شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"جَنّة وطنّا" وجِنَّة قائدنا الـمُفدَّى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 20 نوفمبر 202204:04 م

"الهَوية" بفتح الهاء تعني "البئر بعيدة القعر"، وهو ما آلت إليه بالفعل هُويّاتُنا الوطنيّة. لا ننسى أنّ "الهُوية" بضمّ الهاء هي بما تُعرّفها المعاجم "حقيقة الإنسان وصفاته الجوهرية". من هو ذلك السياسي العبقري الذي مزج بين المعنَيَين؟ هل هُويّاتنا (بالمعنى الوطني والتداولي اليومي) تدلّ بالفعل على حقيقتنا وصفاتنا الجوهرية؟

نحن في بلاد تتماهى فيها هُويّاتنا الوطنية مع الهويّة الحزبية لتلك البلاد، تتماهى مع صورة القائد الرئيس المنتخَب و"الشرعي". غير أنّ كلمة "الشرعيّ" لدينا لا تعني شيئاً؛ هو شرعي غصباً عنا، بل هو الرئيس الخالد، وتأتي شرعيّة الخلود من كونه بطلاً شعبيّاً انتصر على معارك التتار وجيوش الإفرنج، وحارب قبل ولادته، كما هو يحارب الآن بعزيمةِ الزمان.

المشكلة هي في التماهي بين البلد بما هو "الوطن" وبين القائد وما تنطوي عليه هذه المساواة بينهما من مطابقة (المنحبّكجيّة، وبتعبير آخر أكثر حدّةً، الشبيحة) بين اسم البلد ومسيرته وبين اسم القائد ومسيرته، وبين صحّة البلد وصحّته. يعطس الوطن ويعطس الشجرُ ويعطس الشعب إذا عطس الرئيسُ المفدّى أو عطس أحد أفراد عائلته. كيف ننتمي إلى بلد يُحكم بالحديد والنار والبراميل؟ ما هي أحلامنا في كوكبنا المُسمّى سوريا؟

يعطس الوطن ويعطس الشجرُ ويعطس الشعب إذا عطس الرئيسُ المفدّى أو عطس أحد أفراد عائلته. كيف ننتمي إلى بلد يُحكم بالحديد والنار والبراميل؟ ما هي أحلامنا في كوكبنا المُسمّى سوريا؟

"الهَوية" (بفتح الهاء) تذكّرني بسقوط أحد البراميل سقوطاً حُرّاً في إحدى غرف نومنا وفي مطابخنا ومدارسنا وحدائقنا. أمّا "الهُوية"، وبعيداً عن بطاقة الـID، فهي تفرُّدنا الإنساني وتفرُّدُ كلٍّ منّا بصفات وسمات تخصّه وحده. من هو العبقري الذي اختار تسمية تلك البطاقة العجيبة التي نرتجف، نحن السوريين، كلّما طُلبتْ منّا على حاجز للجيش أو للأمن والمخابرات؟ وإذا كانت الهُوية هي سِماتنا الجوهرية بالفعل، فكيف أشترك أنا وقاتلي بالسّمات والألقاب نفسها؟

أوصلتنا الأنظمة السياسية في بلادنا إلى التخلّي عن أيّ فكرة لها صلة بالهُويّة. صرنا نُفرِّق بين تراب الأرض وانتمائنا إليه وبين الوثيقة التي تثبت ذلك الانتماءَ، وصرنا نكره هُويّاتِنا الوطنيّة. عمل حزبُ البعث في سوريا على الخلط بين مفهوم الوطن ومفهوم الحزب؛ فالحزب واحدٌ ووحيد في سوريا، كالوطن تماماً. رُحنا، كارهين لحزب البعث وشعاراته وأفعاله، نتخلّى عن انتمائنا إليه، فأُجبرنا على التخلّي عن انتمائنا لبلدنا تخويناً وتهجيراً.

أصابتنا غُرباتُنا، وصرنا نبحث عن هُويّاتٍ جديدةٍ في أوطانٍ بعيدة شمالاً وجنوباً. لكنّنا أخذنا معنا أحمالَنا، وكرّرنا أفعالَنا، وإنْ بحسِّ الفُكاهة والنكتة. وصلتْ ثقافتنا السياسية إلى أوروبا، واصطدمت فكرتنا عن القائد الخالد بفكرة الألمان مثلاً عن القائد الخادم. رُحنا نهتف، وإنْ مزاحاً، بروحِ وبدمِ أنغيلا ميركل وجاستن ترودو، وصار بوتين، من جهة ثانية، أبا علي بوتين، بين جدٍّ وسخرية. طاش حجرنا في البلاد البعيدة بـمديح الأشياء الأكيدة، كأن يمدح عصفورٌ لم يعرف إلّا جناحاً مقصوصاً وقفصاً خشبيّاً، سِعةَ السماء. نمزح ونسخر من حال أوطاننا، فنضع قناعاً لأسدٍ على وجه أنغيلا ميركل وجاستن ترودو، ثم نقف لنصرخ بالرّوح بالدّم.

رُحنا نهتف، وإنْ مزاحاً، بروحِ وبدمِ أنغيلا ميركل وجاستن ترودو، وصار بوتين، من جهة ثانية، أبا علي بوتين، بين جدٍّ وسخرية. طاش حجرنا في البلاد البعيدة بـمديح الأشياء الأكيدة، كأن يمدح عصفورٌ لم يعرف إلّا جناحاً مقصوصاً وقفصاً خشبيّاً، سِعةَ السماء

قد تكون الكوميديا السوداء طريقةً ممكنةً لعلاجِ أزماتِنا السياسية، ولإعادة تشكيل فهومنا لهُويّاتنا وانتماءاتنا التي باتت مُتعدِّدةً، غير أنّ إعادة إنتاج هذه الشعارات -وإن كانت تأتي في سياقاتٍ ساخرة- فهي تدلُّ على عجزِنا عن الخروج عن فكرة الفداء. من قال إنّ المواطن يُعرَّف في علاقته مع بلده بفكرة "الفداء" بدايةً؟ والمواطنةُ (Citizenship)، على غموض هذا المفهوم عند شعوبنا، هي شعورٌ بالانتماء، وممارسةٌ للحقوق وللواجبات بحريّة ومساوات، كما أنّها المشاركة الحرّة بالعمليّة الديمقراطية في البلد الوطن.

كيف نفهم فكرة المواطنة من خلال البصم بالدمّ ليدخلَ القائدُ في الخلود. وإن بدا لنا مُسمّى "الوطن" مُسمَّى عاديّاً، يُبعثُ مسمّى "المواطن" على الضحك، وكثيراً ما يبعث على البكاء.

تبقى لنا معاني الوطن في حنجرة عبد الباسط الساروت "جَنّة جَنّة جَنّة/والله يا وطنّا"، ويبقى لنا صوته الذي غنّى لجَنّة الوطن حين جَنَّ قائدُه المُفدّى.

جَنّة جَنّة جَنّة/والله يا وطنَّا

يا وطن يا حبيِّب/يا بو تراب الطيِّب

حتّى نارك جَنّة



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image