بين الماضي والحاضر، تراجعت الهيبة تدريجياً، حتى أضحى المعلم عرضةً للسخرية والتنمّر والاعتداء اللفظي والجسدي
آخر حادثة اهتز لها المجتمع الجزائري، شهدتها ولاية باتنة شرق البلاد، حين أقدم تلميذ قاصر يدرس في متوسطة "الشهيد عماري السعيد" في تاكسلانت، على طعن معلمته، ريحانة بن شية.
تهديد وتنفيذ
حسب بيان وكيل الجمهورية في محكمة نقاوس في ولاية باتنة، قامت المعلمة بطرد تلميذ من الفصل، واستدعت والده بسبب سلوكه المزعج وشغبه الدائم، وروى شهود عيان أن التلميذ هدد المعلمة بالقتل، في الساعة العاشرة صباحاً، قبل أن ينفذ تهديده في حدود منتصف النهار، في أثناء فترة الراحة وفي ساحة المؤسسة، حيث تسلل الجاني من خلف الأستاذة، وأمام مكتب الإدارة، وطعنها في ظهرها، بواسطة خنجر ذي مقبض خشبي، ولاذ بالفرار إلى جهة مجهولة.
أظهرت صور الأشعة، أن الخنجر اخترق جسم المعلمة بعمق 17.42 سنتمتراً، وأبرزت النيابة أن الضحية تم نقلها إلى مستشفى نقاوس، ثم إلى المركز الاستشفائي الجامعي في باتنة، لخطورة الإصابة المعقدة، وهناك أجريت لها عملية جراحية معقدة، استطاع الفريق الطبي من خلالها، إخراج الخنجر بصعوبة بالغة.
ووفقاً للمتداول، فإن التلميذ القاصر يتعاطى حبوباً مهلوسةً، وبعد توقيفه من قبل عناصر الأمن، قرر قاضي التحقيق في مجلس قضاء ولاية باتنة، إيداعه السجن في جناح الأحداث، مضيفا أن التحقيق القضائي لا يزال مستمراً في الوقائع، للكشف عن جميع ملابسات القضية.
شرع عدد من الأساتذة، في ولاية باتنة، في تنظيم إضراب تنديداً بما وقع، رافعين لافتات تندد بالعنف الذي تعرضت له الأستاذة ريحانة بن شية
موجة استنكار حادة والأساتذة يُضربون
أثارت الواقعة الغريبة عن أعراف المجتمع، ردود فعلة غاضبة جداً، وحالة استنكار واسعةً تدين الاعتداء على أستاذة ومربية في الطور المتوسط، وفتحت الباب واسعاً أمام أسئلة عميقة أضحت الإجابة عنها معقدةً، مع تعالي الأصوات المطالبة بإعادة النظر في المنظومة التربوية.
أطلت المعلمة ريحانة بن شية، من المستشفى، عبر فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي، لتطمئن الجمهور، وسارع وزير التربية الوطنية عبد الحكيم بلعابد، إلى المركز الاستشفائي الجامعي في باتنة، للوقوف على حالتها الصحية، مؤكداً أن الوصاية لن تتساهل مع هذه التجاوزات.
وبينما حاول الخطاب الرسمي ضبط النفس، متوعداً بتسليط أقصى العقوبات، شرع عدد من الأساتذة، في ولاية باتنة، في تنظيم إضراب تنديداً بما وقع، رافعين لافتات تندد بالعنف الذي تعرضت له الأستاذة ريحانة بن شية، عادّين أن الأستاذ خط أحمر، تجب حمايته من أشكال العنف كلها، داخل المؤسسات التربوية وخارجها.
