شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
جدتي

جدتي "أمّون"... حفيدةُ الآلهة وسليلةُ الأساطير والحكايات!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 4 فبراير 202310:53 ص

لم أستطع أبداً أن أنتزع من مخيّلتي وجه الشبه بين جدتي، وهي تحمل حجراً ضخماً على كتفيها بهمّةٍ نادرة مدهشة، وإحدى شخصيات الميثولوجيا اليونانية "التايتان" (الآلهة الجبابرة)، والذين كانوا يخوضون منافسةً تُسمّى "حرب التايتان"، وهم يحملون (على أكتافهم بالضبط) أثقل حجرٍ ممكنٍ لأطول مسافة!

اسمها "أمّون"، لكن كنا نناديها "ستّي سلمى"، ربما لغرابة الاسم وغير عارفين أن "آمون" أصلاً، "إله الشمس" عند الفراعنة، وأنّ قدرها إلهيّ الهبات والصفات بهمّتها على الشغل في كروم العنب والتين منذ شروق الشمس وحتى مغيبها.

هي أمّ والدي، الحكّاءةُ بالفطرة، كانت تنقشُ منمنمات روحي بكلماتها الموسيقى، بلهجتها وطريقة إلقائها المنكّهة بالبخور، كأنها روحٌ تقمّصت أجساد أسلافها الرواة

هي أمّ والدي، الحكّاءةُ بالفطرة، كانت تنقشُ منمنمات روحي بكلماتها الموسيقى، بلهجتها وطريقة إلقائها المنكّهة بالبخور، كأنها روحٌ تقمّصت أجساد أسلافها الرواة. كانت مثل شهرزاد "ألف ليلة وليلة"، تخفّفُ من نزقي أنا الشهريار الصغير، وتنغّم حكاياتها وأنا مدهوشٌ من طريقتها العجيبة في الإلقاء حين تعرض أمام مخيلتي مئات المشاهد "السينمائية": من سيرة الزير سالم "أبو ليلى المهلهل" والجرو بن كليب وهو ينشدُ مخدوعاً: "عمّي جسّاس شديد الباس (البأس) قطّاع الروس (الرؤوس) تلول تلول"، إلى قصة البطل "سيف بن ذي يزن" وأخته الماردة "عاقصة" (اللي بتشوف عن بعد سفر سنة)، وأخيه من الجنّ "عيروض" الجبّار، إلى حكاية "الشاطر حسن و"الغول" الذي قال له: يا شاطر حسن... لولا سلامك ما سبق كلامك كنت أكلتك وفصفصت عضامك"... تحكي لي وهي تحضنني كما تحضنُ الدجاجةُ أفراخها، وتلفّني برائحة حطب مُعشعش في ثيابها، فيما أنا أعيشُ عالماً سحرياً اكتشفتُ لاحقاً أنه أغنى من عوالم "ديزني" وأكثر إدهاشاً من خوارق "هوليوود"... ويا الله! كم كنتُ أغفو على هدهدة صوتها بينما الأميراتُ والساحرات المشعوذات وذهبُ مغارات الكنوز واللصوص الظرفاء والسلال المليئة بالفاكهة الطيّبة، والخيول التي تطير، والثعالب الماكرة التي تتكلم، والنوارس البحرية وشباك الصيد و"السندباد" والأسماك وبلادُ الأقزام...تملأ أحلامي بالـ"الفزع المقدّس" كما يُسميه الكاتبُ الأرجنتيني بورخيس!

جدتي "أمّون"

حفيدةُ "إنانا" هي جدتي؛ كانت تبذرُ وتشتلُ وتحطّب وتسقي الدواب وتُربّي الدجاجات والعنزات والغنمات وتتحدث مع كل واحدة باسمها: (يا شقرا يا ملعونة، يا كحلة يا حلوة، يا الرّخمة اللي ما في منّك، يا العبْسة الحبّابة/ الحلّابة الجلّابة...)، كأنها فرد من أفراد العائلة، وكانت تحملُ صخور الكروم لتبني حكايتها الخاصة، وحكمتها الدائمة: "كلُّ مال الدنيا وقصورها لا يعادلُ لحظة صحّةٍ وعافية"! وتحكي لي لتملأ روحي بالضحك:

"كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان لحتّى كان... كان في ملك يتبختر على حصانه، حين مرّ برجلٍ عجوز لم يتوقف عن زراعة شتلات البندورة، فاستوقفه الملكُ ناهراً ومعنّفاً إياه أنْ: لماذا لم تحيّني!؟ فقال الفلاح بجرأةٍ لم يفعلها أحدٌ غيره: يا ملك الزمان، لأنّ قصرك وكل ما تملك لا يساوي ضرطةً! فغضب الملكُ غضباً شديداً وأمر بسجنه... تمرّ الأيام والليالي، فيمرضُ الملكُ مرضاً عجيباً يعجزُ عن مداواته أطبّاءُ مملكته، فيقرر -طالما أنه لا بدّ سيموت- أن يُفرج عن جميع السجناء، وحين يسمعُ الفلاحُ العجوز بما حلّ بالملك، يطلبُ من الحراس أن يأخذوه إلى الملك ليداويه... وحين وقف أمام الملك المنتفخ مثل البالون، طلب منه أن يأكل "حبّتَي فجلٍ" جلبهما معه، فيبكي الملكُ مقهوراً: أتشمتُ بي وأنا على فراش الموت!... لكن الفلاح يصرّ، فما كان من الملك المنفوخ وبعد أن "قرط الفجلات" إلا أن بدأ "يُفرقعُ فُصوصه يميناً وشمالاً: طاط وطيط... وطيط وطااااط... (فيما نحنُ الصغار نملأ البيت ضحكاً وهمروجات فرح)، حتى شُفي تماماً وعادت البسمة إلى وجهه، فقال له الفلاح الحكيم: ألم أقل لك يا مولانا إنّ كلّ قصرك ومُلكك لا يعادلون ضرطةً"!

يُذكّرني حزنُ جدتي بنساء "طروادة" المفجوعات على ضياع أمجادها، بنساء إحدى القبائل اللواتي كنّ يكشفن أجسادهنّ ويرفعن تنانيرهنّ ليسمحن للمطر بأن يُخصّب فروجهنّ...

يُذكّرني حزنُ جدتي بنساء "طروادة" المفجوعات على ضياع أمجادها، بنساء إحدى القبائل اللواتي كنّ يكشفن أجسادهنّ ويرفعن تنانيرهنّ ليسمحن للمطر بأن يُخصّب فروجهنّ... فكثيراً ما شاهدتُ في طفولتي -أنا حفيدها المدلّل وابن ابنها الوحيد- ابتهالاتها الليليّة لربٍّ رحيمٍ عالٍ، حين كانت تكشف عن صدرها وتُخرج ثدييها للقمر الرخاميّ المكتمل، تحملهما بيديها المعروقتين شفاعةً وتضرّعاً للقمر "سيد الظلمات والألغاز"، بل تواصلاً واتصالاً بحبل أنوثتها القدريّ، بالضوء المنبعث من جوف الكون، النازل شلال حرير نحو ضمّة كفيها، ودموع عينيها الصغيرتين، وكنتُ أنا أتفرّج على ثدييها مرعوباً وفرحاً كما لو أن جسدها المتغضّن يعاودُ النموّ مثل شجرة تينٍ يسيلُ نسغها وتخضرُّ أوراقُها بطراوة الربيع النديّ وتحت نور القمر الداعر!

ماتت جدتي "أمّون"، ولم تقتنع بأن ذاك الصندوق الأسود ذا الشاشة المضيئة المرعبة، بصوته العفريتيّ وتبدّل هيئته المشعوذة، هو: تلفزيون! حتى أنها لقنت مذيع الأخبار درساً في الأخلاق لأنه يمتنع عن غضّ بصره وهي جالسةٌ قبالته ترمقه بعينين غاضبتين محذّرتين، وكادت أن تشدّ شعر المذيعة التي بسبب "قلة ذوقها" لا تُغمض عينيها هي الأخرى، حين يهمُّ رجالُ البيت بتبديل ملابسهم ليناموا في أحضان زوجاتهم!

ماتت جدتي "أمّون"، ولم تقتنع بأن ذاك الصندوق الأسود ذا الشاشة المضيئة المرعبة، بصوته العفريتيّ وتبدّل هيئته المشعوذة، هو: تلفزيون!

ماتت جدتي وهي ما تزال مقتنعةً، تلك القناعة التي لا تخصّ أحداً سواها، بأن هذا "الصندوق الأسود" لا يمكنه أن يعرف ما تعرفه هي بالفطرة وقدرة السحر وتراكم سنيّ الشقاء والآلام؛ متى ستلد بقرتها الشقراء؟ ومتى يجب أن يفلحوا الأرض لبذار القمح والشعير؟ وأي الوقت هو الأنسب لتعشيب "الزيتونات والتينات" حسب التقويم الشرقي للطقس وأحواله أي "السعودات والجمرات الثلاث" (سعد ذبح، سعد بلع، سعد السعود، وسعد الخبايا)؟

هكذا كانت جدتي "أمّون" تُخمّرني مثل العجين، وتخبزني على نار الحب، تُهدهدني بالحكايات والأمثال الشعبية والغناء... كي أهدأ من رعب القادم المجهول، وأغفو على إيقاع تنفّسها الرخيم!

فإلى جدتي حفيدة الآلهة، سليلة الأساطير والحكايات أقدّم صلاتي/ حديث "عشتار" عن نفسها:

"أنا الأوّلُ/ وأنا الآخرُ

أنا البغيُ، وأنا القديسة

أنا الزوجة، وأنا العذراء

أنا العاقرُ، وكُثرٌ هم أبنائي

أنا في عرسٍ كبير ولم أتّخذ زوجاً

أنا القابلةُ ولم أنجب أحداً

وأنا سلوة أتعاب حملي

أنا العروس وأنا العريس

وزوجي من أنجبني

أنا أمّ أبي، وأختُ زوجي

وهو من نسلي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image