تحت لافتة من الخشب القديم حُفرت عليها كلمة "وردة"، يقع محل الأخوين غسان وعماد وردة، اللذين يحافظان على آخر نولٍ موجود في سوريا، وينتجان فيه مستلزمات الخيمة العربية كاملةً، مثل البسط والسجاد والوسائد وغيرها. ينادي عماد على إحدى القطع التي صنعها، ووضع فيها شيئاً من روحه وشغفه الكبير بمهنته التراثية: "القطعة بـ15 ألف أو بدك بحسبلك ياها بـ10... ما هيي عالبيعة".
يروي غسان وردة، لرصيف22، أنه ورث المهنة عن والده قبل 45 سنةً، ويقول: "لم يخلُ بيت سوري من البساط التقليدي. قديماً كنا نمشي في حقول الميدان، فأرى على طرفَي الطريق "أنوالاً دمشقيةً"، ولكن الآن أصبح الناس يلجؤون إلى الآلات"، ويضيف: "نحن بحاجة إلى إبقاء شيء من تراثنا ومعرفة كيف شكّل السوريون الأوائل معالم حياتهم اليومية".
داخل أروقة التكية السليمانية وسط دمشق، وفي سوق المهن اليدوية، بدأ الباعة وتجار الحرف التراثية بلملمة تاريخهم وذكرياتهم ونقلها إلى حيث لا يعلمون، بعد قرار وزارة السياحة السورية في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إخلاء محال الحرف اليدوية، وإعطاء أصحابها مهلة حتى نهاية العام لتنفيذ الإخلاء، تحت مسمى عمليات الترميم التي قد تستمر لأكثر من سنتين.
يحاول بعض الباعة البقاء حتى آخر يوم، والتشبث بحجراتهم التاريخية قبل نهاية الشهر الثاني عشر من هذا العام، الموعد الذي يصفه حرفيو ومحبّو التكية السليمانية، بأنه "نهاية العالم، وبداية الكارثة".
داخل أروقة التكية السليمانية وسط دمشق، وفي سوق المهن اليدوية، بدأ الباعة وتجار الحرف التراثية بلملمة تاريخهم وذكرياتهم
"تركيا الصغرى"
عند دخولك إلى التكية السليمانية، ستراود مخيلتك صور لأبنية مدينة إسطنبول التركية بسبب التشابه الكبير في التصميم العمراني، فالتكية ما هي إلا نسخة مصغرة لبناء جامع السليمانية، أحد أكبر الجوامع في تركيا وأشهرها على مستوى العالم، والذي يقع في إسطنبول الأوروبية.
بُنيت التكية السليمانية في دمشق، على أنقاض قصر الظاهر بيبرس، بعدما أمر السلطان العثماني سليمان القانوني، ببنائها وعمَّر فيها مسجداً جامعاً ومدرسةً شرطهما إلى المفتي في دمشق، وكان قد بدأ تعمير التكية والمسجد في سنة 962هـ/ 1554م، وأُكملت عمارتهما في أوائل سنة 967هـ/ 1559م، ثم بُنيت مدرسة بجانب التكية سنة 974هـ، وهي من زوائد التكية، وجاء مدرّسها من الباب العالي، وكان قد أشرف على بناء التكية السليمانية المهندس التركي الشهير آنذاك معمار سنان، إلى جانب مشاركة المهندس الدمشقي شهاب الدين أحمد بن العطار.
وبعد تأسيس الجامعة السورية في دمشق سنة 1934، استُخدم جزء من بنائها لتدريس طب الأسنان، ثم استُخدمت كمقر لمطبعة مجلة "الشرطة المدينة"، وفي فترة الاحتلال الفرنسي استقرت فيها قوات الجنرال غورو، واتخذتها مقراً لها، كما استُخدمت التكية في فترات لاحقة كمدرسة شرعية إسلامية، وفي عام 1948، إبان النكبة، لجأ إليها المهجّرون الفلسطينيون القادمون إلى سوريا.
في سبعينيات القرن الماضي، تحولت التكية السليمانية إلى سوق للمهن اليدوية، بهدف الحفاظ على التراث الوطني، حيث يبيع الحرفيون فيه الذهب والفضة و"الأنتيكا" والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى معمل الزجاج اليدوي، والموزاييك والفنون الإسلامية، كما تحتوي على اللوحات الفنية لأشهر الفنانين ومنهم نظام سعيد مخلوف، والراحل ناجي عبيد.
تاريخ للبيع
في آخر أركان السوق، يقع مرسم الفنان التشكيلي الراحل ناجي عبيد، الذي تركت لوحته "عنتر وعبلة"، بصمةً في عقول محبّي الفن، وعُرف ناجي بأنه لا يخلع النظارة السوداء عن عينيه، ويذكر عن لوحته الشهيرة أن "عنترة خيال الحرية التي تحمل نفسها فوق السيف، عنترة خيال العشق، ذاك الخلاسيّ من أمٍّ هي الحبشية الجارية لبيبة، وأبيه الأمير العربيّ، الغرب كما الشرق اهتمّ به، لأنه أسود وناضل في سبيل عرقه وجنسه، إضافةً إلى أن فكره لم يكن استعمارياً، كان مناضلاً من أجل الحرية، شخصية عنترة لم تُبنَ على أساس مكاسب دينية أو طائفية أو اقتصادية، بل بُنيت على أساس إنسان يحاول أن يثبت وجوده ونسبه، واستطاع أن يثبت ذلك".
"وين أروح أنا هلأ وهاللوحات، معقول حطها بالشارع وبيعها؟ ببيع اللوحات مثل ما بتنباع الخضروات؟"
عُرف عن الفنان الراحل ناجي عبيد، أنه الأغنى في العالم، والأكثر غزارةً في الإنتاج، وترك رصيداً كبيراً يقارب الـ600 لوحة وشارك في ما يفوق الـ100 معرض في سوريا وخارجها. تجلس اليوم في مرسمه، أو "ركنه المخفي"، كما يسميه البعض، زوجته الفنانة رغدة القاسم، التي تقول لرصيف22، إن "الكثير من السياح يسألون عن لوحات ناجي، ولا يخرج سائح إلا وبيده لوحة، حتى بعد الحرب السورية بقي عدد لا بأس به يزور المكان ليلمس قليلاً من روح ناجي".
بعد قرار إخلاء التكية السليمانية من وزارة السياحة، قلّت الزيارات وبذلك لم يبقَ لها مدخول يكفيها لها ولولدها الذي يدرس في الجامعة، وهذه اللوحات هي إرث عبيد الوحيد بعد رحيله عام 2019. تقول القاسم وهي تنظر بتعجب: "وين أروح أنا هلأ وهاللوحات، معقول حطها بالشارع وبيعها؟ ببيع اللوحات مثل ما بتنباع الخضروات؟".
تراث داخل تراث
تعمل مصممة الأزياء رفاه حمد لله، في الأزياء الشرقية داخل التكية السليمانية، منذ عام 1972. على مرّ السنوات طوّرت عملها ليتلاءم مع الذوق العام، كما تخرّج العديد من مصممي الأزياء من هذا المكان. تقول رفاه لرصيف22: "بالرغم من الأزمة والتكاليف الباهظة وقلة العمل، إلا أنني لم أتوقف يوماً عن المجيء إلى هنا".
برأيها، جمالية التكية لا تكمن فقط في القبب والأقواس، بل في الناس التي تعمل فيها، إذ إنهم تراث داخل تراث، والسياح يجدون كل ما يحتاجونه في هذا المكان بالصبغة السورية والإسلامية، وتضيف: "قالوا إن البلاد تتعافى والوضع إلى تحسّن، إلا أنني تفاجأت بقرار وزارة السياحة التي تريد أن تفسخ العقد، وليس ترميمه وإعادتنا إليه". تحوّل حمد الله نظرها بعيون لا تخلو من الحزن، إلى الملابس المتراكمة فوق بعضها وتكمل: "شعرت بأن القرار مثل الصدمة، إذ وعدنا وزير السياحة بالعودة، لكن اليوم ما نريده هو كلامٌ موثق وليس كلاماً على ‘الهواء’ للاستهلاك الإعلامي".
بُنيت التكية السليمانية في دمشق، على أنقاض قصر الظاهر بيبرس، بأمر السلطان العثماني سليمان القانوني، عام 1554
يعتقد صانع العود أنطون الطويل، الرجل الستيني الذي قضى عقوداً طويلةً من عمره بين الأعواد والأوتار، أن قرار إخلاء التكية لا يهم الآخرين، ولكن بالنسبة له ولباقي الحرفيين، هو موضوع حياة أو موت، إحياء تراث أو قتله. يقول لرصيف22: "المشاعر لا تأتي بنتيجة دائماً، بل ما نحتاجه هو واقع، ونحن لا نبحث عن الحجر فقط، بل نبحث عمّن صنعه لأن الحضارة هي الإنسان، الإنسان وحده فقط". يشير العم أنطون إلى صندوق صغير جمع فيه ذكرياته وأجمل مقتنياته الخاصة التي كانت تزيّن محله، ويقول: "كل هدول الأغراض ما عاد يسووا شي. عندي غرفتين ببيتي رح دحوش غراضي فيهن والله المستعان".
ابنته، ماري الطويل، تُعدّ أوّل فتاة دمشقية تمتهن صناعة الأعواد. تروي ماري لرصيف22، أن وزير السياحة السوري الأسبق سعد الله آغا القلعة، خلال الفترة بين عامي 2001 و2011، حين زيارته مهرجان طريق الحرير في دمشق، رآها جالسةً في ركن العود وتصنعه بحرفية، فأُعجب بأدائها وشجّعها، مشيرةً إلى أن لآغا القلعة فضلاً في استمراريتها في هذا العمل، و"لكن للأسف بعد قرار الإخلاء تركت حُجرة العود وعدت إلى البيت".
ملاذ للهرب
في المكان الأكثر ضجيجاً داخل العاصمة دمشق، وحيث اعتاد الناس الحديث مع أنفسهم لكثرة الهموم، يقع المكان الوحيد الكفيل بتعديل المزاج السيئ، التكية السليمانية، إذ اعتاد كل من يعمل فيها أو يجلس في أروقتها أن يكون سعيداً، كما يذكر الحرفي هشام الحلبي: "فنجان قهوة في التكيّة يساوي كل ملذات الدنيا".
وتقول شابة اعتادت أن تقصد التكية بشكل شبه يومي، فضّلت عدم ذكر اسمها، إنها كثيراً ما تلجأ إلى المكان، بيتها الثاني، مضيفةً: "أحب الهروب دوماً إلى التكية، فجدرانها وقببها تُشعرني بالروحانية، وأستطيع أن أبقى هنا لساعات من دون أن يسأل أحد عن سبب وجودي، أراقب الناس والزوار بلا كلل".
ويصف كاتب المحتوى محمد آذربيك، "التكية السليمانية"، بأنها "المكان الذي ما بين أسوأ مكانٍ في العاصمة وأكثر أحياء المدينة رفاهيةً. هي المكان الوحيد الذي يشبهنا بين النقيضين".
بحيرة للبط
تروي بعض الحكايات أن التكية السليمانية كانت تقدّم الطعام والمأوى للمحتاج والمشرد والمسافر، وفي الوقت ذاته، تأوي القطط المشردة والمريضة وتقدّم لها الطعام والشراب، وإلى يومنا هذا تكثر القطط المريضة في أرجاء التكية، فإما ترى قطةً من دون عين، أو بذيلٍ مقطوع، لذلك كان يُضرب المثل: "ولي على عيونه متل قطط التكية شكله مفشكل"، في إشارة إلى عدم اهتمام الشخص بشكله وملابسه.
يشير العم أنطون إلى صندوق صغير جمع فيه ذكرياته وأجمل مقتنياته الخاصة التي كانت تزيّن محله، ويقول: "كل هدول الأغراض ما عاد يسووا شي. عندي غرفتين ببيتي رح دحوش غراضي فيهن والله المستعان"
وفي القسم الغربي من التكية، توجد ساحة واسعة في وسطها بحيرة كبيرة، إلا أنها لا تزال مغلقةً منذ ما قبل الأزمة. تعهدت تركيا بترميم التكية السليمانية كاملةً عام 2009، بتكلفة تقديرية تبلغ نحو 20 مليون دولار، فيما تتولى وزارة الأوقاف السورية الإشراف على الأماكن المخصصة للعبادة والشعائر الدينية، إلا أنه بعد توتر العلاقات السياسية بين البلدين، أغلقت الحكومة السورية "التكية الكبرى"، ومنعت دخول أي شخص إلى المكان، وبات سكانها يقتصرون على البط حول بحيرتها.
حماية الحرفيين ممنوعة
لطالما دافع عرفات أوطه باشي، رئيس شعبة المهن التراثية في اتحاد غرف السياحة السورية، عن هذا المكان الذي درج وتعلم بين زواياه إلى أن غدا "شيخ كار" في مهنة الرسم النباتي على الخشب، بالإضافة إلى إمامته للمسجد الذي يتوسط بناء التكية السليمانية، ويروي لرصيف22، أن "نحو 250 عائلةً تعتاش من هذا السوق، حيث أن الورشة الواحدة يعمل فيها أكثر من شخص، بالإضافة إلى عوائل الصنّاع الذين يبيعون الاحتياجات الأولية من خارج السوق. والحرفي عندما تُسلب منه مهنته لن يبقى له خيار سوى الهجرة".
موضوع ترميم التكية بقي شائكاً وغير واضح المعالم، وجميع المعنيين به يحاولون التهرب من المسؤولية
وككل شيء في هذا البلد، نرى ونسمع العجائب، ومن تلك العجائب أن السيد عرفات قد أُنهي تكليفه من قبل وزارة الأوقاف كإمام لجامع التكية الصغرى، وذلك بسبب مناشداته الأخيرة لحماية الحرفيين والفلكلور السوري من الاندثار.
المفتاح مفقود
موضوع ترميم التكية بقي شائكاً وغير واضح المعالم، أمام وسائل الإعلام أو الجمهور، وجميع المعنيين به يحاولون التهرب من المسؤولية وإلقائها على الآخرين، إذ حاول رصيف22، التواصل مع وزارة السياحة، فذكر العاملون فيها أن ترميم التكية يُعدّ مشروعاً وطنياً بامتياز، موضحين أن "ليست لوزارة السياحة علاقة بالأمر بل هي تقدّم التسهيلات فقط، والمعني به وزارة الثقافة"، وعند التواصل مع وزارة الثقافة كان الرد: ليست للوزارة أي علاقة بالأمر، ونسبوا الأمر إلى وزارة السياحة أو إلى مديرية المتاحف والآثار، كون التكية السليمانية مبنى أثرياً. أمّا الأخيرة، وهو المكتب الهندسي لمديرية المتاحف والآثار، فأوضحوا أنهم جهة تنفيذية ليس إلّا.
اذاً، دائرة مفرغة يخوض فيها أي باحث للوصول إلى المسؤول عن قرار إخراج الحرفيين من التكية، وكأن إرادةً ما تسعى إلى إخراج الحرفيين. وبين تحويلات المكاتب الصحافية والقرارات والدراسات التي تجريها الوزارات، هناك تراث سوري عريق يلفظ أنفاسه الأخيرة في التكية السليمانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...