"لو كنت أنا من تعرض للطعن؟ لماذا أصبح هذا القطاع بهذه الخطورة، برغم مكانة التعليم وأهميته عند الأمم؟ تساؤلات كثيرة تحضر في ذهننا كأساتذة، فمحاولة القتل وغرس سكين بطول 18 سنتمتراً في ظهر من كاد أن يكون رسولاً، لا يمكن لعقل أن يتقبلها بتاتاً، خاصةً في مجتمعنا المحافظ"؛ هكذا يستهل شعيب عباس، كلامه مع رصيف22، وهو معلم ونائب مدير في إحدى المدارس الابتدائية في ولاية قسنطينة شرق البلاد، ويضيف: "أضحى هناك من الأساتذة من يفضّلون الهروب من القسم والالتحاق بالإدارة، عن طريق المسابقات المهنية الداخلية، حتى لا يكونوا وجهاً لوجه أمام التلاميذ، بينما يولد لدى بعض الأساتذة، خاصةً النساء منهم، شعور بالخوف من التلميذ، وهنا أصبح الأمر كارثياً أكثر، علماً بأن أصعب طور من الأطوار التعليمية الثلاثة، هو الطور المتوسط، الذي يُعدّ بمثابة غربال ومصفاة للطور الثانوي، ويمر التلميذ فيه بفترة مراهقة صعبة جداً".
نداء لسنّ قانون يحمي المعلم
طعنة السكين لم تكن في ظهر المعلمة فحسب، بل كانت في ظهر المجتمع بأسره.
من هنا ينطلق المتحدث الرسمي باسم النقابة الوطنية لعمال التربية جهيد حيرش، في تصريحاته لموقع رصيف22، مؤكداً أن "إرهاصات التغير الذي أصاب المجتمع الجزائري، وانهيار القيم داخله، ألقيا بظلالهما على المنظومة التربوية. ما حدث كان منتظراً، وسبقته مؤشرات عديدة حذّرنا من عواقبها، وذلك يستدعي تدخلاً عاجلاً، لسن قانون رادع لتجريم الاعتداء على المعلمة".
ويواصل حيرش الأستاذ النقابي المدافع عن حقوق الأساتذة وعمال التربية حديثه مستطرداً: "الوضعية التي بلغناها تتطلب ردة فعل حازمة من السلطات العليا في البلاد، ووزارة التربية الوطنية كونها عضواً في الحكومة، وبإمكانها اقتراح قانون يحمي الأساتذة، لأنها ممثلة للقطاع. صحيح أن الوصاية تسير في إطار التوجه نفسه، لكن ما يعاب عليها غياب التطبيق، وعقلية التسويف والتحرك المبنية على ردود فعل آنية، يتلاشى مفعولها بعد أن تهدأ الأوضاع".
لماذا أصبح التلميذ الجزائري متعالياً على الأستاذ ومتكبراً عليه لا يسمع له كلمة ولا يخشى عقوبته؟
ثلاثة عوامل تدمّر المدرسة
الأحداث التي وقعت خلال الأسبوع الأخير في عدد من المدارس والثانويات لم تعد معزولةً، وإنما ظاهرة متكاملة، تهدد استقرار المنظومة التربوية، وتراقبها جمعيات أولياء التلاميذ بخوف شديد.
في هذا الشأن تكشف الأستاذة فتيحة باشا، رئيسة الجمعية الوطنية لأولياء التلاميذ، في حديثها إلى رصيف22، أن "الأولياء والتلاميذ في جميع المدارس، يعيشون على وقع صدمة قوية، جراء طعن المعلمة ريحانة بن شية في ولاية باتنة، التي نتمنى لها الشفاء العاجل للعودة إلى أبنائها التلاميذ".
وتضيف محدثتنا قائلةً: "هذا الفعل الإجرامي كنا نسمع به خارج الجزائر، ولغياب الوازع الديني والاجتماعي، زحف ووصل إلى بلدنا، برغم نضالنا الطويل كأولياء للتلاميذ، لإبعاد المدرسة عن تأثير المحيط والبيئة، والجو المكهرب بين التلميذ والأستاذ والإدارة، وإفرازات السوشال ميديا وتكنولوجيات الاتصال، وما يُبث من برامج وأفلام عنف، وألعاب إلكترونية بعيدة عن قيمنا، تركت آثارها السلبية على أطفالنا".
واختتمت رئيسة الجمعية الوطنية لأولياء التلاميذ حديثها قائلةً: "حان الوقت لتكاتف الجهود، وتعزيز دور خلايا الإصغاء في المدارس، وتفعيل الأنشطة الترفيهية، التي تمتص الشحنات السلبية، وتخفف عبء البرنامج والرزنامة المكثفة، التي تخلق التوتر لدى الطفل، وتزيد من منسوب الضغط الذي يولّد الانفجار".
