شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"الهريسة العربي"... وصفة أندلسية تسيّدت المطبخ التونسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 18 يناير 202302:03 م

مشهد دقّ الفلفل الأحمر من طرف الجدّات بطرق تقليديّة، يكاد لا يفارق مخيّلة الطفولة لدى التونسيين؛ رائحة ذكيّة وطيّبة مصدرها "المهراس" بعد امتزاج الفلفل بالثوم والتوابل أو انبعاثها من أركان المطبخ نتيجة امتزاجها بنوع من أنواع الطعام، رائحة تفوح في أرجاء المنزل والحيّ.

"الهريسة المحرحرة التونسية"، الأكلة الشعبيّة المعروفة في تونس وعربيّاً، أُدرجت في القائمة التمثيليّة للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية (اليونسكو)، في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ما دفع وزارة الشؤون الثقافيّة التونسيّة إلى أن تعدّ الهريسة "ذاكرةً حيّةً تجسّد جملةً من المعارف والمهارات التقليدية والفنون والعادات المطبخية والغذائية". فما هي أبرز مميّزات هذه الأكلة ومكانتها التاريخيّة وخصوصيتها في تنويع الأطباق التونسيّة؟

الهريسة "النابليّة" و"المهداويّة"

في كل منطقة من تونس تصبح للهريسة هويتها الخاصة. فهناك "النابليّة" نسبةً إلى ولاية نابل الواقعة في الجهة القبلية لتونس والهريسة المهداوية نسبةً إلى ولاية المهديّة الواقعة على الشريط الساحلي، وتتميز أطباق هاتين المنطقتين وعدد من المناطق التونسية الأخرى بصناعة الهريسة.

بالرغم من أنّ العنصر الأساسي في الهريسة بالنسبة إلى الوصفتين يظل نفسه، وهو الفلفل الأحمر المجفّف، إلا أنّ لكل منطقة نفساً مطبخيّاً يميّزها عن الأخرى، إذ تقول نسرين، وهي ربّة بيت متحدرة من ولاية نابل، في حديثها إلى رصيف22، إنّ "الهريسة النابليّة تتميّز بضرورة أن تُطحن بالرحى أو آلة فرم اللحم لتكون ناعمةً، ويضاف إليها العديد من البهارات وأهمّها الثوم والتابل (الكزبرة)، ويقوم سكّان المنطقة بإعداد عولة الهريسة في فصل الصيف برغم أنّه يمكن إعدادها في أيّ فترة من السنة".

"الهريسة المحرحرة التونسية"، الأكلة الشعبيّة المعروفة في تونس وعربيّاً دخلت قائمة اليونسكو، وقبلها قلوب ملايين التونسيين على مرّ القرون. فما هي خصوصيات معشوقة المطبخ التونسي؟

أفادت روضة، وهي ربّة بيت متحدرة من ولاية المهديّة، رصيف22، بأنّ الهريسة في منطقتها تعدّ بالفلفل الأحمر المجفف تحت أشعّة الشمس وليس "المكوش" (مجفف في الفرن)، ولا يجب تبليل الفلفل كثيراً عند طحنه في الرحى، ويضاف إليه من البهارات الثوم والملح وبهار الكراوية (الكمون الأرميني)، وليس بهار التوابل (الكزبرة)، وتُطحن الهريسة بالرحى مع إضافة زيت الزيتون إليها".

"الهريسة"سيدة المطبخ

لا يستغني حاتم، وهو طباخ تونسي، عن مادة الهريسة في إعداد طبق كسكسي الأعراس، وهي مادّة أساسيّة ليكون "الكسكسي" الطبق المميز للاحتفالات التونسية في الزواج. يشير حاتم إلى أنّه من أكثر الطباخين المعروفين في المنطقة التي يقطن فيها، ويقوم بإعداد مكون الهريسة بمفرده في منزله لتكون له بصمة خاصّة في إعداد الأطباق وخاصّةً إعداد بهارات "ملفوف اللحم البقري" وأيضاً بعض المأكولات الأخرى.

تربّع الهريسة على عرش المطبخ التونسي، لا يقتصر على الأحداث الاستثنائية. "خالتي محبوبة" المتحدّرة من تونس العاصمة تؤكد، من جهتها، أنها بالرغم من العيش في أحد الأحياء المكتظة، إلا أن "المهراس" لا يفارق مطبخها ولا يفارق وجبتي الغذاء والعشاء، إذ تقول محدثتنا: "صوته مزعج كثيراً لكنه ضروريّ لإعداد مادة الهريسة يوميّاً لتكوّن توابل طبق الغذاء والعشاء، فالعائلة أضحت تدمن هذه النكهة، والإعداد اليومي للهريسة أفضل من إعداد كميات منها وتخزينها".

تضيف محدثتنا: "تكاد الهريسة لا تفارق معظم الأطباق التي أعدّها، خاصةً الكسكسي والمقرونة والملوخيّة والعجّة والأرز والمرق بمختلف أنواعه والشربة والمحمصة (أكلة شعبية تونسية)، وأيضاً أكلة ‘اللبلابي’ المعروفة والمخصصة لفصل الشتاء البارد".

لا يمكن أكل الهريسة منفردةً، فهذا أمر غير ممكن نهائياً لأنّها حارّة جدّاً، لذلك تُستعمل كمنكّه في عدد من الأطباق المالحة التونسيّة ذات اللون الأحمر، وأيضاً مع الخبز، وتُعدّ من الأكلات اللذيذة والممتعة لدى أغلب التونسيّين فهي تبعث الحرارة في الجسم خاصةً في فصل الشتاء.

ترتيب مشرّف 

تُعدّ "الهريسة" عنصراً ثابتاً على المائدة التونسية، وذلك لتنوّع صيغ استعمالها وانتشارها عبر التراب الوطني، مدناً وقرى، وتأصيلها للخصوصية التونسية وتوحيدها لمختلف فئات المجتمع التونسي ودورها المهمّ في تجذر هويّته، هذا ما أكدت عليه الدكتورة حياة قطاط القرمازي، وزيرة الشؤون الثقافية، خلال ندوة صحافية، معربةً عن أملها بأن تكون هذه التجربة الناجحة حافزاً للجميع لمواصلة المجهود في صون التراث الوطني الثقافي غير المادي وتثمينه والعمل على تسجيل عناصر أخرى منه في سجلّ التراث الإنساني".

"تكاد الهريسة لا تفارق معظم الأطباق التي أعدّها، خاصةً الكسكسي والمقرونة والملوخيّة والعجّة والأرز والمرق بمختلف أنواعه"

ليست هذه المناسبة الأولى التي تُتوَّج فيها المنتجات التونسي عالميّاً بل هو التسجيل السادس للجمهورية التونسية ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، فقد تمّ تسجيل فخار نساء سجنان والمعارف والمهارات المرتبطة بإنجازه سنة 2018، والنخلة والمعارف والمهارات والتقاليد والممارسات سنة 2019، وصيد الشرفية في جزر قرقنة و"الكسكسي" في ما يتعلق بالمعارف والمهارات والممارسات المرتبطة بإنتاجه واستهلاكه (بالاشتراك مع المغرب والجزائر وموريتانيا)، وفنون الخطّ العربيّ والمهارات والمعارف والمُمارسات سنة 2021.

يُصنَّف المطبخ التونسي في مرتبة مشرّفة عالميّاً إذ إنّه من بين أفضل 50 مطبخاً في العالم لسنة 2022، وفق ترتيب الموقع العالمي المتخصص في فنون الطبخ العالميّة (Taste Atlas)، ويحتل المطبخ التونسي المرتبة 48 عالميّاً والثالثة إفريقيّاً والرابعة عربيّاً.

أندلسية الجذور

بالعودة إلى أصول الهريسة، فإن الكلمة مشتقة من فعل "هرس"، أي دقّ الفلفل الأحمر وهرسه. وتُعدّ بعد تجفيفه بإضافة بعض التوابل والمنكهات مثل الثوم والتوابل والملح والبصل، ويُطلق عليها في تونس تسميات عديدة منها: "الهريسة الحارّة أو "المحرحرة " و"الهريسة العربي".

يقول مؤرخون إنّ "الهريسة" وصلت إلى تونس مع الاحتلال الإسباني، ما بين 1535 و1574، وقد دأب الموركسيون خلال القرن الـ17، على تكثيف زراعة الفلفل في عدد من الأراضي التونسية خلال الهجرة الأندلسيّة، وانتشرت في عدد من ولايات الجمهورية التونسيّة.


مناطق الوطن القبلي والشمال والوسط، وكلّ من ولايات القيروان وسيدي بوزيد وقفصة، هي أهمّ المناطق التي اشتهرت بزراعة وإنتاج الفلفل المكون الأساسي لصنع الهريسة، بينما تشتهر كل من نابل والقيروان بإنتاج كميات كبرى من الفلفل وصناعتها وتصديرها، كما تشتهر ولاية نابل بتنظيم مهرجان سنويّ للاحتفال بعيد الهريسة والفلفل، ويُزرع الفلفل الأحمر عادةً في شهر نيسان/ أبريل، كما توجد أنواع مختلفة تُستعمل في إعداد الهريسة، ويُجمع الفلفل ويُجفف في فصل الصيف ليتم بيعه في مختلف الجهات طوال العام. يتجاوز محصول الفلفل سنويّاُ، 500 ألف طنّ وتصدَّر كميات مهمة من الهريسة إلى نحو 27 دولةً، بينها إيطاليا وفرنسا وألمانيا والجزائر وليبيا، ويقدَّر المنتج المصدّر بـ15 ألف طن تقريباً، وتتصدر مادة الهريسة أروقة أغلب معارض الطهي في مختلف أنحاء العالم.

فوائد صحية!

خلف طعمها الحار الذي قد يُبكي من لم يعتد استهلاكها، توجد فوائد صحية في الهريسة. "من أبرز مكونات الهريسة الفلفل. للاطلاع على فوائد كلّ غذاء تُعتمد وحدة القياس 100 غرام، التي يتوفر فيها على الأقل 3 غرامات من الذهنيات من النوع الجيد، و3 غرامات من البروتينات، و7 غرامات من السكريات المركبة، و87 غراماً من الماء لأنها تحتوي على كمية كبيرة من الماء، فيما تمنح 100 غرام من الهريسة الجسم 75 كيلو من السعرات الحرارية، أي أنها لا توفر للجسم عدداً كبيراً من السعرات"، هذا ما أكده أخصائي التغذية الدكتور زبيّر الشاطر، في حديث خصّ به رصيف22.

 الهريسة تجعل الطعام طيب المذاق وتفتح الشهية للأكل وترتبط حرارة الهريسة، بنوعية الفلفل وهي مفيدة للجسم خاصةً بإضافة مواد الثوم والبصل والتوابل

تحتوي الهريسة، حسب ما أكد الدكتور شاطر، على الفيتامين (C) بمعدل 40 في المئة تقريباً والفيتامين (E) بمعدل 38 في المئة مما يحتاجه الجسم، وأيضاً الفيتامين (B1 و2 و5 و9)، وهي فيتامينات ضرورية لصناعة خلايا الدم من كريات حمراء وغيرها وأيضاً للدماغ، كما تتوفر في مادة الهريسة كمية مهمة من الأملاح والمعادن والكالسيوم والصوديوم حسب كمية الملح التي يتم وضعها في الهريسة، قصد تصبيرها، وأيضاً الفوسفور والبوتاسيوم والمغنيزيوم والحديد والزنك والسيلينيوم واليود بكميات متفاوتة، وتوفر 100 غرام فقط من الهريسة للجسم حاجته من معدن الحديد طوال يوم كامل.

بيّن الشاطر أن "الهريسة تجعل الطعام طيب المذاق وتفتح الشهية للأكل وترتبط حرارة الهريسة، بنوعية الفلفل وهي مفيدة للجسم خاصةً بإضافة مواد الثوم والبصل والتوابل التي ترفع مناعة الجسم وتنشط خلايا الكريات البيضاء وتمنح النشاط للأجسام المضادة في الجسم وهي مضادة للجراثيم ومناسبة للطقس البارد".

الأمر عينه تؤكد عليه أيضاً الدكتورة منال العرفاوي، أخصائية التغذية العلاجيّة في حديثها إلى رصيف22، إذ تشير إلى أنّ "الهريسة التونسية تخفف الالتهابات في الجسم وتساعد على حرق الدهون وتعزز الدورة الدموية وتخفف نسبة الكولستيرول في الدم، ويخفف الفلفل من الصداع النصفي ويحارب الأمراض السرطانيّة ويساعد على تفادي اضطرابات الجهاز الهضمي".

وزيت الزيتون، وفق الدكتورة العرفاوي، يحتوي على مضادات الأكسدة و"الأوميغا 3" و الفيتامين (E) وحمض الأوليك ومن خصائصه الحفاظ على الوزن وعلاج الالتهابات وتسكين الآلام والحفاظ على صحة الأوعية الدموية والكولسترول الصحي في الجسم، كما يحسن عملية الهضم وحركة الأمعاء ويساهم في التقليل من مخاطر الإصابة بالسرطان، كما أن الثوم غني بالفيتامينات والمعادن مثل الفيتامين (B6) والفيتامين (C) والسيلينوم والماغنيزيوم والبوتاسيوم ويحارب الباكتيريات والفطريات ويقي من السرطان ويحدّ من الجلطات الدموية ويخفف نسبة الكولستيرول في الدم". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard