأمنية صديقته الأخيرة قبل الموت أن تصمّم نسيجاً، وأن تعنون مقالتها الأخيرة بـ"أن تحيا هو أن تنسج".
أنهى فواز كلامه ذلك اليوم بعبارة اختصرت مسيرتها: "هذه إيتيل عدنان، وهذه إنسانيتها الهادئة الساكنة والقوية".
رحلت إيتيل بعد لقائها الأخير بفواز بأسبوعين، وبعد أن وعدها بزيارة أخرى لها في باريس حين يحين الربيع. آمنت إيتيل أن الموت ليس الكلمة الأخيرة، وإن لم تكتب هي بالعربية سيُكتب عنها بتلك اللغة. وسوف تُذكر إيتيل بمختلف لغات العالم، وبكل ألوانه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.