يذهب ليتقرب من ربه، الذي يقول "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".
يدخل المسجد ويجلس، رامياً وراء ظهره المشاكل السياسية والاقتصادية التي تعانيها مصر، وعندما يرفع الأذان ويصعد الإمام المنبر، يسمع ما لا يسره.
يشكو ياسر عثمان (اسم مستعار)، محامٍ في شركة خاصة، يبلغ من العمر 35 عاماً، ويعيش في منطقة فايدة كامل بدار السلام في القاهرة، من غلاء الأسعار، ويرى أن النظام الحاكم في مصر هو المسؤول عن ارتفاع أسعار جميع السلع بقراراته الاقتصادية غير المدروسة.
وفي ضوء وجهة النظر التي يؤمن بها، لم يحتمل "عثمان" قول خطيب مسجد الهدى المحمدي، بشارع أحمد ذكي في دار السلام، أبريل الماضي، إن غلاء الأسعار سببه "جشع التجار واحتكارهم للسلع"، وترك المسجد وانصرف دون أن يصلي، وقرر مقاطعة خطبة الجمعة والذهاب إلى المسجد قبل إقامة الصلاة مباشرة.
يرد علي عمر، خطيب مسجد الهدى المحمدي، قائلاً إن الخطب تأتي من لجنة مخصصة لكتابة الخطب داخل وزارة الاوقاف، وغالباً لا تتضمن موضوعات سياسية بل تحكي عن حفظ الأمن، وعن الوحدة الوطنية، وتدعو الله للعبادة وتوضح لهم الدين الوسطي.
واعترف عمر أنه بالفعل تحدث عن جشع التجار، الذي يعد سبباً رئيسياً لغلاء الأسعار. وقال "بعض التجار في الظروف الصعبة يستغل الفرصة ويخزن السلع ويحتكرها رغم أن النبي قال المحتكر خاطئ"، مشدداً على أن هؤلاء التجار "مش فارق معاهم الناس ومش فارقه معاهم الدولة".
واستنكر خطيب مسجد "الهدى المحمدي" ربط الشباب ما تتضمنه خطب الجمعة بالسياسة، مشيراً إلى أن البلد تمر بظروف صعبة أثرت على الاقتصاد ودفعت بعض المستثمرين لسحب استثماراتهم، لافتاً إلى أن هذه الظروف تحتاج إلى التكاتف".
وتابع: "في الخطب بنتكلم عن الحاجات اللي النبي قال عليها... النبي نهى عن الاحتكار... النبي نهى عن استغلال التجار للناس". معتبراً أن بعض الشباب ينظر لموضوعات مثل الاحتكار على أساس أنها سياسية، ولكن في الأصل هي أمور دينية.
واختتم علي حديثه قائلاً إن الموضوعات التي تأتي من وزارة الأوقاف ويتحدث فيها الخطباء، واضعيها "ناس متخصصة"، مستطرداً: "أكيد الدولة مش هتختار ناس تتطبل لده أو لده (ويقصد الهيئة المختصة بوضع الخطبة الموحدة)". وطالب الشاب الذي لا يعجبه خطيب في مسجد أن يصلي في مسجد آخر.
[caption id="attachment_109238" align="alignnone" width="700"] مصلون يستمعون لخطبة صلاة الجمعة في الأزهر[/caption]وفي ديسمبر من العام الماضي، كانت إحدى الخطب الموحدة التي تلزم وزارة الأوقاف الأئمة الالتزام بنصها أو بجوهرها تتحدث عن "مواجهة الإرهاب".
خطب الجمعة الموحدة والرسائل السياسية التي تمر عبرها تنفّر الشباب وتدفعهم لمقاطعة المساجد
"مستحملتش الخطيب وهو بقول إن تخلينا عن الصدق سبب غلاء الأسعار" يقول محمد الذي توقف عن صلاة الجمعة شهراً
يقول عبد الله صلاح (اسم مستعار)، طالب بكلية أصول دين جامعة الأزهر، إن الخطبة تضمنت تلميحات ضد معارضي النظام، إذ قال إمام مسجد - رفض ذكر اسمه - إن "المواطن الصالح يجب ألا يسير خلف دعوات أصحاب الهوى والمصالح الشخصية، الذين يسعون لخراب الوطن، وهدفهم إسقاط الدولة بمؤامراتهم الخبيثة".
