تبدأ السنة الأمازيغية التي تطابق التقويم اليولياني (2973)، بعد أربعة عشر يوماً من التقويم الغريغوري (2023)، وتكون خلالها ساكنة شمال إفريقيا الناطقة بالأمازيغية وغير الناطقة بها، على موعد مع احتفالات رأس السنة الجديدة، واستقبالها بكل خيرات ومحاصيل المواسم الزراعية السابقة، كنوع من الامتنان للأرض والطبيعة، وتيمّناً بمواسم فلاحية قادمة أوفر.
تختلف الروايات حول أصل الاحتفال بالسنة الأمازيغية. هناك من يربط التقويم الأمازيغي بانتصار الملك الليبي الأمازيغي شيشناق، على فراعنة مصر واعتلائه عرش الأسر الفرعونية (الأسرة الـ22)، وذلك قبل 950 سنةً من ولادة المسيح. هناك تشكيكات في صحة الرواية، إلا أن الجميع يتفقون على أنها أسطورة مؤسسة لواقع ثقافي وتاريخي يسكن الذاكرة الجماعية للمغاربيين.
في المقابل، تحكي الأسطورة الأمازيغية أن عجوزاً تُسمّى "حاكوزة"، لم تكن ممتنةً للطبيعة ومستهترةً بقواها، واغترّت بنفسها، في وجه الشتاء القاسي والبارد، وهو ما دفع رمز الخصوبة "يان يور"، أي يناير، لاستعارة يوم واحد من "فورارا"، أي فبراير، لمعاقبة العجوز على جحودها وغرورها، إذ هبت عاصفة قوية أتت على كل ما تملك، وتحول اليوم إلى ذكرى مأساوية ارتبطت في اللا وعي الجمعي بالعقاب.
لا يقتصر الاحتفال بالحاكوز، أي السنة الأمازيغية، على الناطقين بها فقط. بل تصل إلى مثابة العيد لدى مختلف المغاربة بمن فيهم غير الناطقين بالأمازيغية ممّن يحافظون على تقاليد الأجداد. فما هي طقوس رأس العام لديهم؟
دائماً ما يُقرن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية أو "إيض يناير" بطبق "تاكلا" و"العصيدة" وبمنطقة سوس الجنوبية، وأن الاحتفال يخص الناطقين بالأمازيغية فقط، إلا أن الطقس يخص كل ربوع المغرب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ولا يزال حاضراً في القرى والمداشر برغم اختلاف الاحتفالات، ويصرّ أهلها على أنها عادات أمازيغية قديمة للأجداد والآباء، تيمّناً بموسم فلاحي جيد وامتناناً لخيرات المواسم الفلاحية السابقة.
ولهذا سنحاول رصد مجموعة من مظاهر الاحتفال بليلة رأس السنة الأمازيغية في المناطق غير الناطقة بالأمازيغية.
"الحاكوزة" واختبار شقاوة الأطفال
يُسمّى الاحتفال برأس السنة الأمازيغية في قبيلة التسول إقليم تازة (الشمال الشرقي للمغرب)، بالحاكوز، ويمتد لثلاثة أيام متتالية من الثاني عشر إلى الخامس عشر من شهر كانون الثاني/ يناير، حسب الأستاذ أحمد لزعر. تتكلف فيه النساء بمهمة فتل الكسكس للحصول على حبات غليظة تسمى ب"المردود" أو "البركوكش"، الذي يُطبخ في الماء، ويُعزل منه قدر صغير يوزَّع على 7 أثافٍ حسب الأشهر التي تتساقط فيها الأمطار (من شهر تشرين الأول/ أكتوبر إلى شهر نيسان/ أبريل). ويضيف الباحث في الأدب والتراث أن ساكنة المنطقة كانت تتنبأ بالحالة الجوية للأشهر القادمة، من خلال ترتيب الأثافي السبع، ووضع ملعقة من "المردود" لليلة كاملة فوق كل واحدة منها، والملاعق التي سال منها قدر كبير من الماء على الأثفية صباحاً، هي الأشهر التي ستعرف تساقطات مطريةً مهمةً.
ويُعدّ طبق المردود بالحليب، أو بالبصل والشحم، مع طبق الدجاج البلدي بالخرش، أهم الأطباق في منطقة التسول خلال احتفالات الحاكوز، حيث لا يزال أهالي المنطقة محافظين على هذه الأطباق بالإضافة إلى طبق المكسرات "الفاكية"، عكس طقس المردود والأثافي، وفق الباحث أحمد لزعر الذي يؤكد غيابه مع دخول التلفاز المنازل، والنشرات الجوية التي تتنبأ بشكل دقيق بحالة الطقس والتساقطات المطرية.
ويضيف الباحث، أن للأطفال دون الخمس عشرة سنةً، يُخصص لهم خبز صغير محشوّ بحبات من العنب المجفف، يسمى "الكحايح"، ويوزَّع عليهم بعد ثلاثة أيام من خبزه.
الكحايح هنا عبارة عن امتحان يُختبر فيه صبر الأطفال وتحملهم المسؤولية، إذ يؤمرون بالامتناع عن أكل الخبز المحشو حتى الموعد المحدد، وإذا ما أقدم الطفل على أكله قبل الموعد، تقوم الأم برسم علامة سوداء بالفحم على سرّته، وتخبره بأنه إنذار من "الحاكوزة" التي علمت بسرقته للخبز، وإن كرر الأمر ستعود وتأكله.
بعد انقضاء ثلاثة أيام يتغنى الأطفال بـ: "حاكوزة حاكوزتي.. عطيني كحاكتي... ولا ننتف غوفتي"، بمعنى أيتها السيدة "الحكوزة" أعطني خبزي وإلا نتفت شعري، ويرقصون بعد نجاحهم في المهمة التي أوكلت إليهم.
ويخلص الباحث أحمد لزعر، إلى أن هذه المهمة يُختبر فيها صبر الأطفال وشقاوتهم، وأن الطفل الشقي العنيد لا ينال العطايا والهدايا عكس الطفل المطيع، كما هو الأمر مع "بابا نويل".
"عطيني حكوزتي... ولا نندب شبوبتي"
يقول الباحث في التراث الجبلي عبد الواحد الذهبي، إن "الحاكوزة" هو اليوم الذي يصادف دخول الليالي، بعد 14 يوماً من التقويم الميلادي، وهو بداية السنة الأمازيغية أو "يناير الفلاحي" عند عموم الفلاحين المغاربة.
ويحكي لرصيف22، أن احتفالات "الحاكوزة" تبدأ في منطقة تاونات شمال المغرب من اليوم الرابع عشر من شهر كانون الثاني/ يناير، فيجتمع أطفال المنطقة في ما بينهم ويختارون من سيشارك في التجوال بين منازل القرية، ومن سيتكلف بحمل العطايا، ويُشترط أن يكون أميناً وذا أخلاق عالية، لينتقل الأطفال إلى اختيار الأقنعة المناسبة لإخفاء ملامحهم وتغيير أصواتهم كي لا يتعرف إليهم أهل القرية.
ففي اليوم الأول من "الحاكوزة"، حسب الذهبي، يعلن الأطفال عن بداية "الحاكوزة" ويرددون أهزوجةً تتضمن كلمات بالأمازيغية والدارجة: "ابيانو هتيلا... والحاكوز ها لليلة"، أي يا أبي ها هو قادم... الحاكوز هذه الليلة.
وإذا ما تأخر أهل الدوار في الاستجابة للأطفال يرددون: "عطيني حكوزتي... ولا نندب شبوبتي"، أي أعطني حكوزتي أي نصيبي من عطايا الحاكوز أو أنتف شعري المنفوش.
في اليوم الأول من "الحاكوزة" يعلن الأطفال عن بدايتها مرددين أهزوجةً تتضمن كلمات بالأمازيغية والدارجة: "ابيانو هتيلا... والحاكوز ها لليلة"، أي يا أبي ها هو قادم
ويجيب طفل آخر بـ: "ها هي طلعة للرف... ودجيب في المغروف"، أي إنها تصعد إلى الرف وهو مكان عالٍ في الغرفة تخزّن فيه المكسرات والسكر... وستحمل العطايا في المغرف.
وإذا ما تأخر أصحاب البيت في الرد يرددون: "اللا طلقني... والريح زيبطني"، أي يا لالة أسرعي فالريح الباردة جمدتني، وزيبطني حسب الأستاذ الذهبي، كلمة أمازيغية تعني العري، وفي حالة أخرى تعني الفقر.
ويرد آخر على المجموعة بـ: "ها هي طلعة للغرفة... ودجيبنا في القفة" أي لقد صعدت إلى غرفة التخزين لتأتينا بالقفة، ويشرح الباحث في التراث الجبلي، أن العطايا ستكون هنا كثيرةً، أي بالقفّة عكس المغرف، وهو ملعقة من الخشب أو المعدن يُغرف بها الطعام.
وإذا ما تمادت صاحبة البيت في الرد على الأطفال، يصرّ الأطفال على العطايا بالقول: "اللا هنا نركود... حتى يطيب العنقود"، أي سننام هنا حتى ينضج العنب أي حتى فصل الخريف، ولن نغادر حتى نأخذ العطايا.
