شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"بيروت أقرب من الناصرة للقدس"... مخلّفات الدول المجاورة تصل إلى فلسطين في معرض فنيّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 27 نوفمبر 202210:24 ص

"ارتطم بوجهي جسم هلامي وأنا أسبح في بحر حيفا، فظننته قنديل البحر ولكنني اكتشفت أنه كيس نايلون مكتوب عليه: صنع في لبنان" هذه كانت الشرارة الأولى التي جعلت الفنان الفلسطيني عيسى غريّب يفكر في القرب الجغرافي بين شاطئ حيفا وشواطئ صور وصيدا وبيروت، وفي الوقت نفسه، يفكّر في البعد الذي يمنعه من الوصول وزيارة هذه الأماكن.

عندما رأي غريّب الدعوة في المتحف الفلسطيني للتقدم بأعمال لمعرض "بلد وحّده البحر: محطات من تاريخ الساحل الفلسطيني" شعر بأنها فرصة للعمل على على هذا المشروع بصورة جدية، لتقديمه كعمل فني.

يقول غريّب لرصيف22:"منذ ذلك الوقت، وبالاتفاق مع طاقم المتحف، بدأت بعملية التجميع. قمت بزيارة أماكن مختلفة على طول الساحل الفلسطيني، من رأس الناقورة في الشمال إلى اقصى الجنوب، إلى أقصى درجة استطع الوصول لها بالقرب من قطاع غزة، وبدأتُ في تجميع المخلّفات البلاستيكية التي انجرفت من دول مجاورة عربية؛ من سوريا، لبنان، مصر، تونس، المغرب، الجزائر، وذلك على مدار سنة ونصف بمساعدة الأصدقاء، كما كنت أقوم خلال زياراتي بالتصوير، لخلق يوميات فوتوغرافية وبصرية للعمل".

مخلفات عربية

قام غريّب بتقسيم المخلفات إلى ثلاثة أنواع: منتجات غذائية، ومواد التنظيف، وعلب زيوت المحركات، يقول:"وصلت هذه المخلفات للساحل الفلسطيني متحمّلة حرارة الشمس وملوحة البحر الأبيض المتوسط، والانجراف، حتى وصولها للساحل، إذ تفقد المعلومات التي تحملها، كالبلد الذي صنعت فيه، المصنع، السعرات الحرارية، الوزن الصافي، وتاريخ الإنتاج، والتي هي عبارة عن ثقافة بصرية معينة".

ارتطم بوجهي جسم هلامي وأنا أسبح في بحر حيفا، فظننته قنديل البحر ولكنني اكتشفت أنه كيس نايلون مكتوب عليه: صنع في لبنان

ما يميز قطع المخلفات التي ركز غريّب على تجميعها هي أنّها منتجة في بلد عربي، ووصلت إلى الساحل من هناك، فهو يتأكد أنها ليست منتجات جاء بها شخص واستخدمها ورماها على الشاطئ. "من المهم أن تكون قد مرت بسيرورة الانجراف والوصول إلى الساحل الفلسطيني، ومن هنا جاء اسم المعرض "قد تقود المسارات المنفصلة إلى نفس الرحلة" فجميعها جاءت من مسارات مختلفة قادتها إلى الساحل الفلسطيني".


غريّب هو فنّان بصري فلسطيني من مواليد الجليل، حاز درجة الماجستير في الفنون الجميلة من أكاديمية "بتسلئيل" في القدس، والبكالوريوس في تخصص التصوير الفوتوغرافي من الأكاديمية ذاتها، وهو عادة من يستخدم في أعماله التصوير الفوتوغرافي والفيديو والتركيب، وغالباً ما ترتبط أعماله بمفهوم الوحدة العربية، وتنشأ أعماله الفنية من خلال دراسة العناصر المتعلقة باللحظات التاريخية داخل الذاكرة الجمعية والنسيان، وتفحص الأساليب التي تُروى بها الأحداث والقصص في الثقافة الشعبية في حين تتمايل مشاريعه الفنية ما بين الواقع والخيال.

قرب الجغرافيا

من هنا جاء اهتمامه وتركيزه في هذا العمل على البلدان العربية، فهو جمع قطعاً بالمئات، ولكنه اختار منها ما يعبّر عن هذا القرب مع البلدان المجاورة، وفي نفس الوقت الانقطاع عنها، ويقول في هذا الأمر:"العمل يفتح المجال للتفكير بقرب جغرافيتنا، بيروت التي هي أقرب للناصرة من القدس، والتي كان جدي يسهر فيها ويعود مساء، هذا الأمر اليوم نوستالجيا، ونحن لا يمكننا أن نعيشه ببساطة، ولكن هذه القطع، تذكرنا أن البحر ليس له حدود، وأن الحدود موجودة فقط على الخرائط، ولكن لا حدود جغرافية تمنع هذه القطع".

