بطريقة بوليسية تشبه أفلام هوليود، نجحت الناشطة السياسية الجزائرية أميرة بوراوي، في الهروب إلى باريس لتلقى أخيراً ابنها الذي حُرمت من رؤيته منذ عام، بعد أن أصدرت الحكومة الجزائرية قراراً بمنعها من السفر، على خلفية مواقفها السياسية المعارضة للنظام.
نجحت بوراوي، في عبور الحدود الجزائرية التونسية خلسةً، لكنها قبل أن تصعد إلى الطائرة المغادرة إلى باريس قاصدةً منزل ابنها، ألقت قوات الأمن القبض عليها، وأُودِعت في السجن ثلاثة أيام بتهمة دخول البلاد بطريقة غير شرعية.
ثلاثة أيام قضتها بوراوي في السجون التونسية، جرت خلالها مفاوضات واتصالات وضغوط واعتراضات بين عواصم ثلاث، انتهت إلى الإفراج عنها والسماح لها بالسفر إلى فرنسا تحت رعاية القنصلية الفرنسية في تونس، كونها مواطنةً فرنسيةً تحمل جواز السفر الفرنسي، وهو ما لم يرُق للنظام الجزائري الذي رأى في ذلك خرقاً واضحاً لسيادته الوطنية، ليقرر الرئيس الجزائري عبد الحميد تبون، استدعاء سفير بلاده لدى فرنسا للتشاور، مصحوباً بتقديم "مذكرة رسمية" موجهة إلى الحكومة الفرنسية احتجاجاً على ما وصفته بـ"عملية الإجلاء السرّية وغير القانونية"، لبوراوي المطلوبة للقضاء الجزائري، وذلك في تصعيد جاء ليعكّر ماء العلاقات بين البلدين الذي لم يصفُ تماماً بعد.
هل تعود العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى نقطة الصفر بفعل ما حدث في قضية أميرة بوراوي؟
المنع للجميع
ربما كانت قصة منع الناشطة أميرة بوراوي، من السفر، هي الأشهر، لكنها بالقطع ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقائمة الممنوعين من السفر في الجزائر طويلة وفيها متّسع للمزيد.
مع توقف مسيرات الحراك في الجزائر، وتلاشي جائحة كورونا، اشتدت المضايقات على الناشطين الحقوقيين والصحافيين، إذ وصل عدد معتقلي الرأي حسب "اللجنة الوطنية من أجل تحرير المعتقلين"، إلى 300 معتقل، فضلاً عما يقرب من 40 ناشطاً وصحافياً تم منعهم من السفر وفقاً للناشط الحقوقي زكي حناش.
وهو ما دعا منظمة هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، إلى إصدار بيان في أيار/ مايو 2022، نددتا فيه بإجراءات منع السفر "التعسفية" في حق ثلاثة ناشطين جزائريين (يحملون جواز السفر الكندي)، وحرمانهم من حق السفر إلى كندا، من دون حتى تقديم أساس قانوني أو تبرير كتابي لهذا الرفض.
أحد الذي مروا بدهاليز المنع والإنكار والقبول والتسويف، كان رئيس تحرير صحيفة "بروفنسيال"، مصطفى بن جامع، الذي يروي قصته لرصيف22، قائلاً: كنت ممنوعاً من السفر لمدة 3 سنوات، وفي كانون الثاني/ يناير 2022، توجهت إلى وكيل الجمهورية، وقدّمت طلب رفع أمر منع السفر. وافق المدعي العام، وأرسله للتوزيع على المعابر الحدودية".
المدهش أنني في تموز/ يوليو 2022، توجهت إلى تونس بطريقة قانونية، وحين عدت فوجئت بالقبض عليّ واحتجازي لليلة كاملة!
وحين سألت عن سبب احتجازي، قيل لي: "تعليمات عليا"، وحتى الآن لم أفهم من هي الجهات العليا التي تضيّق على سفري، وتسلبني حقي الأصيل في حرية التنقل.
ضد القانون والدستور
تنص المادة 49 من الدستور الجزائري، على أنه "يحق لكل مواطن يتمتع بحقوقه المدنية والسياسية، أن يختار بحرية موطن إقامته، وأن يتنقل بحرية عبر التراب الوطني. لكل مواطن الحق في الدخول إلى التراب الوطني والخروج منه، لا يمكن تقييد هذه الحقوق إلا لمدة محددة وبموجب قرار معلل من السلطة القضائية".
لم تحمِ هذه المادة عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي في الجزائر، المحامي نور الدين أحمين، إذ مُنع من السفر خلال العام الجاري. يقول أحمين، لرصيف22: كنت متوجهاً يوم 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، للدفاع عن زميل لي في تونس، وكنت برفقة المحاميَين مصطفى بوشاشي وعميروش باكوري. مُنعت من السفر بأوامر فوقية حسب الشرطي المسؤول عن الجوازات. طلبت منه سبب المنع والجهة التي أصدرته، لكن بلا جدوى.
