انتهجت الحكومات اللبنانية بعد انتهاء الحرب الأهلية الكثير من الخطط لاستيراد المنتجات الزراعية من الخارج، عوضاً عن زراعتها، والتي غالباً ما تكون أرخص من المنتج محليّاً.
إلا أنه ومع الانهيار الاقتصادي الذي ضرب لبنان منذ العام 2019، ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمنتجات الزراعية، برزت الدعوة إلى إعادة النظر في ركائز الاقتصاد اللبناني مع التشديد على أهمية العودة إلى الزراعة بأشكالها كافة، ما ظهّر الزراعات العطرية كحاضر نفيس بين هذه الزراعات.
اللجوء إليها
لجأ المزارعون اللبنانيون، أو من أراد أن يدخل إلى عالم الزراعة، إلى الزراعات العطرية، كالزعتر والزعفران والخزامى والبابونج والقصعين، لأسباب عدّة أبرزها؛ سهولة تصريف الإنتاج، وعدم حاجتها إلى مجهود بدني مقارنةً ببقية الزراعات، بالإضافة إلى دخولها في الصناعات الدوائية والغذائية والعطورات، وكذلك عدّها مصدراً مهماً في غذاء النحل وصناعة العسل ذي الجودة العالية.
بحسب حسين جرادي، وهو مختص بالشأن الزراعي، فإن "لزراعة الزعفران مثلاً، وقعاً كبيراً جداً على المزارعين، إذ يسمّى بالذهب الأحمر نظراً إلى سعره المرتفع، فقد كان سائداً أن الزعفران لا يُزرع إلا في الأراضي الإيرانية وهذا أمر خطأ، فالزعفران موجود في إسبانيا والمغرب وتونس وأفغانستان وباكستان وروسيا والصين وفي دول كثيرة".
كان سائداً أن الزعفران لا يُزرع إلا في الأراضي الإيرانية وهذا أمر خطأ، فالزعفران موجود في إسبانيا والمغرب وتونس والكثير غيرها
يروي جرادي لرصيف22، تجربته في هذه الزراعة: "شتلة الزعفران تستطيع أن تتحمل ظروفاً مناخيةً متعددةً، وطبعاً لها شروط فنية لزراعتها لكنها ليست مستحيلةً، ونحن أجرينا تجربةً على الساحل اللبناني الذي هو ساحل رطب، خاصةً في الصيف، والزعفران لا يتحمل الرطوبة كثيراً، إلا أنه نجح وأعطى نتيجةً، والنوعية كانت ممتازةً".
أعدّت جمعية "الذهب بترابه" في بلدة بيصور في قضاء عاليه، العدة لحملة واسعة لزراعة شتلة الزعتر في جبال البلدة، ويتحدّث رئيس الجمعية عامر ملاعب، لرصيف22، عن "نشاط الجمعية في مجال النباتات العطرية لأسباب عدة؛ أولها تحول قطف الزعتر والقصعين والبابونج من الطبيعة إلى مهنة لدى البعض، ما أدى إلى إبادة هذه النباتات في الأحراج، كون الناس يقتلعون شتولها من الجذور، وتالياً تتعذر إعادة إنباتها في العام التالي".
ويقول: "نحن طرحنا مشروعاً بديلاً، أولاً للمحافظة على هذه النباتات، لأننا لا نستطيع أن نمنع الناس من الذهاب إلى الأحراج فهناك حاجة إلى هذه المادة، بل نتّبع خطوةً مضادةً بأن نشجّع على زراعة الزعتر وغيره، ونساهم في تأمين الشتول للناس، والأمر الثاني أن هذه الشتول ستصبح مصدر رزق للعائلات، فسعر كيلو الزعتر يبلغ 8 دولارات كحد أدنى، وهذا أمر مهم في الدورة الاقتصادية للعائلات".
يرى ملاعب أن سعر شتلة الزعتر بحدود 2،000 إلى 3،000 ليرة لبنانية، وعملياً يمكن الدخول في مشروع الزعتر بسعر قليل جداً ليحقق مردوداً كبيراً، ونحن نشجع الناس على الدخول في هذا العالم وهناك إقبال كبير عليه، والآن نشجع على وجود مطاحن الزعتر في جميع المناطق، وكذلك إيجاد مصانع لاستخراج زيت الزعتر الذي يدخل في الكثير من العلاجات الطبية".
دور وزارة الزراعة
تشير رئيسة دائرة المراعي والحدائق العامة في وزارة الزراعة زينة تميم، في حديث لرصيف22، إلى أن "لوزارة الزراعة إجراءاتها الخاصة تجاه الزراعات المهددة بالانقراض، وتضع التدابير للمحافظة عليها، والزعتر بالإضافة إلى العديد من الزراعات العطرية، إحدى هذه النباتات، فالناس تلجأ إلى انتزاعها من الطبيعة بطريقة عشوائية ما يعرضها لخطر الانقراض".
وتقول: "دور الوزارة هنا هو إعطاء التصاريح بالزرع، من أجل أن نضبط الكميّة بحيث أن الكمية المنتجة من الزعتر تكون من الشتول المزروعة وليست من المقطوفة من الطبيعة، وهكذا نحافظ على الزعتر في الطبيعة، وكذلك تعطي الوزارة رخصةً لقطف الزعتر البري لضبط الموضوع، كذلك تساعد الوزارة عبر خبرائها، المزارعين حول أساليب الزراعة والقطف بالطرق الصحيحة والناجعة".
بحسب تميم، يتم إنتاج 150طناً سنوياً من الزعتر من مختلف المناطق اللبنانية، وتلفت إلى أن الزعتر ليس بحاجة إلى دعم أو دعاية لتصريفه فهو يصرّف نفسه بنفسه، إذ يوجد طلب هائل على الزعتر اللبناني في لبنان وفي الخارج، ويُصدَّر كمنتج مميز.
سعر شتلة الزعتر بحدود 2،000 إلى 3،000 ليرة لبنانية، وعملياً يمكن الدخول في مشروع الزعتر بسعر قليل جداً ليحقق مردوداً كبيراً، فمن دخل في هذه الزراعة وما هو دور وزارة الزراعة؟
وتضيف: "الزعتر لا يحتاج إلى جهد هائل للإنتاج، وهو سريع الإنتاج ويعطي ثلاثة مواسم، طبعاً إذا ما تمت زراعته بالشكل الصحيح، وإذا ما حصلت الشتلة على التسميد الصحيح والمتابعة المستمرة بطبيعة الحال، لهذا نرى الهجمة من المواطنين على زراعته".
مخاطر الزراعات العطرية؟
على الرغم من الجدوى الاقتصادية والطبية للزراعات العطرية وانتشارها بشكل واسع في المناطق اللبنانية، إلا أن القيّمين على الزراعة اللبنانية، يؤكّدون أنها لا تهدد بقية الزراعات، فمعظم الزراعات التقليدية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السلة الزراعية اللبنانية، ولا يمكن التخلي عنها بسهولة.
يتحدث نقيب مزارعي التبغ في الجنوب حسن فقيه إلى رصيف22، عن أن "تراجع زراعة التبغ في الجنوب في سنوات الأزمة مرده إلى الانهيار المالي وارتفاع كلفة الزراعة على المزارع وليس إلى مزاحمة الزراعات العطرية، وما أن أعيد تصحيح سعر كيلو التبغ، عادت الناس لتزرع من جديد ومن المتوقع أن ترتفع المساحات المزروعة في العام المقبل".
وينوه فقيه إلى أن "للتبغ خصائص تحميه من المنافسة أوّلها سعره المدعوم بنسبة 30 إلى 40% من الدولة، لأنها تعدّه عامل صمود للأهالي في قراهم، بالإضافة إلى إدراة الريجي التي طوّرت الصناعة المحلية ولازمت الزراعة والصناعة والتجارة لديها وباتت ترفد خزينة الدولة بمبلغ 500 مليون دولار سنوياً".
ويؤكّد أهمية أن يكون هناك تنوع في الزراعات ويصفه بالأمر الضروري مع ضرورة معالجة مصادر المياه لتؤمن المياه للمزارعين بشكل سليم ودائم ليتشجعوا على الزراعة، فلتنوع السلة الزراعية أهمية كبيرة على الزراعة والاقتصاد.
وفي هذا السياق، تؤكّد تميم على "ضرورة تعدد الاختصاصات في الزراعة وتعدد الأنواع المزروعة، من أجل المحافظة على كل الزراعات والمحافظة على سعرها بحيث لا يُعتمد على زراعة واحدة وتُهمل البقية، فينخفض سعرها بسبب كثرتها".
اللبناني ليس مستهلكاً للزعفران، ولكي نخلق وعياً لدى اللبنانيين لاستهلاك الزعفران، نحتاج إلى وقت طويل جداً
تأمين الأسواق
إن كانت بعض الزراعات العطرية كالزعتر تسوّق لنفسها ولا تجد عوائق أمام تصريف الإنتاج، فالبعض الآخر يعاني من هذه المشكلة، ويروي جرادي عن تجربة الجيش اللبناني مع إحدى المطرانيات، إذ زرعوا الزعفران في حدود 500 دونم، وهي مساحة تُعدّ كبيرةً، وتم إنتاج كمية بحدود 5 كيلوغرامات في السنة الأولى، وفي السنة ثانية تضاعف الإنتاج، إلا أن الإنتاج الأول لم يُصرَّف حتّى الآن".
ويقول: "في لبنان، لا يوجد سوق حقيقي للزعفران، فاللبناني ليس مستهلكاً للزعفران، ولكي نخلق وعياً لدى اللبنانيين لاستهلاك الزعفران، نحتاج إلى وقت طويل جداً، من جيل إلى جيلين، وأقرب سوق لنا لاستهلاك الزعفران هو الخليج العربي، الذي يعتمد على الزعفران الإيراني، فمثلاً، المزارع اللبناني الذي لديه كيلو زعفران يمكن أن يكون ثمنه ابتداءً من 1،000 دولار وصولاً إلى 20،000 ألف دولار، حسب جودته ونوعيته، يخزّنه في بيته ولكنه لا يستطيع أن يصرّفه، وتالياً تصريف الإنتاج هو المشكلة التي تواجه زراعة الزعفران في لبنان واستمراريتها، ومن هنا تبرز الدعوة إلى ضرورة مساعدة المزارع على تأمين أسواق في الخارج لتصريف الإنتاج".
يشير جرادي إلى أن "من كان يقول إن الزراعة غير مجدية في لبنان هم التجار المستوردون للبضائع الزراعية، فلقد حاولوا أن يقنعوا اللبنانيين بأن الاستيراد أرخص من الزراعة، وحتى إن كان هذا صحيحاً، فهذا لا يعني أن تقف الحركة الزراعية في لبنان. يجب علينا أن ندعم الإنتاج المحلي لنؤمّن بيعه بسعر جيد، ونساهم في تحريك العجلة الاقتصادية".
من رحم الأزمة انبثقت الزراعات العطرية في لبنان، فهناك إقبال غير مسبوق عليها، والكل يجمع على ضرورة تطويرها وتأمين كافة مستلزمات صمودها مع المحافظة على الزراعات التقليدية، لتأمين السلة الغذائية اللبنانية لتجنيب المواطن ويلات فقدان المنتجات الزراعية أو ارتفاع أسعارها تحت أي ظرف كان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...