شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"خفت من اعترافاتي بعد العملية أكثر من العملية"... كيف نحمي خصوصيتنا ونحن تحت التخدير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الثلاثاء 13 ديسمبر 202211:04 ص


إلى جانب الخوف الطبيعي الذي يصيب أي إنسان قبل إجراء عملية جراحية، يصاحب البعض تخوف آخر من أن يبوح بما لا يدرك من كلام أو اعترافات تحت التخدير وبعد التدخل الجراحي، والأسوأ أن يكون هذا الكلام بوجود أفراد من العائلة.

من منا لا يحمل أسراراً لا يرغب بأن يعرفها أحد؟ ومن منا لا يرغب بخصوصية كاملة في حالة فقدانه القدرة على التمييز بين ما يجب أن يقوله، وما يجب ألا يقوله.

في معظم الدول يحفظ القانون حق المريض بالخصوصية الكاملة إما من خلال تأمين غرف خاصة للاستفاقة، أو بضمان عدم خروج المريض من غرفة العمليات قبل استعادته لوعية بشكل كامل، أو بمنع أي شخص مهما بلغت درجة قرابته من الدخول على المرضى وهم تحت تأثير الـ"بنج".

الأمر لا يقتصر على الجانب القانوني، فأخلاقيات مهنة الطب تحتم على الأطباء الحفاظ على خصوصية المريض الكاملة، سواء بعدم إفشاء تفاصيل مرضهم أو حالتهم الصحية، أو بحماية المريض نفسه حين يفقد القدرة على حماية نفسه. 

تجربة غريبة ومريبة  

عن تجربة شبيهة يقول سامي خالد (31 عاماً): "كنت سأجري عملية جراحية في قدمي اليسرى، أكبر تخوفاتي لم تكن العملية نفسها بل أن أستفيق من التخدير على وقع نظرات أهلي لي بسبب كلام أو هذيان غير مدرك مني، أو سخرية أصدقائي بسبب ما قد أتفوه به لا شعورياً بعد العملية، أخبرت الطبيب أنني لا أرغب بأن يدخل علي أي شخص حتى أستفيق تماماً، فمازحني قائلًا: ما الذي تخبئه عنهم ولا تريدهم أن يعلموه عنك؟". 

سامي: "أخبرت الطبيب أنني لا أرغب بأن يدخل علي أي شخص حتى أستفيق تماماً، فمازحني قائلًا: ما الذي تخبئه عنهم ولا تريدهم أن يعلموه عنك؟"

ويكمل: "بعد أن استفقت من العملية وقبل أن أسأل الطبيب عن نتيجتها، سألته: هل قلت شيئاً  طيلة فترة العملية؟ كانت تجربة غريبة ومريبة نوعاً ما، فما أصعب أن تقول ما لا تعيه، وتخوض لمدة من الزمن شعوراً غامضاً لا تعلم فيه ما الذي قلته ولمن أو عن من".

كثيراً ما نسمع عن الكلام بعد التخدير، وعن اعترافات صحيحة أو متخيلة قالها أشخاص بعد الخروج من العملية، حتى أن البعض صار يخاف مما قد يقوله بعد التدخل الجراحي أكثر من خوفه من العملية نفسها.

يتنوع ما يقال ما بين الشتم والصراخ والغزل والهذيان غير المفهوم، الأمر الذي يسمح لأسئلة كثيرة بأن تخرج مع هكذا تخوف وتصبح مشروعة وضرورية.

مثلاً... هل ما يقال في هذه الحالة هو بوح وكشف لما أخفي في الصدور، أم مجرد هلوسات،  وهذيان لا تمت للواقع بصلة؟ هل يمر الجميع بهذه الحالة؟ وما دور الرعاية الطبية في حماية خصوصية المريض؟

لمعرفة الإجابات عن هذه التسأولات وسواها سأل رصيف22 أهل الطب والاختصاص، وفي هذا التقرير نتعرف على شرحهم العلمي لهذه الظاهرة، وعن حقوق المريض في الخصوصية والحماية والرعاية. 

