شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
المدارس في إدلب لم تُقفَل من عدم... لهذا تدفع

المدارس في إدلب لم تُقفَل من عدم... لهذا تدفع "حكومة الإنقاذ" نحو "خصخصة" القطاع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الاثنين 7 نوفمبر 202203:25 م

لم يكن إغلاق مدرسة المتنبّي، وسط مدينة إدلب، حدثاً مفاجئاً للمهجّرة من ريف دمشق، أم مازن فضل الله، التي يدرس ولدها الأكبر فيها، إذ لطالما عانى ولدها من الانقطاع المتكرر عن الدرس، بسبب غياب الأساتذة شبه اليومي، وخاصةً خلال آخر فترة، نتيجة عدم حصولهم على رواتبهم الشهرية.

تروي أم مازن، لرصيف22، كيف أن عدم انتظام تلقّي ولدها دروسه، ليس وليد العام الحالي، بل تقريباً هو وليد السنة الماضية، فكثيرة هي الحصص التي يتغيب عنها المعلمون، وكثيرة هي الدروس التي تجاوزوها، لذلك استحالت الدروس انتقائيةً للمعلومات، ما سبّب فجوةً كبيرةً بالنسبة إلى فهم ابنها. وهي اليوم تحاول التواصل مع شقيق زوجها المتوفى، والذي يعمل في ليبيا، بهدف الاستدانة منه، علّها تستطيع تسجيل ابنها في معهد خاص يتابع فيه تحصيله العلمي بشكل أفضل.

تقول: "تواصلتُ مع معاهد خاصة عدة، ولم أكن أتوقع هذه المبالغ المالية الضخمة التي يطلبونها لتسجيل الطلاب"، متسائلةً: "كيف يمكن لأسرة مدخولها الشهري لا يتجاوز 150 دولاراً، أن تسجّل أولادها في معاهد خاصة؟ وماذا يفعل ربّ الأسرة إذا كان لديه أكثر من ولد؟".

منهجية خبيثة

يأتي إغلاق المدارس في إدلب بسبب توقف الدعم عنها من الجهات المانحة، وتململ المدرّسين المتطوعين من متابعة عملهم فيها

لم تكن مدرسة المتنبي وحدها التي شملها الإغلاق بسبب توقف الدعم عنها من الجهات المانحة، وتململ المدرّسين المتطوعين من متابعة عملهم فيها، جرّاء عدم تحصيلهم رواتبهم الشهرية، ولو بالحد الأدنى، بل طال الإغلاق أربع مدارس أخرى، هي: حسام حجازي، والعز بن عبد السلام، والعروبة، والثورة، إلا أن مدرسة المتنبي التي افتُتحت عام 1948، تصدّر اسمها مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من غيرها، كونها صرحاً تعليميّاً عريقاً، وتضم أكثر من 1،300 طالب ثانوي، وكادر تدريس يقدّر بـ60 مدرّساً.

عبد الله المحمود، اسم مستعار لمدرّس في إحدى مدارس إدلب، اشترط من أجل الحديث مع رصيف22، تغيير اسمه لأن وزارة التربية والتعليم تمنع المدرّسين من الحديث لوسائل الإعلام تحت طائلة المحاسبة. يقول: "هناك مدارس أخرى ستلحق بالمدارس المغلقة خلال الفترة المقبلة، وذلك بسبب وقف الدعم عنها، إذ لم تتلقَّ المال منذ سنتين وأكثر، خاصةً رواتب المدرّسين، الذين يعيشون ظروفاً صعبةً كحال بقية شرائح المجتمع، ويحتاجون إلى المال من أجل مواجهة المعيشة القاسية".

ويضيف: "رواتب المدرّسين في الحلقة الأولى تقريباً مدعومة بـ120 دولاراً، وهي بالرغم من ذلك لا تكفي أمام هذا الارتفاع المعيشي الملاحظ، لكن المشكلة تكمن في دعم الحلقتين الثانية والثالثة، وإن كان لها دعم من بعض المنظمات، فلا يتجاوز راتب المدرّس فيها 150 دولاراً".

يرى المحمود، أن "هناك من يحرّك ملف التعليم ويتحكم به بشكل ممنهج، فمثلاً كيف يمكن تفسير فارق الرواتب الكبير بين موظف يعمل لساعات محددة فقط في منظمة إغاثية، ويتجاوز راتبه 500 دولار، ومعلم يحصل على 150 دولاراً في كثير من الأحيان كل ثلاثة أشهر؟ كما أن هناك جهات مسؤولةً عدة غرضها تجهيل الناس للسيطرة عليهم من جهة، ومن جهة أخرى تبرز رغبتهم في التحول نحو التعليم الخاص الشديد الكلفة، وخصخصته من دون أي مراعاة لوضع المدنيين البسطاء وقاطني المخيمات، ما يعني أن آلاف الطلاب سيتجهون إلى الجهل والشوارع والجريمة والتطرف".

ويختم قائلاً: "بعض المدرّسين قَبِلوا العمل تطوعاً، لكنهم طالبوا الإدارة بالالتزام بأجور تنقّلاتهم فقط، وبالرغم من ذلك صَمّت الإدارة أذنيها عن مطالبهم، كما أن المعلم اليوم بات مضطراً بعد دوامه، إلى ممارسة الأعمال الشاقة الأخرى، بهدف سد احتياجات أسرته، كأعمال البناء والزراعة والنقل وبيع المحروقات، خاصةً في أوقات العطلة الصيفية".

"الإنقاذ" والجدل الكبير

يبلغ عدد طلاب المدارس في إجمالي المراحل التعليمية في إدلب، 520 ألف طالب، ويبلغ عدد طلاب الحلقة الأولى أكثر من 266 ألفاً وعدد المدارس 465 مدرسةً منها 341 مدعومةً فقط، وعدد طلاب الحلقة الثانية 136 ألف طالب بعدد مدارس 450، منها 358 مدعومةً، وعدد طلاب الثانوي أكثر من 26 ألف طالب، والمدارس 130 مدرسةً، مدعومة منها 93 فقط.

هناك من يحرّك ملف التعليم ويتحكم به بشكل ممنهج، غرضه تجهيل الناس للسيطرة عليهم من جهة، ومن جهة أخرى تبرز رغبتهم في التحول نحو التعليم الخاص وخصخصته من دون أي مراعاة لوضع المدنيين البسطاء

تواصل رصيف22، بعد يومين من إغلاق المدارس، مع مديرية التربية، عبر المنسق الإعلامي في حكومة الإنقاذ، إلا أنه أشار إلى أن المديرية ترفض إعطاء أي تعليق حول الموضوع، فيما اكتفى موظف في المديرية (طلب عند تواصلنا معه عدم الكشف عن اسمه لأن المديرية تمنع أي موظف وحتى المدرّسين من التصريح لأي جهة إعلامية)، بالقول، إن السبب الرئيسي للمشكلة هو توقف الكثير من المنظمات عن دعم قطاع التعليم في المدارس، ورفضهم تجديد برامج الدعم، بالإضافة إلى عدم تخصيص موارد من قبل حكومة الإنقاذ، مشيراً إلى أن "الإنقاذ باتت ترغب في خصخصة التعليم عبر تأجيرها بعض المدارس الحكومية لتحويلها إلى معاهد خاصة".

موجة الغضب التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي منذ إغلاق المدارس في 23 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، دفعت وزارة التربية والتعليم في حكومة الإنقاذ أخيراً، وبعد سبعة أيام، لتسليط الضوء على المشكلة، وذلك خلال اجتماع مجلس الشورى العام في إدلب بحضور قائد "هيئة تحرير الشام"، أبي محمد الجولاني، وأوضح وزير التربية والتعليم إبراهيم سلامة، أن بعض المنظمات قررت التخلي عن دعم المدارس في المرحلة الثانوية، وهي مرحلة حاسمة لأنها تقرر مصير الطالب، حسب وصفه.

في المقابل، أكد رئيس مجلس الوزراء، علي كده، في الاجتماع ذاته، على تأمين كتلة مالية لتلبية حاجة الكوادر التعليمية غير المكفولة في الحلقتين الثانية والثالثة، مضيفاً أن الحكومة حاولت جاهدةً تقديم كل ما تستطيع لملف التعليم، لكنه حملٌ كبيرٌ يحتاج إلى تكاتف الجميع من سلطات المجتمع المدني ومنظماته وهيئاته.

خصخصة التعليم

يتجه التعليم نحو الخصخصة مع انقطاع الدعم عنه، إذ بدأت المدارس والمعاهد الخاصة تجتاح إدلب، مستقطبةً أصحاب المؤهلات والخبرات العلمية الكبيرة من المعلّمين، إلا أنها تعتمد على رسوم مالية كبيرة، إذ تتراوح كلفة تسجيل الطالب الواحد ما بين 250 و500 دولار للمرحلة الإعدادية والثانوية، و150 حتى 200 دولار للحلقة الأولى الابتدائية، عدا عن مصاريف النقل، ما يسبب عائقاً كبيراً أمام الأسر ذات الدخل المتوسط والمتدنّي.

بدأت المدارس والمعاهد الخاصة تجتاح إدلب، مستقطبةً أصحاب المؤهلات والخبرات العلمية الكبيرة من المعلّمين

تشير إحصائيات نشرها فريق "منسقّو استجابة سوريا"، في 28 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إلى أن الكلفة الكلّية لتأمين المعيشة ضمن الحدود الدنيا، ومن دون الاعتماد على المساعدات الإنسانية في شمال غرب سوريا، هي 4،015 ليرةً تركيةً، أي ما يعادل تقريباً 217 دولاراً أمريكياً، مع ملاحظة أن الحد الأدنى للأجور في أعمال المياومة هي 60 ليرةً تركيةً، أي ما يعادل 3.2 دولارين، (على اعتبار أن 85% من العمال شمال غرب سوريا هم من الفئة المذكورة)، وخلُصت الإحصائية إلى أن نسبة العائلات الواقعة تحت خط الفقر 87.81% وفقاً للأسعار الأساسية وموارد الدخل، ونسبة العائلات الواقعة تحت خط الجوع 39.15%، من إجمالي العائلات الواقعة تحت خط الفقر.

يقول عزام خانجي، رئيس مجلس إدارة "مؤسسة تعليم بلا حدود-مداد"، والتي تخدم 25 مدرسةً مجانيةً في ريف إدلب مجاناً، لرصيف22، إن "الخصخصة لها جانب سلبي وإيجابي في الوقت نفسه، فالسلبي أنها ستحرم أبناء الطبقات الفقيرة من التعليم المتكامل، وسيبدو حكراً على الطبقة الغنية فقط، بالإضافة إلى توجه المدرسين نحو المعاهد الخاصة لأنها تحقق نوعاً من الاكتفاء المادي والاستقرار الوظيفي".

يضيف: "أما الجانب الإيجابي للخصخصة، فيتمثل في أن الموارد الموجهة نحو التعليم محدودة، فلا يعقل أن يُقدّم شيء مجاني من كتب قرطاسية وعملية تعليمية كاملة للمقتدرين، إذ يمكن أن ندع هؤلاء الطلاب يتوجهون نحو المعاهد الخاصة بحيث يخفّ العبء عن كاهل منظمات المجتمع المدني والجهات العامة التي تقدّم لهم التعليم ومستلزماته بالمجان، ما يدفع بقية الطلاب ذوي الدخل المتدني للاستفادة أكثر من هذه الموارد المالية".

ودعا خانجي في ختام حديثه، إلى تظافر الجهود من رجال الأعمال والمغتربين والسوريين ومنظمات المجتمع المدني للتبرع وتعزيز التكافل المجتمعي من خلال إطلاق برنامج الصندوق الوطني لدعم التعليم، بحيث يُكفى المعلم مادياً ويُساهم في عملية التعليم وسدّ احتياجاتها الأساسية من وسائل التدفئة والقرطاسية والكتب والوسائل التعليمية وغيرها.

التسرّب الكبير

يلاحَظ مع التوجه اللافت نحو الخصخصة، ازدياد نسبة تسرّب الطلاب، لعدم قدرة ذويهم على دفع أقساط المدارس، فوفق آخر تقديرات اليونسيف للعام 2021، فإن أكثر من مليوني طفل في سوريا ما زالوا محرومين من التعليم جرّاء الحرب، بالإضافة إلى ذلك، فإن تدهور الوضع المعيشي في البلاد ووصول عدد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى حدود الـ90%، أجبرا الكثير من الأطفال على ترك الدراسة والتشبث بالعمل للمساعدة في تغطية نفقات أسرهم.

في مقابل ذلك، فقد استقبلت المدارس في مناطق المعارضة أكثر من 500 ألف طالب في العام الدراسي 2021/2022، فيما بلغ إجمالي عدد الطلاب المتسربين من المدارس أكثر 684 ألف طالب، أي ازداد إجمالي عدد الطلاب المتسربين عن عدد الطلاب المداومين.

ويلاحَظ أيضاً، أن نسبة التسرّب الكبيرة جداً بين طلاب التعليم المدرسي في مختلف المراحل، تصل بشكل إجمالي في مناطق المعارضة إلى 58%، بينما تتراوح نسبة التسرب من منطقة إلى أخرى، بين 42% و63%، حسب دراسة قدّمها مركز جسور (مقرّه تركيا) منتصف العام الحالي.

تتوجه حكومة الإنقاذ في إدلب نحو دعم القطاعات المنتجة والتي تستطيع من خلالها زيادة خزينتها، وكون قطاع التعليم من القطاعات المستهلكة، بالتالي فإن خصخصته هو الحل وسيدرّ عليها المال لا العكس

ويعود تسرب الطلاب من التعليم إلى أسباب عدة، أهمها عدم تطبيق إلزامية التعليم في جميع المناطق المعارضة، والوضع المعيشي السيئ وحالة الفقر التي تجبر الأبناء على العمل لمساعدة ذويهم.

ولمواجهة ذلك، كانت "منظمة مداد"، قد أطلقت مبادرة التكافل المجتمعي في محافظة إدلب وتتلخص في التعاون مع لجان شعبية ومدنية في قرى عدة، لتشكيل صناديق لدعم التعليم ومنع تسرّب الطلاب، إذ قدّمت مبالغ مماثلةً للمبالغ المجموعة في الصناديق، بهدف دعم العملية التعليمية والمعلمين المتطوعين ما ساهم في استمرار عمل هذه المدارس ومتابعة الطلاب تحصيلهم العلمي فيها، وتزويد ألف معلم من أصل 5،730 منتشرين في ريف إدلب وريف حلب الغربي بمبلغ شهري وسطي بلغ 75 دولاراً.

كما أطلق "فريق ملهم التطوعي" في إدلب، بالتزامن مع إغلاق المدارس، حملةً لدعم عودة التعليم في مدرسة المتنبي وغيرها، وللتكفل بالتكاليف التشغيلية مدة فصل دراسي كامل، إذ أشار الفريق عبر معرفاته الرسمية، أن مبلغ 25 دولار فقط تكفل طالب علمٍ لمدة فصل دراسي كامل.

ملف التعليم في الشمال السوري، وبالرغم من دعم المنظمات المحلية له، في حاجة إلى دعم دولي، إذ يبدو أن المشكلة متجذرة ولو وُجدت لها حلول مؤقتة، بسبب تركّز جهود المنظمات المحلية والدولية على دعم الاحتياجات الأساسية للمدنيين، خاصةً في المخيمات، فضلاً عن توجه حكومة الإنقاذ في إدلب إلى دعم القطاعات المنتجة والتي تستطيع من خلالها زيادة خزينتها، وكون قطاع التعليم من القطاعات المستهلكة، ويحتاج إلى ديمومة تشغيلية، بالإضافة إلى توجه المدرّسين نحو تحصيل قوت يومهم من أعمال أخرى أمام انخفاض المساعدات الدولية من جهة، وحالة الركود الاقتصادي التي تعصف بالمنطقة من جهة أخرى. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image