وصلت هذه المخلفات للساحل الفلسطيني متحمّلة حرارة الشمس وملوحة البحر الأبيض المتوسط، والانجراف، حتى وصولها للساحل، إذ تفقد المعلومات التي تحملها، كالبلد الذي صنعت فيه، المصنع، السعرات الحرارية، الوزن الصافي، وتاريخ الإنتاج، والتي هي عبارة عن ثقافة بصرية معينة

يواصل الفنان غرّيب في حديثه لرصيف22:"ما أثّر بي أن هذه القطع تأتي من أماكن لا أستطيع أنا زيارتها، فأنا من فلسطينيي 48، وهم فئة من الشعب بقيت في فلسطين التاريخية بعد 48، فكان مصيرنا العزلة بشكل فظيع عن محيطنا الجغرافي، وعن الثقافة العربية، فانقطعنا عن هذا العالم وبقي تواصلنا محدوداً عن طريق الراديو والتلفزيون وأمور أخرى، ولكننا لا نستطيع السفر إلى أماكن معينة، والتنقل والتواصل الثقافي، وهذا العمل يتحدث عن هذه الفئة من الشعب التي انقطعت عن محيطها العربي".


وحول دور السياسة والاحتلال في الانقاطع عن تواصل الفلسطينيين/ات مع محيطهم/ن العربي، علّق غريّب:"بالنسبة للفلسطينيين/ات، فإنّ الانتماء للمحيط العربي دائماً موجود، وهذا ما أوصلته هذه القطع من إشارات، من خلال الاطّلاع من حولي، أجد فلسطين المحتلة موجودة في مكانها بالمحيط ذاته، محيط عربي وثقافة عربية، ولكن ما تغير منذ 1948 هو الاحتلال الذي فرض على فلسطين وعلى السكان الفلسطينيين/ات أصحاب الأرض الذين ظلّوا على أرضهم".

رغم الرقابة

يشير عيسى غرّيب إلى أن أكثر ما جذبه في هذه القطع "أنّها استطاعت الوصول إلى الشاطئ في واحدة من أكثر المناطق عسكرية والتي تمارس رقابة شديدة، وسلطة وفرض قوة وتحكم، كلها شكل من أشكال الاحتلال، والإنسان لا يستطيع المرور منها، ولكن النفايات استطاعت القيام بذلك، وأن تتجاوز الرقابة التي يفرضها الاحتلال على الساحل الفلسطيني، وكأنها نجاحات صغيرة".

ويضيف: "كأن هذه القطع أيضاً بشكل رمزي استطاعت أن تعيد مسار الرحلات البحرية التي كانت ما قبل النكبة، من بورسعيد ليافا مثلاً، أو عندما كانت موانئ يافا وحيفا وغيرها تعج بالبضائع التي تأخذها لدول عربية، وكأن هذه المخلفات أرادت أن توصل رسالة بأن مسار هذه الرحلات البحرية التجارية لا تزال موجودة رمزياً، كما أن البضائع لا تزال تصل من هذه البلدان العربية للساحل الفلسطيني ولكنها تصل بشكل معين، مستهلك، لا نفع لها، بحالة متكسرة ومهترئة وباهتة".

يعرض غرّيب القطع في معرضه في المتحف الفلسطيني، حيث يستطيع الزائر أن يقترب من القطع ويتفحصها، ويقرأ عنها، ويحدثنا عن بعض ما لفت انتباهه في هذه القطع: "هناك منتجات مكتوب عليها "لم تقطع أي شجرة لإنتاج هذا المنتج"، أو محمصة لبنانية اسمها "أبناء حسن الله"، مكتوب عليها "لقد تم حذف حرف الألف لحفظ اسم الجلالة".

الدلالات

تحدث غرّيب عمّا دفعه للقيام بهذا العمل وما يعنيه له، إلا أنه منفتح على كل الدلالات والقراءات الأخرى التي يحملها العمل، يقول: "أخذ العمل مفاهيم وقراءات ودلالات مختلفة وأنا أرحب بها جميعاً، هناك قراءة بأن العمل يعكس التلوث البحري، وصناعة البلاستيك والبيئة وتلوث الكرة الأرضية، ولكنني كفنان يهمني مفهوم الوحدة والقومية العربية، وألمسه في أعمالي الفنية، وأطرح أسئلة حول هذا المفهوم، وكيف أنّنا كجيل ما بعد النكسة، نعيش في ظل هذه الرؤية وهذا المشروع، وبالنظر للعمل الفني (قد تقود المسارات المختلفة لذات الرحلة)، أرى وكأن هذه المخلفات البلاستيكية، هي روحنا العربية الحديثة، قطع بلاستيكية من الجزائر ولبنان ومصر وهذه هي حالتها ومنظرها".


أفتتح المعرض في أيلول/ سبتمبر 2021، ويستمر حتى أيّار/ مايو 2023، في المتحف الفلسطيني في بيرزيت، في الضفة الغربية، وهو قريب من رام الله، إلى جانب أعمال فنّانين الذي يحتوي على قطع ومستندات أرشيفية تحكي قصة الساحل الفلسطيني على امتداد أزمنة مختلفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image