هل يعتبر الكلام تحت التخدير حقيقياً؟

يقول استشاري طب التخدير والعناية المركزة الدكتور محمد باحكم لرصيف22 إن الكلام الذي يقوله المريض بعد تخديره هو هلوسات غير حقيقية، ولا يمكن إثبات صحته، وهو كلام غير مترابط وغير مرتب، وما يثرثر به هو نتيجة مادة الكيتامين "Ketamine" وتتميز عن المواد المخدرة الأخرى أنها الوحيدة التي لا تؤثر على تنفس المريض أو على ضغط الدم، لهذا هي آمنة في التخدير، وتستخدم بالدرجة الأولى في حالات الحوادث ومشاكل القلب وعمليات الأطفال.

ويضيف: "تسبب مادة الكيتامين بالإضافة إلى الهلوسات الكلامية والسمعية، الكوابيس المزعجة، كأن يرى المريض أثناء التخدير أنه يصعد مرتفعاً شاهقاً".

وهي مسحوق يتكون من هيدروكلوريد الكيتامين "ketamine hydrochloride" المرسب، يتم فحص نقاءه من خلال التحليل بالأشعة تحت الحمراء "FTIR" والأشعة فوق البنفسجية "UV" حتى يصل إلى درجة التركيز المطلوبة، ثم يُعبأ في عبوات بلاستيكية ويخزن في درجة حرارة الغرفة، عندها يصبح جاهزاً للاستخدام كمهدئ ومخدر.

الطب: الكلام الذي يقوله المريض بعد تخديره هو هلوسات لا يمكن إثبات صحتها، نتيجة دخول مادة "الكيتامين" إلى الجسم، ولا يؤخذ به قانونياً أو طبياً

أما الأخصائي عمر الحامدي والذي يعمل في مجال التخدير منذ 35 عاماً في عدة دول، بما فيها منصبه كمدير دائرة العمليات والتخدير والتعقيم في مستشفى إبن سينا العام فيقول: "أي كلام يقوله المريض بعد التخدير يعتبر طبياً بحكم الهذيان، وكل الكتب العلمية تصنفه كهلوسات ولا تضعه كحقائق يجب التسليم بها".

ويتابع: "ردة الفعل من قبل المريض على البنج  تختلف من شخص لآخر، وهي نظير لما يحدث له من اختلالات عقلية ونفسية نتيجة تأثير المواد المخدرة، وهو ما يظهر في مرحلة استفاقة المريض".

وحول استخدام المواد المخدرة للحصول على اعترافات يجيب الحامدي بأن هذا الأمر وارد ولكن ليس بجرعات تخديرية طبية، إنما بجرعات وكميات أخرى، وليست تلك المواد التي تستخدم مع المريض الذي حالته تحتاج إلى تدخل جراحي. 

ويقول الطبيب النفسي محمد الصالحي: "في البداية كانت مادة الكيتامين تستخدم لتخدير الأحصنة والحيوانات، ولاحقاً صارت تستخدم في العمليات الجراحية، ومن ثم إلى الطب النفسي، حيث تستخدم بجرعات مختلفة ومدروسة في حالات الإكتئاب الشديد غير المستجيبة للعلاج التحفظي التقليدي، كون هذه المادة تغير في مستوى الوعي".

ويؤكد الصالحي أن الدراسات الطبية ترصد وتشير إلى تحسن هذه الحالات مع استخدام الكيتامين، ومؤخراَ أصبخ الكيتامين متوفراً في الصيدليات في بعض الدول على شكل بخاخ أنفي، أكثر أماناً وبفعالية مباشرة في علاج الحالات النفسية.   

الهلوسات انعكاس للخوف

وعن دواعي الطبية للتخدير فيقول الدكتور محمد: "العمليات الجراحية بالأساس بجميع أنواعها، وكذلك في حالات استخدام المناظير للجهاز الهضمي، وأيضاً في حالات العلاج بالصدمة الكهربائية في الطب النفسي".