وإذا استجابت صاحبة البيت للأطفال وأعطتهم العطايا والتي تكون غالباً عبارةً عن السكر والعنب المجفف واللوز، يمدحون السيدة بما أُعطي لهم: "باش تعيد هاد الدار... بالسمن... العسل والسكر"، أي أن الله سيهب أهل البيت من الخيرات، بما يقيمون أعيادهم (عيد الفطر والأضحى... إلخ)، وفق عبد الواحد الذهبي.
ويهجون أهل البيت إذا ما تم صدّهم أو نهرهم، بعبارات قاسية وعلى مسامع بقية أهل الدوّار: "باش تعيد هاد الدار... بالحمار مقشار؟"، أي بماذا سيقام العيد في هذا المنزل؟ بحمار أجرب؟
وفي الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير، أي اليوم الأول من السنة الأمازيغية، بعد جمع العطايا من ساكنة القرية، يقع الاختيار إما على منزل من منازل القرية للاحتفال، أو الاحتفال في غرفة تجاور المسجد بالرقص والأهازيج والغناء، وبالأمداح والدعاء إن شاركهم إمام المسجد الاحتفال ويتقاسمون بدورهم معه العطايا.
في المقابل تتكلف النساء بإعداد الأطباق كالكسكس، ويرقصن في ما بينهن، ويتنبّأن بعام فلاحي وافر، وحظ أوفر لهن في الزواج.
وفي دلالات السنة الأمازيغية، يشرح عبد الواحد الذهبي، أن "الحاكوزة" تكون في بداية منزلة الليالي، وأن التساقطات المطرية في هذه الليالي مفيدة لإنجاح الموسم الفلاحي، مؤكداً أن "للحاكوزة" ارتباطاً بالخير والبركة والوفرة، وأن ساكنة المنطقة كما الفلاحين يستبشرون خيراً بالأطفال وبدعواتهم في طقس التجوال، التي غالباً ما تكون مستجابةً عند الله.
"المردود" و"العكة" أبرز أطباق "ليلة العام"
احتفالات السنة الأمازيغية في قبيلة بني جيل الناطقة بالدارجة المغربية، إقليم بوعرفة (جهة الشرق)، تسمى بـ"ليلة العام"، وتأتي بعد ثلاثة عشر يوماً من أيام "النعيم"، وبعد النعيم تأتي أيام الشتاء أو "الكلدة"، ثم أيام "الذبح" قبل ليلة العام.
وتخبرنا الفاعلة الجمعوية في المنطقة، زهرة حفيان، أن تحضيرات "ليلة العام" تسبق الرابع عشر من شهر كانون الثاني/ يناير، حيث تعمل النساء على تجفيف "الفكيع" أي الفطر، و"الترفاس" أي الكمأ، وتحضير الكليلة وهو منتوج مجفف مشتق من الألبان يُستعمل في مجموعة من الأطباق، يُعرف في المناطق الشرقية للمغرب، وجمع خضروات وفواكه وقطاني ومكسرات الموسم المنصرم.
ويُعدّ "المردود" أبرز الأطباق في احتفالات السنة الأمازيغية في المنطقة، ويُفتل على شكل حبات كسكس غليظة، في جو نسائي يغلب عليه الفرح والغناء، وتضيف زهرة حفيان أن الساكنة كانت تقطف من الجبال عشبة "غرامة"، ومن الأرض عشبة "الكيز"، لتزين بهما طبق "المردود"، تيمّناً بفصل ربيع مزهر ومثمر.
وتؤكد حفيان، أن البعض من ساكنة بني جيل لا يزال محافظاً على وصفة "العكة" المكونة من السمن والرب (مربى التمر)، التي توضع في قدر صغير فوق طبق "المردود" مع نواة التمر المخبّأة، ومن حصل على نواة التمر من الطبق يُعدّ الأوفر حظاً خلال السنة الجديدة، مع شرط الاحتفاظ بالنواة.
وتضيف أنه برغم التوسع الحضاري في المنطقة، إلا أن أهالي المنطقة يجتمعون "ليلة العام" في ما بينهم للاحتفال في جو عائلي يغلب عليه البسط والمرح، وتحضر فيه مختلف الأطباق والمكسرات والخضروات والفواكه الطازجة والمجففة، تيمّناً بموسم فلاحي وفير الإنتاج.
إذاً، ليلة رأس السنة الأمازيغية موروث مغربي ومغاربي، يزخر بطقوس احتفالية متنوعة تختلف من منطقة إلى أخرى، حتى وإن كانت القرى والمداشر تنتمي إلى القبيلة نفسها أو الإقليم عينه، أو تتشارك اللغة نفسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.