الطفل الإمبراطور
قبل دخول الألفية الثانية، كانت ذاكرة الأجيال السابقة تحتفظ بصورة جميلة عن المعلم، بوقاره وحضوره وشخصيته القوية.
لا يجرؤ أي تلميذ على النظر إلى عينيه من شدة الاحترام، الذي كان يتجاوز أسوار المدرسة، فعند رؤية المعلم في الشارع، يغيّر التلميذ أو الطالب طريقه بعيداً من شدة الحياء.
أين اختفت هذه القيم في المجتمع؟ وكيف تلاشت حتى أصبح المعلم اليوم محل سخرية وتنمر وعنف داخل القسم وخارجه؟ ولماذا أصبح التلميذ متعالياً على الأستاذ ومتكبراً عليه لا يسمع له كلمة ولا يخشى عقوبته؟
كل هذه الأسئلة بحثنا عن إجابة لها مع مسعود بن حليمة، الدكتور في علم النفس العيادي، ورئيس لجنة التربية والتعليم، الذي قال لرصيف22: "يعود السبب الرئيسي في انتشار هذه الظاهرة إلى تخلي الأسرة عن دورها، وغياب التنسيق بينها وبين المدرسة، فعلى عكس آبائنا سابقاً الذين فرضوا علينا احترام المعلم ولو بالقوة، آباء هذا الجيل يشجعون أبناءهم على التمرد على الأساتذة (...) هذا العنف حسب تحليلي، مكتسب وليس فطرياً، فالطفل يقلّد والده الذي يوبّخ المعلم، ويعنّفه ويتشاجر معه أمام ناظريه".
حظر العقاب التأديبي بالعصا أو "الفلقة" أو الضرب غير المبرح، الذي ميّز يوميات التلاميذ والأساتذة سابقاً، وصفه بعض الخبراء بالقرار السليم، لحماية التلميذ من العنف المشروع بسلة القانون، كما يحمي المعلم من سوء توظيف هذا النوع من العقاب، وعدم السيطرة على انفعالاته وردود فعله في أثناء الغضب.
غير أن الخبير النفسي والاجتماعي مسعود بن حليمة، له رأي آخر في الموضوع، أوضحه قائلاً: "غياب العقاب التأديبي، في مراحل تطوّر عقل الطفل، ساهم بشكل كبير في كسر حاجز الخوف من العقاب عند الخطأ، وفق نظرية الجزاء والعقاب، ومع شعور التلميذ بالدعم اللا مشروط مهما بلغت درجة الخطأ الذي ارتكبه، يتحول إلى إمبراطور داخل الأسرة والقسم، وينمو لديه شعور بالتمرد، يتراكم مع مرور الوقت، ليجعل من عملية السيطرة عليه أمراً صعباً للغاية".
المجتمع، المحيط، الشارع، المسجد، والمدرسة، يدعوها الخبراء النفسانيون والتربويون والاجتماعيون، إلى مراجعة عاداتها وتقاليدها وأعرافها، للتدارك وتكوين صورة إيجابية عن المعلم لدى الأبناء، خاصةً في مراحل التعليم الأولى، ومد جسور التواصل الدائم بين الأسرة والمدرسة، لمراقبة سلوك التلاميذ، وألا تقتصر هذه اللقاءات على مواعيد كشف النقاط، التي تكون غالباً لإلقاء اللوم على الأساتذة، وتحميلهم مسؤولية تراجع نتائج أبنائهم، من دون إدراك خطورة ذلك، زيادةً على توظيف التكنولوجيا في شقها الإيجابي، ومراقبة هواتف الأبناء، خاصةً مضامين العنف، واستبدالها بالمحتويات العلمية والتثقيفية، والتفطن إلى كل سلوك عنيف أو غير سوي.
هذه العناصر تترابط في ما بينها كحلقات تشكل طوق حماية متين، وفي غيابها يتحول الطفل إلى ضحية وجلاد؛ ضحية المحيط المتعفن، وجلاد على من يرتكب العنف ضدهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...