تتراوح فترة التخدير من ربع ساعة في حالات مثل التدخلات الجراحية البسيطة كأخذ عينة للفحص النسيجي أو فحوصات العيون للأطفال، إلى 8 ساعات أو أكثر في العمليات التي تستغرق وقتاً طويلاً، مثل القلب المفتوح واستئصال ورم البنكرياس، ويتم تحديد الجرعة ونوع العقار المناسبين من قبل طبيب التخدير، حيث تتدخل عدة معطيات منها الحالة الصحية للمريض ووزنه وحتى الهدف المحدد من الإجراء.

المرضى الذي يحملون قلقاً كبيراً من إجراء العملية، أو الذين يخضعون لعمليات جراحية خطيرة قد يكونون أكثر عرضة لحديث ما بعد التخدير من سواهم للتنفيس عن خوفهم

كثيراً ما ترتبط حالة الهلوسات الكلامية للمريض بمخاوفه الداخلية وهواجسه، وبحسب الرأي الطبي فالمرضى الذي يحملون قلقاً كبيراً من إجراء العملية، أو الذين يخضعون لعمليات جراحية خطيرة قد يكونون أكثر عرضة لحديث ما بعد التخدير من سواهم للتنفيس عن خوفهم، وهي حالة محصورة في فترة بعد الاستفاقة وليس خلال التخدير حين يكون المريض نائماً تماماً.

الجانب القانوني، والأخلاق الطبية

من الناحية القانونية فكل كلام ما بعد التخدير لا يؤخذ به، كما أن معظم القوانين في العالم صارت تفرض على المستشفيات توفير غرف خاصة للاستفاقة بعد التخدير، بحيث لا يتمكن أفراد عائلة المريض من التواجد معه في هذه المرحلة الحساسة بعد العملية.

لكن، وعلى الرغم من أن القانون والطب قد حسما رأيهما بأن الكلام بعد التخدير لا يؤخذ به، إلا أن أفراد العائلة قد يكون لهم رأي آخر، فيتعاملون مع الهذيان على أنه اعترافات وحقائق، الأمر الذي قد يؤدي إلى مشاكل اجتماعية وأسرية بسهولة، أو لتعرض المريض للسخرية وهو في حالة صحية صعبة. 

يقول باحكم: "أهم خطوة قانونية هي فرض وزارة الصحة العامة والسكان اليمنية قانوناً إلزامياً بوجود غرفة إفاقة في كل غرفة عمليات".

على الرغم من أن القانون والطب قد حسما رأيهما بأن كلام بعد التخدير لا يؤخذ به، إلا أن أفراد العائلة قد يتعاملون معه كاعترافات، لذا يضمن القانون للمريض الحق في الخصوصية، وعدم إدخال أي شخص عليه قبل استعادة الوعي التامة

أما الحامدي فيشدد على ضرورة إلتزام المستشفيات بعدم جواز تواجد أي شخص مهما بلغت درجة قرابته للمريض خلال مرحلة الاستفاقة ومهما كانت الظروف، لحرمه هذا المكان وهذه المرحلة، يقول: "أتعامل مع كلام المريض بخصوصية تامة، ويكون تركيزي منصباً على عملي وإتمام المهمة على أكمل وجه، القانون الذاتي والأخلاقي في هذا المجال هو سر المهنة".

يقول باحكم: "في حالة استماع أحد أفراد العائلة إلى كلام المريض بعد إجراء العملية الجراحية له وهو لا يزال تحت تأثير البنج فإننا نخبر الأهل ونشعرهم بأن ما قاله غير صحيح، وأنها مجرد هلوسات تحت تأثير المادة المخدرة ولا يمكن التصديق عليها كحقائق". 

لذا تنصح المواقع الطبية المتخصصة أؤلئك الذين يحملون هواجساً أو تخوفات من أن يبوحوا بما لا يرغبون به تحت التخدير، أن يطلبوا هذا الأمر بشكل واضح من الطبيب وطاقم التمريض قبل العملية الجراحية، وحتى في بلاد يحسم فيها القانون الحق في الخصوصية، لأن جمع خوفين معاً -الخوف من العملية والخوف من الهلوسات- يزيد من توتر المرضى قبل العملية الجراحية وقد يكون له تأثيرات سلبية على فترة النقاهة أو ما قبلها. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image