ببساطة، أو بما يشبه البساطة، أُطلق سراح نجل العقيد الليبي المخلوع سيف الإسلام القذافي الذي كان محتجزاً منذ العام 2011.
هكذا أعلنت كتيبة "أبو بكر الصديق المسلحة" أنها أطلقت سراح ابن الزعيم المخلوع، الصادرة بحقه مذكرة اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والمحكوم غيابياً بالإعدام في العام 2015 من محكمة طرابلس المدعومة من الأمم المتحدة بتهمة قتله محتجين ضد والده.
جاء تحرير القذافي، الذي بدأت تتسرب أخباره منذ نحو العام، بناء على طلب من الحكومة الانتقالية، التي تتخذ من شرقي ليبيا مقراً لها وتعارض حكومة طرابلس المدعومة أممياً، إذ كانت قد أصدرت قرار العفو العام عن عدد من المعتقلين بينهم القذافي في وقت سابق.
لم يغب سيف الإسلام عن دائرة الضوء لا قبل سقوط أبيه ولا خلال مرحلة السقوط ولا حتى بعدها، لكن قرار تحريره أعاده إلى الواجهة بزخم، وأعاد معه السؤال حول إمكانية عودة من كان يحلم بإكمال مسيرة والده، "الأخ العقيد المجاهد بومنيار القذافي زعيم الجماهيرية العربية الليبية الشعبيّة الاشتراكية العظمى"، إلى السلطة اليوم.
لسنوات طويلة قدّم سيف الإسلام نفسه، وجرى تقديمه، باعتباره حامل راية التطوير في ليبيا. لم تكن دراسته في جامعة لندن للاقتصاد، التي أعطته شهادة مرموقة جرى سحبها منه لاحقاً، وحدها ما جعلته أمل ليبيا بالتغيير. بل مفاصل عدة لعب فيها دوراً بارزاً بدا أكثر أناقة من الدور الذي يلعبه والده، وسفيراً غير رسمي لتلميع صورة "العقيد" في العالم.
فما الذي ينتظر سيف الإسلام في ليبيا وما الذي تنتظره الأخيرة منه؟
سيف الإسلام حراً؟
تقاطعت الأخبار المؤكدة لإطلاق سراح سيف الإسلام، لكن الأخير لم يسجّل حضوره العلني في أي مكان. وكشفت مصادر لـ"البي بي سي" خبر تواجد القذافي في مدينة طبرق، شرقي ليبيا، بينما نقلت "التلغراف" عن مصادر ترجيح تواجده في البيضاء مع أخواله. يُذكر هنا أن مجلس حكماء البيضاء كان قد عرض على قيادات قبائل الزنتان استضافة سيف الإسلام في حال الإفراج عنه "للإقامة بين أهله". والعرض نفسه كانت قد تلقته أرملة القذافي الأب، لكنها رفضته واختارت العيش خارج ليبيا برفقة من تبقى من أبنائها. حتى الآن، لا توجد رواية واضحة لقصة إطلاق القذافي، ولا يمكن انتظارها في السياق الليبي الذي تعمه الفوضى. في الظاهر، أُطلق سراح القذافي بموجب "قانون العفو العام" الذي أقرّه برلمان طبرق قبل مدة، وإن كان البرلمان في اليومين الماضيين بدا كمن يريد التملص من مسؤوليته عن تحرير سيف الإسلام. وربط البعض إطلاق القذافي بخلفية الصراع الخليجي والاصطفافات بشأنه، فليبيا هي ساحة صراع لتلك القوى، كما الحال مع سوريا واليمن والعراق، وبالتالي من يدعم الجنرال خليفة حفتر ويعول عليه (كروسيا والولايات المتحدة ومصر والإمارات…) قد يكون له مصلحة كذلك بدعم القذافي في وجه "الإخوان المسلمين"، أو في وجه حكومة الوفاق المدعومة من الأمم المتحدة كما الحال مع بعض القبائل. وكانت قوات الزنتان رفضت تسليمه لحكومة طرابلس المدعومة أممياً لأنها "غير واثقة من ضمان عدم هروبه"، في وقت بدا مما سرب عن أحوال اعتقاله في الزنتان أنه كان معززاً مكرماً، يسمح له بمتابعة الأوضاع الليبية ويصغي إليه معتقلوه باهتمام ملحوظ.الدور الموعود