يوضح "صلاح" سبب هذا الاعتقاد بأن الخطيب لم يتحدث عن جماعات إرهابية في الجزء الذي ذكر فيه المؤامرات والدعوات، مضيفاً أن الإرهابي لا يطلق دعوات معارضة ليسير خلفها المواطن، لافتاً إلى أن ذلك كان يأتي بالتزامن مع دعوات احتجاجية من المعارضة بشأن قضية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير.
وفي سياق متصل، منذ أن قرر البنك المركزي تعويم الجنيه المصري، في نوفمبر من العام الماضي، لا يكفي المرتب الذي يتقاضاه شادي محمد، مندوب مبيعات في شركة لبيع السلع الغذائية قبل منتصف الشهر، لتغطية حاجاته، ويعيش نصف الشهر مقترضاً. لذا يقول محمد: "مستحملتش الخطيب وهو بيقول إن تخلينا عن الصدق هو سبب غلاء الأسعار".
ترك محمد الخطبة ولم يعد يصلي الجمعة، في أي مسجد لمدة شهر تقريباً، بعد الخطبة التي ألقاها خطيب مسجد الرحمن، الكائن في منطقة عرب المعادي. ويبرر ذلك قائلاً "الكلام هو هو في كل المساجد".
كانت هذه الخطبة في 7 أبريل وتحمل عنوان "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقيين".
يرد خطيب مسجد الرحمن، خالد هيبة، قائلاً إنه لا يتحدث في السياسة ولا عن الحكام، لأن ذلك يُخرج المصلين من الحالة الروحانية التي يعيشونها، موضحاً أن في الخطبة التي أشار إليها "محمد" كان يقصد أن الصدق في التعامل مع الناس وفي ذكر وعبادة الله يخفف بلاء غلاء الأسعار، لافتاً إلى أن الله سبحانه وتعالى قال: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا".
وأضاف خطيب مسجد "الرحمن" أن الكلام في الخطبة كان من منطلق "لو أنت صدقت مع ربنا؛ ربنا هيخفف عنك الغلاء"، مشدداً على أنه يأخذ حذره في الكلام في السياسة، ويلتزم خطبة وزارة الأوقاف، لبضعة أسباب، أبرزها حتى لا يسقط في خطأ، وكذلك حتى لا يُفهم أو يُصنف بأنه "مخالف للحكومة".
وأشار "هيبة" الذي يرفض فكرة عزوف الشباب عن صلاة الجمعة، إلى أنه إذا وجد في خطبة وزارة الأوقاف كلاماً عن الحكومة أو عن تأييد الرئيس يهمله، مستطرداً: "وده ما بيحصلش"... ويقصد احتواء الخطبة على جزء مؤيد للحكومة ورئيس الجمهورية.
محمد توبة، طالب في كلية الأداب جامعة حلوان، شكا من الأمر نفسه عندما استمع لخطبة "التاجر الصدوق" في مسجد "البركة" بشارع أحمد عصمت، في منطقة عين شمس، وقال لرصيف22 إنه يغير المسجد كل مرة، ولكن "المضمون عند الجميع واحد"، مشدداً على أنه لا توجد أي إفادة من الخطبة.
كان وزير الأوقاف محمد مختار جمعة قد تبنى فكرة الخطبة الموحدة، بعد أن طالب رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بتصويب الخطاب الديني. وألقى "جمعة" أول خطبة مكتوبة له في شهر يوليو الماضي، وكانت عبارة عن مجموعة أوراق، محاولاً تقديم نموذج لخطباء الجمعة،
ووفقاً للخطة، ستقوم لجنة من العلماء استعانت بها الدولة لكتابة خطبة الجمعة للأئمة لقراءتها كلمة كلمة، وقال جمعة إن الحكومة ستعد 54 خطبة تغطي 52 أسبوعاً، بالإضافة إلى الأعياد الدينية، وإن هناك خطة طويلة الأجل لكتابة 270 خطبة لـ5 سنوات.
ورفض كبار علماء الأزهر التدابير الحكومية لتوحيد خطبة الجمعة، مؤكدين أن هذه الخطوة "تجمد" الخطاب الديني.
وقالت هيئة كبار العلماء في الأزهر في بيان صحفي، في يوليو 2016، إن فرض خطبة مكتوبة مسبقاً سيؤدي بعد فترة إلى تسطيح فكر أئمة المساجد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين