(1)
"بص كده على اسم الزوج، أهوه، قريته كويس؟". قالها بعصبية وهو يقرب بطاقة زوجته الشخصية من وجهي ويطلب مني أن أتفحصها، وحين رآني أنظر أليها متراخياً، عاد ليلوح بها مشيراً إلى السطر الذي يبين تاريخ إصدارها، ثم طلب منفعلاً أن أقرأ التاريخ بصوت عالٍ، فقرأته وأنا أكتم بداخلي كل ما بي من "اليافتاح يا عليم يا رزاق يا كريم"، لكي تمر مقابلته المهبّبة على خير.
"طيب، سليم كده، خد بقى عندك البطاقة دي وبص فيها كويس واقرا لي التاريخ، ركز معايا الله يكرمك"، أضاف حضرته رافعاً من حدة صوته، مع أني لم أكن أحتاج إلى مزيد من التركيز لأدرك أن البطاقة الشخصية الأخرى التي يلوح بها في وجهي الآن، تحمل أيضاً اسم زوجته وصورتها ونفس الرقم القديم، لكنها تخلو من اسم الزوج، بل وتصف صاحبة البطاقة بالآنسة، رغم صدورها بعد البطاقة الأولى بعامين.
علا صوت أنفاسه المتحفزة في الصمت الفاصل بيننا، فقلت وأنا أحاول تجميع ما رأيته: "يمكن غلطوا وما كتبوش إنها مطلقة، بتحصل ساعات"، وقبل أن أستطرد، انتفض كمن داس على عقربة وأخذ يصرخ: "وهو أنا كنت طلّقت ولا اتنيلت على عين أمي.. ما هي دي المصيبة.. إن أنا ما طلّقتش.. والمصحف ما طلّقت"، وقبل أن أطلب منه خفض صوته لأنني لست شغّالاً عنده، أربكني انهياره فجأة في البكاء، وحين اختلط صوت نشيجه بغمغمات لم ألتقط منها جملة مفيدة سوى دعوات لأمه بالرحمة وحديث عن قفاه الذي انضرب عليه ثلاث مرات، قررت الذهاب إلى البوفيه لأطلب له ليموناً يشربه، وأترك له فرصة ليهدأ ويمسح برابيره، وحين عدت بالليمون ومزيد من المناديل، كانت غمغماته قد أصبحت أوضح، وبدا أنه مستعد لحكاية القصة بتفصيل أستطيع فهمه لأحدد بعدها الطريقة المثلى لعرض قضيته.
وحين رآني أنظر أليها متراخياً، عاد ليلوح بها مشيراً إلى السطر الذي يبين تاريخ إصدارها، ثم طلب منفعلاً أن أقرأ التاريخ بصوت عالٍ، فقرأته وأنا أكتم بداخلي كل ما بي من "اليافتاح يا عليم يا رزاق يا كريم"، لكي تمر مقابلته المهبّبة على خير
(2)
"الله يرحمك يا امّه.. يا ريتني كنت سمعت كلامك.. وحياة ربنا كان فيها شيء لله.. طب تصدق بالله.. وحياة النعمة دي ويارب أطفحها.. لما قلت لها إني خلاص نويت أتجوز منال ومش هاتجوز غيرها.. اتنفضت أمي من مكانها ولقيتها عايزة توطي عشان تبوس رجلي وهي بتقول لي بلاش البت دي يا ابني.. صحيح أنا ما أعرفهاش.. بس قلبي مقبوض منها مش عارفة ليه.. قلت لها حرام عليكي يا امّه.. دي يتيمة وعاشت عمرها كله محرومة من الحنيّة.. يعني لو ربنا كرمها وبقت أم هتحنّ على ولادها وعليّ وهتصون بيتي وتحافظ عليه.
حكاية إنها يتيمة أصلا دي كانت أول حاجة يقولها لي صاحبي اللي دبِّسني في الجوازة دي.. الله يحرقه مطرح ما راح.. منال أصلا بنت خالة مراته.. ولما عرف إني عايز أتجوز قال لي مش هتلاقي أحسن من البنت دي.. وقعد يقول شعر فيها.. لدرجة إنه قال لي: أقسم بالله لو كنت شفتها قبل ما أشوف مراتي ما كنت سبتها.. وبصراحة شكيت إنه ممكن تكون عينه منها.. بس استغفرت ربنا وافتكرت إنه راجل بتاع ربنا وبيعشق مراته وعايز يخدمني.. فوافقت أقعد معاها.. ومع الأسف جابتني على ملا وشّي من أول قعدة".
(3)
قبل أن يلوح بالبطاقتين في وجهي لافتاً انتباهي إلى بياناتهما المتضاربة، لم أكن قد تعاملت مع حكايته باهتمام كبير، ففي كل أسبوع يأتينا غاضبون وغاضبات من زيجاتهم المقندلة، لم تشف المحاكم والنيابات غليلهم، ولم تجيء لهم بالحق الذي طلبوه أو توهّموه، لذلك قرروا اللجوء إلى محكمة الرأي العام المنصوبة في برنامجنا التلفزيوني ذائع الصيت بين برامج الفضائيات، والذي يوفر لهم مساحة مضمونة للفضفضة وفشّ الغل والتسييح للشريك المِخالِف، ويوفر لمشاهديه فرصة سانحة للتسلية والنميمة والفرجة على بلاوي غيرهم لتهون عليهم بلاويهم، ويوفر لمذيعنا المخضرم المتصابي مجالاً لاستعراض حكمته العريضة ومهاراته البلاغية وقدرته على تأنيب الجميع وتأتيتهم، والأهم من ذلك كله فرصة منتظمة للمزيد من شَقْط المعجبات المنبهرات بتفوقه الأخلاقي على الجميع.
لم يكن المحامي متخصصاً في الأحوال الشخصية، لكنه كان يعرف ما يكفي عن وثيقة التصادق وملابساتها، ولم يكن يتوقع أن يرى اسم زوجته على وثيقة من إياهم.
في مرات كثيرة كنت أندهش حين يوافق الطرفان المتصارعان على الظهور في البرنامج وجهاً لوجه، برغم بشاعة ما يرويه كل طرف عن الآخر، وحين كنت أشكك في موافقة طرف ما على القدوم إلى البرنامج لأنه يبدو الأضعف حُجّة وموقفاً، كنت أفاجأ بصواب رأي مذيعنا الذي كان يطلب منا أن نقول للطرف المتردد في الحضور إنه سيفقد حقه في عرض وجهة نظره على الملأ، ولن يكون أمامه إلا أن يرفع علينا قضية بعد ظهور الحلقة خالية من ردوده، وحينها سنثبت للقاضي أننا حاولنا الاتصال به لعرض موقفه لكنه رفض، متعهدين له في حالة الحضور بالحصول على فرصته كاملة في الرد والتوضيح، وهو وشطارته في إقناع الناس بسلامة موقفه.
يشير مذيعنا إلى الميكروفون والكاميرات، قبل أن يذكرنا بألا نستهين بضعف البني آدم تجاه "الحديدة والإضاءة"، متحدثاً عن تجربته الصحفية الطويلة في الرد على الشكاوى العائلية والاستشارات العاطفية، والتي كان يتعجب في بداياتها من رغبة الناس في مشاركة الغرباء بتفاصيل محزنة أو مخجلة عن حياتهم، حتى لو تخفوا أحياناً خلف أسماء مستعارة من عينة "المعذبة ب. ع."، و"الحائر خ. ك."، فقط لكي يتخففوا من عناء شيل هموم الحياة على قلوبهم، ثم يتذكر ساخراً الوقت الذي كان يضيعه في التفكير في حلول ناجعة لمشاكل المعذّبين والحائرين، قبل أن يدرك أنهم لا يبحثون بالضرورة عن حل أو مخرج، بقدر ما يبحثون عن منبر للجأر بالشكوى، وهو ما أصبح يوفره لهم بشكل أكثر فعالية في برنامجه التلفزيوني الذي كسب منه في عام واحد أضعاف ما كسبه طيلة عمله في الصحافة.