ليس واضحاً بعد حقيقة الدور الذي قد يلعبه القذافي حالياً في ليبيا حيث تتنافس مجموعات معقدة من "الحكومات" والجماعات المسلحة، وحيث تحرك دول ومحاور عدة خيوط اللعبة. لكن وكالة "رويترز" نقلت عن محاميه خالد الزايدي قوله إن "سيف الإسلام يمكن أن يلعب دوراً مهماً في جهود المصالحة الوطنية لأن الشائع في ليبيا كان أنه سيؤدي دوراً محورياً في هذه المرحلة". وكشف الزايدي أن سيف سيصدر بياناً لاحقاً لتوضيح خياراته، وبالتأكيد لن يسلّم نفسه إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تسعى إلى القبض عليه. ولفتت "رويترز" إلى أن موالين للقذافي خارج ليبيا كما في المنطقة الشرقية، حيث بنى حفتر قوته، كانوا يضغطون للإفراج عنه من أجل إعادة بناء نفوذهم. وفي حديث له مع "سي أن أن"، قال الزايدي إن "القذافي لن يغادر ليبيا بكل تأكيد، ولديه أولوية تتمثل بالقضاء على الإرهاب وتحقيق الأمن ثم استعادة الحياة والازدهار الاقتصادي"، مضيفاً أن "كل منظمة دولية تريد مكافحة الإرهاب في ليبيا ستجد هناك سيف القذافي، وسيكون له دور كبير في إحلال السلام في ليبيا". ما قاله المحامي يتقاطع مع التحليلات التي رافقت خبر العفو عنه قبل حوالي العام. في تلك المرحلة رحبت أطراف عدة في الداخل الليبي بعودة القذافي إلى المشهد السياسي، وهو ما كان يبدو انتحاراً قبل سنوات قليلة. رأى المتابعون أن الكثير من القبائل التي قاتلت إلى جانب القذافي وذاقت المر بعد سقوطه، تنظر لعودة سيف الإسلام باعتبارها فرصة للانتقام، ويعتبره آخرون المنقذ لليبيا من داعش والإسلاميين. وكما كان يشكل قبل عام مفتاحاً مهماً في لعبة التحالفات الداخلية والخارجية، بقي الموقف من سيف الإسلام باعتباره فرصة، كما حفتر، لمواجهة الإسلاميين. هؤلاء يعتبرون القذافي من أكثر العارفين بالإسلاميين، ويذكرون جهوده الساعية لإطلاق سراحهم من السجون بعد المصالحة التي رعاها، بعدم رضى والده، ويذكرون كيف كان الإسلاميون أول من انقلب عليه في أحداث العام 2011. وتأكيداً لما جرى تداوله عن إمكانية تنسيق وتعاون مستقبلي بين سيف الإسلام وحفتر، انتشر تصريح الناطق الرسمي باسم الجيش الوطني الليبي، بقيادة حفتر، حول اعتبار القذافي بعد تحريره مواطناً ليبياً عادياً يتمتع بكافة الحقوق السياسية. بدورها، تنظر قبائل عدة مثل "القذاذفة" و"ورفلة" و"ورشفانة" و "المقارحة" وغيرها إلى عودة سيف الإسلام كعامل لإعادة لم الشمل والمصالحة بين الأطراف المتخاصمة، والأهم كرأس حربة في محاربة التيار الإسلامي الذي أذاقها الأمرين.عن المجد الضائع وتجدد الحلم
بعد بدء الأحداث في العام 2011، خرج سيف الإسلام بكلمة متلفزة مطولة خاطب فيها الليبيين، تراوحت فيها لهجته بين التحذير من تشابه مصيرهم مع مصير المصريين والتونسيين، ومما ترسمه الدول لتقسيم ليبيا، وبين الترغيب بالإصلاحات الموعودة وحقن الدماء والعودة إلى كنف "الزعيم الاستثنائي" الذي لا يشبه بن علي أو مبارك. حذر سيف الإسلام من "حرب أهلية تنتظر ليبيا... سنقتل بعضنا الآخر في الشوارع"، وقال حينها "ليبيا ستتدمر. سنحتاج إلى أربعين عاماً لنتفق على إدارة البلاد، لأن اليوم سيرغب كل واحد بأن يصبح رئيساً أو أميراً، والجميع سيقاتل لإدارة البلاد".بعد كل هذا الوقت، يبدو أن الجزء المتعلق بتدمير ليبيا طابق أقوال القذافي، لكن تلك الإصبع التي لوح بها في الهواء وهو يتحدث استفزت شريحة كبيرة من الليبيين حينها، كما استفزها الحديث عن مؤامرة دولية دون الاعتراف بشرعية الثورة التي قامت على أسباب محقة برأيهم. أياً يكن ما أظهره كلام القذافي من صحة وخطأ، إلا أن انضمامه بهذا الشكل للدفاع عن والده، ساهم في تبخّز صورته التي ظلت تحفر لسنوات طويلة باعتباره البديل الإصلاحي للبلاد. منذ العام 2000، كانت الصحف تروج للقذافي باعتباره التلميذ المفضّل للغرب و"الوجه المقبول"، وباعتباره مفاوضاً بارعاً أثبت قدراته عندما نجح في تحرير المختطفين الغربيين على يد جماعة أبو سياف في الفيليبين. نجاح وصفته صحيفة "الغارديان" بأنه "أول خبطة" جدية لسيف الإسلام. كما قاد القذافي الصفقة التي انتهت بتخلي بلاده عن برامجها للتسلح مقابل العودة للأسرة الدولية مقنعاً والده بدفع تعويضات وصلت إلى ثلاث مليارات دولار لضحايا لوكربي. وجمعت سيف الإسلام صداقات بشخصيات رسمية عدة كرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، ودعم حقل الأبحاث في جامعة لندن، وتفاوض مع أهالي ضحايا مجزرة سجن أبو سليم، كما مع الجهاديين المعتقلين كعبد الحكيم بلحاج. كل ذلك تهاوى عندما رفض انشقاقه عن والده وشن هجومه على المحتجين، إذ واجهته حملة واسعة رأت أنه "مرّغ صورته في التراب" كشخصية إصلاحية، كما طرحت شكوكاً حول أهداف مؤسسته "العاملة في المجال الخيري والتنموي" والتي لم تعرف سابقاً مصادر تمويلها لكنها شكلت واجهة جذابة لـ"القذافي المصلح". وكما بدا القذافي سابقاً ولي العهد المنتظر، يعود اليوم لينفض عنه "كابوس" السنوات الماضية التي شهدت سقوط حلمه، ويظهر كـ"منقذ" لليبيا مما حذر منه سابقاً. فهل ستعطي ليبيا ومن يديرها الفرصة للقذافي كي يشفي غليله، أم أن أحداث السنوات الماضية بما خلفته من دماء وفوضى لن تعطيه تحقق حلمه. يمكن أن ننتظر الكلمة المتلفزة التي يعد بها المحيطون بالقذافي، لنستشف ما ينويه كما يمكن أن نترقب سير التحالفات والمعارك لنفهم أكثر طبيعة دوره، مع أن تعقيد فسيفساء المشهد الليبي قد لا يعد بكثير من الوضوح.صعد نجم سيف الإسلام القذافي سريعاً باعتباره أمل التغيير وسقط سريعاً مع وقوفه إلى جانب والده في 2011. بعد تحريره من الاعتقال هل يعود بحثاً عن المجد الضائع؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...