شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
حكي فاضي بلغة فصحى

حكي فاضي بلغة فصحى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 18 يناير 202302:13 م

يُعدّ الحكي "فاضياً"، حين يكون بلا معنى. كان العرب القدماء يطلقون عليه مصطلحاً غريباً وهو "على عواهنه". كانوا يقولون : هذا الرجل يلقي الكلام على عواهنه. أنا لم أكلّف نفسي عناء البحث عن معنى العواهن هنا، لكن ما يثير فضولي هو مفرد هذه الكلمة. ما هو مفرد عواهن؟ أهو عاهنة أم عوهنة؟ لكن بغض النظر عن المفرد والمثنى لهذه الكلمة التي تدل على جمع ما، فإن استخدامها مقرونةً بكلمة "كلام"، يجعل هذا الكلام بلا قيمة حقيقية.

التطور الطبيعي للمصطلحات ودلالاتها -أو ربما حين خرج العرب في غزواتهم الأولى من الجزيرة العربية، واحتلوا بلاداً مثل فارس ومصر- جعل الناس تستخدم كلمةً أخرى أسهل قليلاً، وهي كلمة "مُرسَل". فحين نقول هذا كلام مُرسَل نعني أنه لا يستحق الاستماع إليه. ماذا سيستفيد المستمع الجاد حين يستمع إلى كلام مرسَل أو على عواهنه؟ لا شيء تقريباً. تطور آخر، أظنه حصل عند انتقال الانتماء القبلي في العالم العربي إلى انتماء قومي مغشوش، جعل الناس تستخدم مصطلحاً جديداً هو "كيفما اتفق"، بدل كلمة مُرسل. إن دققنا جيداً في هذا المصطلح نكتشف أن كلمة "اتفق" تدلّ على شخص واحد، وهو المتحدث بالضرورة. لو كان المقصود المتحدث والمستمع لاستخدمنا كلمة اتفقا، وحينها سيكون الحكي فاضياً، لكنه يجري باتفاق طرفين بينهما تواطؤ ما على الثرثرة التي بلا هدف أو معنى. من الذي اتفق هنا؟ إنه المتحدث لا غير، والذي لم يتفق إلا مع نفسه في أفضل الأحوال.

التطور الطبيعي للمصطلحات ودلالاتها -أو ربما حين خرج العرب في غزواتهم الأولى من الجزيرة العربية، واحتلوا بلاداً مثل فارس ومصر- جعل الناس تستخدم كلمةً أخرى أسهل قليلاً، وهي كلمة "مُرسَل". فحين نقول هذا كلام مُرسَل نعني أنه لا يستحق الاستماع إليه

تمر السنوات على منطقتنا ونكتشف أننا دول قِطرية لا تجمعها إلا عصبية اللغة والدين، وأن العناصر التي "دحشناها" في إناء هويتنا الجمعية غير موجودة أصلاً، فانكفأنا على ذواتنا داخل حدود سياسية كيفما اتفق. هنا واكبت لغتنا التطور الجديد وابتدعت مصطلحاً لوصف الحكي الفاضي، وهو "كلام فارغ". صرنا نقول لشخص يضيّع وقتنا بترهاته التي لا بداية لها ولا نهاية: كلامك فارغ يا حبيبي.

مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي، وإتاحتها الفرصة والإمكانية لكل من هبّ ودبّ لأن يبدي رأيه، أو أن يقول كلمته في موضوع ما، أو أن يكتب نصاً أدبياً أو سياسياً، تمت الاستعاضة عن مصطلح "كلام فارغ" بمصطلح أكثر سهولةً، ويحمل المعنى ذاته، ولكن باللهجة الدارجة: وهو "حكي فاضي".

إذاً، الحكي الفاضي هو كل كلام ملقى على عواهنه، أو مرسل، أو كيفما اتفق، أو فارغ من مضمون يستحق النقاش أو الاهتمام، أو كلام لأجل الكلام ولفت الانتباه، أو غير جدّي كالمقدمة أعلاه.

أما الحكي الفاضي باللغة الفصحى، فهو ذلك الكلام الذي يعتقد صاحبه أن أمه ولدته من أجل قضية مقدسة ولا تتكرر، وهي إفهامنا، أو محاولة وضعنا على الطريق القويم

أما الحكي الفاضي باللغة الفصحى، فهو ذلك الكلام الذي يعتقد صاحبه أن أمه ولدته من أجل قضية مقدسة ولا تتكرر، وهي إفهامنا، أو محاولة وضعنا على الطريق القويم. وهذا الحكي ينقسم إلى أقسام عدة، أو إن شئنا الدقة، يندرج تحت اهتمامات عدة حسب شخصية صاحبه أو إطاره المعرفي.

أكثر أشكال الحكي الفاضي هبلاً وإضحاكاً هي تلك المندرجة تحت ما يسمى النصوص الأدبية، والتي تواجه القارئ بشكل يومي سواء على صفحات التواصل أو على ورق الكتب. مثال ذلك:

"لهاثك الكريستالي

يسرق شهوة الحديد النائم

في دمعة أيامي

ويتركني حطاماً كسفينة خضراء".

هذه النصوص وما ينتمي إليها، شكلاً ومضموناً، إن كان لها مضمون ما، ليست خطيرةً على وعي المتلقي. إن أقصى وأقسى ما يمكنها فعله هو التأثير في ذائقة القارئ المعطوبة أصلاً. فما الخطورة التي قد يشكلها شخص ينتمي إلى ذائقة "مقبلٍ مدبرٍ معاً"، إن تغيّر فجأةً وصار يطرب للّهاث الكريستالي؟ لا شيء، والله أعلم.