المشكلة أن صيغة البرنامج القائمة على المواجهة الدرامية الحرّاقة، بين أصحاب سرديات درامية متناحرة عن أسباب وفاة الحياة الزوجية أو مبررات أكل الميراث أو دوافع عقوق الوالدين وظلم الآباء وطَفَشان الأمهات، لن تكون ملائمة لإقناع متهمة بتزوير بيانات رسمية مثل زوجة صاحبنا، لكي تحصل على فرصة لتبرير فعلتها التي لن تعترف بها أصلاً، ومع ذلك كان ينبغي أن أجد فرصة للتواصل معها لعلي أحاول إقناعها بالظهور بشكل ما، فأحقق خبطة مدوية يمكن أن تحسن موقفي أمام "الأستاذ" الذي يتهمني بأنني أشتغل وأنا قرفان من البرنامج الذي أراه أقل بكثير مما كنت أحلم به في مجال الإعداد التلفزيوني، ولم يكن مخطئاً في اتهامه، ولم أكن مخطئاً في أداء وظيفة أحتقرها، هي في الآخر غلطة الزمن الوغد الذي جعل أكل عيشي في أيدي ولاد وسخة مثل حضرته.
قبل أن يلوح بالبطاقتين في وجهي لافتاً انتباهي إلى بياناتهما المتضاربة، لم أكن قد تعاملت مع حكايته باهتمام كبير، ففي كل أسبوع يأتينا غاضبون وغاضبات من زيجاتهم المقندلة
(4)
"أظلمها إزاي بس.. ده أنا ما ظلمتش الغريب.. معقولة أظلم أم ابني؟ طب تصدق بالله.. لما خدت كارنيه نقابة المحامين.. أبويا ربنا يشفيه ويعافيه.. شاف الويل بسببي الراجل ده.. المهم قال لي بص يا ابني قَسَم النقابة بتاعكو ده ما يلزمنيش.. انت تحط إيدك على المصحف ده وتحلف قدامي إنك مش هتظلم حد ولا هتساعد في ظلم حد ولا هتخذل مظلوم طالما تقدر تنصره.. وربنا اللي يعلم إني وفّيت بقسم أبويا وافتكرت إن ربنا هيكرمني وهيبارك لي عشان كده.. عمري ما كنت أتخيل إن الخازوق هييجي لي من أقرب حد ليا وأكتر حد آمنت له في الدنيا.
انت عارف لما كانت بتحكي لي وهي بتتشتحتف من العياط.. إزاي أبوها موِّت أمها من القهر والنكد.. وإزاي كان عايزها تسيب كلية الهندسة وتقعد في البيت لولا أخوالها وقفوا له فكان بيطلّع البلا الأزرق عليها ويحبسها وقت الأكل في أودتها ويخليها تاكل اللي يفيض من أكل اخواتها الولاد.. كنت باقول مش ممكن تكون بتبالغ شوية؟ معقولة حد يكون جوّاه الشر ده كله ويطلعه على أقرب الناس ليه؟ بس لفّت الأيام ودقت من شرها بنفسي.. مع إني وقفت جنبها وشلتها في عينيها في الوقت اللي أبوها نفسه كان بيقول لي حقك تطلقها لو عايز.. أصل ربنا أراد أول ما اتجوزنا إنها ما تخلّفش.. كنا عايشين في طنطا ساعتها وكذا دكتور من اللي رحنا لهم قالوا إن عندها عقم مالوش علاج.. بس قلت لها ما فيش حاجة اسمها ما فيش علاج.. مش هنسيب حتة فيها أمل للعلاج إلا وهنروحها إن شالله حتى نسافر بره.