استفسرت عند النائب العام بمساعدة نقيب المحامين، وأكد أنه ليس لدي أي ملف قضائي على مستوى المجلس. إنه تعسف في حقي".
يرى الحقوقي عبد الغني بادي، أن السلطة تستعمل المادة 36 مكرر من قانون الإجراءات الجزائية، حتى تمنع الناس من حقهم في التنقل المكفول دستورياً، فـ"أغلب ما يحدث في هذه القضايا أنه لا يتم إعلام المعنيين بأنهم ممنوعون من السفر. هناك غطاء قضائي تستعمله الجهات الأمنية بناءً على هذه المادة التي تنص بأنه يحق لوكيل الجمهورية أن يمنع الناس من السفر بناءً على تقرير من الشرطة، أو إذا تعلق الأمر بجرائم الإرهاب".
شاب آخر ناشط في الحراك من ولاية داخلية، رفض محاميه الكشف عن هويته خوفاً من المتابعة القضائية، لديه أشغال في إيطاليا وتركيا، توجه إلى المطار، ووجد نفسه ممنوعاً من السفر. يروي لنا المحامي سعيد الزاهي: "طلب موكلي أسباب المنع والجهة التي أصدرته فطلبت منه الشرطية أن يتوجه إلى وكيل الجمهورية والنائب العام في ولايته. لكن هؤلاء أكدوا له أنه غير ممنوع من السفر".
"اتصل بي موكلي من أجل إيجاد حل، فتوجهت إلى المدعي العام لمحكمة سيدي أمحمد في الجزائر العاصمة، كونه كان ناشطاً في الحراك، ما يرجح أن تكون لديه قضية على مستوى العاصمة. نفى النائب العام في بداية الأمر وجود أي منع للسفر في حق موكلي، ووجهني إلى قاضي التحقيق. حاولت التأكد في 14 غرفة تحقيق من دون فائدة، ولما رجعت إلى وكيل الجمهورية، ورأى أنني مصر على معرفة جهة المنع، أكد لي أنه من أصدر القرار من دون ذكر السبب".
لماذا هذه الرغبة المحمومة الآن من قبل النظام الجزائري في منع الصحافيين والناشطين من السفر؟
أبواق المهجر
السؤال هنا: لماذا هذه الرغبة المحمومة الآن من قبل النظام في منع الصحافيين والناشطين من السفر؟
تجيبنا القيادية السابقة في حركة "بركات" (كفى)، أميرة بوراوي، عن هذا السؤال وتقول: الهدف من إجراءات منع السفر هو التضييق على المعارضين وقمعهم، خاصةً مع اقتراب انتهاء العهدة الأولى للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وتضيف: "يظنون أننا سنتكلم في الخارج عن حقوق الإنسان والسياسة في البلاد مع أننا تكلمنا هنا في الجزائر".
يتقاسم بن جامع الرؤية نفسها مع بوراوي، إذ يؤكد أنهم خائفون من أن أغادر الوطن، وأصبح معارضاً في الخارج، وتكون لدي حرية تعبير أكبر.
الآراء الغاضبة تشير هنا إلى أن السلطة تخاف من معارضة الخارج، لأنها في منأى عن اليد الأمنية والقضائية، فضلاً عن كونهم على مقربة من الهيئات والمنظمات الدولية الحقوقية. نتحدث هنا عن زوابع صحافية ومطالبات لا تتوقف، النظام في غنى عنها.
أمن الدولة الجزائرية
لكن على الجانب الآخر، تبدو الصورة مختلفةً، فالنظام ينظر بعين الريبة إلى "معارضي الخارج"، حيث يطغى عليهم شبح العمالة والتربح من أزمات البلاد.
الاتهامات الرسمية التي وُجّهت إلى من نجحت السلطات في استعادتهم بمذكرات قانونية من بعض العواصم الأوروبية، تشير بجلاء إلى موقف الدولة الرسمي منهم والممهور بتمهة المسّ باستقرار البلاد وضرب الوحدة الوطنية.
اتهامات الدولة مشفوعة باعترافات بعضهم، ومن أبرزها اعترافات المعارض الجزائري محمد بن حليمة، الذي رحّلته السلطات الإسبانية بطلب من الجزائر، إذ أقرّ في فيديو مسجل بثه التلفزيون الجزائري بـ"أن بعض المعارضين المتواجدين في الخارج كأمير بوخرص والعربي زيطوط متورطون في تنفيذ مخططات، من خلال جمع الأموال والاستعانة بأطراف أجنبية لضرب أمن الجزائر وتشويه صورتها".
وهذا ما دعا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، للقول: "الدولة لن تتراجع عن ملاحقة الأشخاص كلهم في الخارج، الذين يستهدفون أمن واستقرار البلاد، وستعتمد في ذلك على الأدوات القانونية".
ما بين نظام يتهم البعض بالعمالة، ومعارضين يرونها سلطةً مستبدةً، يظل الثابت أن حق التنقل مكفول، وأن المنع من السفر من دون حجج قانونية مثبتة، لا يعدو كونه أسراً للبعض في أوطانهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...