هذا الشكل يخرج عن أشخاص اعتقدوا، لسبب لا يعلمه إلا الله، أن مشكلات الحاضر ليست أكثر من تكرار لمشكلات الماضي، وتالياً فالحلول موجودة وجاهزة، وما علينا إلا استخراجها من مقولات السلف الصالح أو شعر فطاحل العرب

الشكل الثاني للحكي الفاضي، هو ذلك المغموس بالحكمة والموعظة. هذا الشكل يخرج عن أشخاص اعتقدوا، لسبب لا يعلمه إلا الله، أن مشكلات الحاضر ليست أكثر من تكرار لمشكلات الماضي، وتالياً فالحلول موجودة وجاهزة، وما علينا إلا استخراجها من مقولات السلف الصالح أو شعر فطاحل العرب. هذا النوع من الحكي الفاضي يبدو في ظاهره متماسكاً، ويحتوي على ألفاظ جزلة، ويفضَّل أن يكون فيه ولو القليل من السجع والقوافي. فكلما زاد السجع قلّت مقاومة المستمع وزاد خضوعه للمقولة. الجملة في هذا النوع ليست سليمةً وحسب، بل صحيحة أيضاً. فالبعرة تدلّ على البعير فعلاً، لا أحد يقول غير ذلك. إنها لا تدل على سيارة أو دراجة نارية. لكن الفنتازيا التي لا يستوعبها عقل هي الكتابة بواسطة كيبورد الكمبيوتر عن بعرات ناقة الشيخ سمطان بن مفلح، من أجل إقناع مستخدم آخر للكمبيوتر بفكرة معيّنة.

هذا الشكل خطير نوعاً ما، وتكمن خطورته في أنه يشدّنا دوماً إلى أدوات لم تعد صالحةً لزماننا. هو يغلق عقولنا على ما قاله من هم أفلح منا في زمانهم، ويعلّمنا الاتكال والكسل.

الشكل الثالث للحكي الفاضي، هو الكلام في السياسة بما لا يختلف عليه اثنان. هذا الشكل منتشر بكثرة مملة، ويبدو أن أصحابه لا يصيبهم اليأس أبداً. إنهم أولئك الكتّاب الذين يعيدون اكتشاف العجلة في كل مرة يكتبون لنا فيها مقالاً أو رأيا سياسياً. "الاحتلال بغيض" يقولون لك... جدّ؟ ومن قال غير ذلك؟ ولماذا توجه كلامك إلي كقارئ عربي؟ "نتنياهو يميني متطرف"... يا سلام. هل اكتشفت ذلك للتو؟ ماذا سأستفيد حين تقول لي شيئاً أعرفه؟ لماذا ترهق نفسك، يا رجل، في كتابة مقال عن أشياء يعرفها القارئ؟ ما هي القيمة أو الفائدة من إعادة تشخيص ما تم تشخيصه آلاف المرات من قبل؟

"نتنياهو يميني متطرف"... يا سلام. هل اكتشفت ذلك للتو؟ ماذا سأستفيد حين تقول لي شيئاً أعرفه؟ لماذا ترهق نفسك، يا رجل، في كتابة مقال عن أشياء يعرفها القارئ؟ ما هي القيمة أو الفائدة من إعادة تشخيص ما تم تشخيصه آلاف المرات من قبل؟

هذا النوع من الحكي الفاضي لا يكتفي بإعادة التشخيص، بل يتبع ذلك بإعادة الوعود التي سمعها القارئ نفسه آلاف المرات أيضاً. شيء يشبه، إلى حد ما، أن تحصل على شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية. فالشريعة ثوابت، إن أتيت بجديد فهو بدعة لا يمكن قبولها، وإن كررت القديم فإنك لم تأتِ بما يستحق أن تنال عليه لقب "أطروحة". لكن هؤلاء الكُتاب يتكاثرون كما يتكاثر حملة الدكتوراه، وهم يشكلون للإنسان العادي نخبةً سياسيةً يمكن الوثوق بها. هنا تحديداً تكمن خطورة هؤلاء، فهم يعيدون ويعيدون، ثم يقتدي بهم جيل جديد من الكتّاب الذين سيعيدون ويعيدون،، وسنظل نراوح مكاننا.

الشكل الرابع والأخير من الحكي الفاضي محزن ويدعو إلى الشفقة، لكن خطورته لا تتجاوز وعي أصحابه. إنه ذلك النوع الصادر عن أشخاص قرأوا كتاباً للمفكر العربي، أو للفيلسوف الإيطالي، ثم أخذوا على عاتقهم أن يقوموا بدبلجة كلامه في كل رأي يصدر عنهم. هؤلاء لم يقرأوا بما يكفي، ولم تعركهم الحياة بما يكفي، لم يروا إلا محيطهم ولم يسمعوا إلا ذواتهم التي تضخمت بفعل الكتاب الذي قرأوه. لهذه الأسباب هم لم يمتلكوا لغتهم الخاصة بعد، ويعتقدون أن اللغة العالية، والمصطلحات الغريبة، والجملة المعقدة تدلّ على فهم أكثر. مصيبتهم أنهم يستخدمون اللغة نفسها مهما كان الموضوع الذي يتناولونه. شرحهم لك عن فوائد البسطرما يشبه تماماً كتابتهم قصيدة غزل، ويشبه تماماً رأيهم في حرب روسيا وأوكرانيا. لا مقدماتهم تتّسق مع استنتاجاتهم، ولا مصطلحاتهم تتفق مع دلالاتها في السياق. كلام كبير لأجل الكلام الكبير، وحكي فاضي بلغة فصحى مبالغ فيها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image