لما قال لنا أكبر دكتور في مصر إن ما فيش أمل مهما نعمل.. روّحت معاها واحنا ساكتين.. مش لاقيين حاجة نقولها.. وأول ما وصلنا البيت.. قمت داخل الأودة اللي كان المفروض تبقى أودة البيبي اللي مش هييجي وقفلت على نفسي الباب وهات يا عياط.. لقيتها بتخبّط علي وتقول لي روح اتجوز يا حبيبي أنا عارفة إن نفسك يبقى ليك عيّل ولو عايزني أبقى على ذمتك ما عنديش مانع.. عايز تسيبني أنا مسامحة.. قمت خارج وحاضنها وقلت لها: وحياة ربنا المعبود مش عايز حاجة من الدنيا غيرك.. وأنا راضي بحكم ربنا أياً يكون.. وما كنتش أعرف ساعتها إن ربنا هيرزقني بولد يملا عليّ الدنيا وإنها هتحرمني منه.
(5)
طبعاً، أصبحت قضية المحامي والمهندسة الأولى بالرعاية والاهتمام من حضرة الأستاذ، ليس فقط لأنها احتوت على عناصر جذب حراقة مثل الفساد الحكومي واستغلال النفوذ وقاهري الجن وطاردي العفاريت والمعالجين بالقرآن، ولكن لأن موضوع "وثيقة التصادق" دخل على الخط بعد أن أخفاه المحامي الشاكي لفترة، لأنه ظن أن التلويح بالظهور في الفضائيات، سيضغط على زوجته ويخيفها، فتسمح له برؤية ابنه بعد طول حرمان منه، لكنها حين واصلت صده وطلبت منه أن يخبط رأسه في أجعص حيط يقابله، قرر أن يفتح على الرابع أياً كانت النتيجة.
كانت تلك أول مرة أسمع عن "وثيقة التصادق" التي قال المحامي الملتاع إنها محاولة لتقنين زيجة تمت بين رجل وامرأة "مدخول بها قبل العقد"، بنص التعبير القانوني الغليظ الذي يشير إما إلى علاقة أقامها رجل مع قاصر تحت سن الزواج، أو علاقة نشأ عنها حملٌ رفض الرجل أو أهله الاعتراف به، أو علاقة قام البوليس بضبطها في واحدة من غزوات الحفاظ على المجتمع الرهيف من خدش الحياء، وحينها تأتي وثيقة التصادق لتكون حلاً قانونياً يحول العلاقة إلى زواج عرفي يمكن أن يتطور فيما بعد إلى زواج رسمي.
أصبحت قضية المحامي والمهندسة الأولى بالرعاية والاهتمام من حضرة الأستاذ، ليس فقط لأنها احتوت على عناصر جذب حراقة مثل الفساد الحكومي واستغلال النفوذ وقاهري الجن وطاردي العفاريت والمعالجين بالقرآن، ولكن لأن موضوع "وثيقة التصادق" دخل على الخط بعد أن أخفاه المحامي الشاكي لفترة
لم يكن المحامي متخصصاً في الأحوال الشخصية، لكنه كان يعرف ما يكفي عن وثيقة التصادق وملابساتها، ولم يكن يتوقع أن يرى اسم زوجته على وثيقة من إياهم، بعد أن فوجئ ذات يوم بزيارة من شخص خمسيني، قال له إنه ابن خالة زوجته، وقبل أن يطيل في السلامات والترحيب ويطلب الساقع والسخن، باغته الضيف بوثيقة تُصادق على زواج زوجته بشقيقه الأكبر، تحمل تاريخاً يعود إلى عشرة أعوام قبل لقاء المحامي بها، ولم يكن العجيب فقط أن عمر زوجته وقتها كان عشرين سنة وكان عمر المصادق على زواجه بها ستين سنة، بل كان الأعجب أنها لم تحصل على الطلاق أبداً من زوجها الذي رمى طوبتها، لكن أقاربه ظلوا قلقين من مشاركتها لهم في الميراث طالما ظلت باقية على ذمته، وبذلك لم تعد متهمة فقط بتزوير مستندات رسمية، بل بالجمع بين زوجين، وهو اتهام اكتشفت حين وصلت إليها بعد طول عناء أنه كان صحيحاً، واكتشفت أيضاً أنها كانت تسمع عنه لأول مرة.
...
نكمل الحكاية الأسبوع القادم بإذن الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين