في كتابها "عبودية الكراكيب"، وهي التي أمضت أربعين سنة من عمرها في حرفة تهوية الفضاء المنزلي، تكشف كارين كينغستون ما تصفه بأنه "أكذوبة إنسانية متوارثة"، وتقصد بذلك تواطؤ الجميع على تفسير تعلّق الأشخاص بالمقتنيات بأنه "إضاءة موصولة على هويتهم"، أي أن الاحتفاظ بها يذكّرهم بالذي مضى، تماماً كالاحتفاظ بأحد الديكورات القديمة في المنزل لأنه هدية من صديق يحمل معه كل الذكريات الجميلة.
تقول كينغستون: "هذه أصلاً مجرد أكذوبة تواطأ الناس عليها، وشعار جعل العديد من الأشخاص يحتفظون بالكراكيب: ربما سنحتاجها في يوم من الأيام"، منوهة بأن الأشياء حينها تتكدّس فوق بعضها، وتمر السنوات، غير أن ذلك اليوم الذي نحتاج فيه إلى هذا الشيء لا يأتي.
محتلة مكاننا
"أنا ما إلي وسَع في البيت مِنْ حجم الكراكيب. إمي ما مخلية شي إلا وعنّا منه كميات، ويمكن ألوان"، هذا ما تقوله نهى (اسم مستعار) لرصيف22، وهي تشتكي بامتعاض من ضيق بيتها الصغير الذي يكاد لا يتسع لها، فكيف له أن يتسع لأغراض أمها؟
تعمل نهى في محل لبيع الألبسة، ولعلّ أقصى أمنياتها هي العودة للبيت كي "تنخمد"، على حدّ تعبيرها، ولكن واجبها تجاه منزلها وتنظيفه يحجب عنها ذلك: "مش هون المشكلة، المشكلة في أغراض أمي إللي ما بعرف وين أروح فيها. عندها علب عطور فاضية وحوالي ألف غطاية قنينة بيبسي وشغلات لا تُعدّ ولا تُحصى، مش عارفة السر وراء الاحتفاظ بها. ليت أحداً يفسر لي".
تأتي "الكراكيب" غالباً على شكل كرسي مكسور، أو زجاجة عطر فارغة، أثاث مستهلك منذ زمن وأشياء زائدة لا قيمة لها، لا تُرمى، ولكنها تبقى متناثرة مدة طويلة هنا وهناك دونما استخدام، فهي تدعو محتفظيها للاطمئنان.
نور (اسم مستعار)، عمرها 40 عاماً، تشرح لرصيف22 معاناتها مع حماتها: "يمكن محتفظة بلا مبالغة بشي 50 صحن لفناجين القهوة إللي انكسرت من كم سنة، ومرة كنت بعزّل لها البيت رميتهم في الحاوية، رجعت حماتي جابتهم، وصارت خناقة في البيت مع زوجي بسبب هالصحون اللي بلا فناجين".
تأتي "الكراكيب" غالباً على شكل كرسي مكسور، أو زجاجة عطر فارغة، أثاث مستهلك منذ زمن وأشياء زائدة لا قيمة لها، لا تُرمى، ولكنها تبقى متناثرة مدة طويلة هنا وهناك دونما استخدام، فهي تدعو محتفظيها للاطمئنان
لا تختلف نور عن أميرة التي أصرّت على فتح ملف والدتها المتعلق بالكراكيب: "تخيّلوا عند أمي كل أنواع وأحجام علب اللبن، كل ما بناكل علبة وبرميها، بتسحبها من سلّة النفايات وبترجّعها عالمجلى حتى أجليها، بحجّة: بعبّيهم ثلج، مناح للصيف ولصبغة الشعر... وبسبب هالقصة كرهت اللبن وعلبه، وصرت أتجنّب أشتريه. جد مش معقول ألف علبة".
ما الدافع وراء التكديس؟
نظراً لكون الاكتناز القهري يؤرق الكثير من الناس، طرح رصيف22 على الأخصائي النفسي باسم التُّهامي، سؤالاً مضمونه: ما الدافع أو التشخيص الحقيقي وراء تكديس وتخزين ما لا يلزم بخاصة عند بعض الأمهات؟ فردّ بالقول: "هناك اختلافات في الدوافع وراء الاكتناز، إما للاحتفاظ بذكريات معيّنة، أو الخوف من خسارتها، وهنا ندخل في صفة البُخل".
بدوره، يطلق الأخصائي النفسي، ممدوح سعيد، مصطلح "اضطراب جمع الكراكيب"، لوصف حالة يعاني صاحبها من التخلّص من المقتنيات أو التخلي عنها، ويشعر بالضيق إن فكّر في إتلافها، بغض النظر عن القيمة الفعلية لها.
ويقول لرصيف22، إن متلازمة الاحتفاظ بالأشياء القديمة موجودة لدى كل البشر ولكن بتفاوت: "في داخل كل منّا حاجة للاحتفاظ ببعض الأشياء القديمة بذريعة الاستفادة منها يوماً ما، أو ربما بهدف إعادة تدويرها أو استخدامها لأغراض أخرى، وفي الغالب هذا لا يحدث، والقصة هي مجرد اكتناز واحتفاظ بالكراكيب لا أكثر".
واللافت أن الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب لا يرونه مشكلة، وهذا ما يصعّب العلاج، لكن يمكن مساعدتهم في تغيير اعتقادهم وسلوكياتهم.
"قصّتي غير شكل، أنا مخزيّة من الجيران، لأنو أمي لما بتغسل الكلاسين (الملابس الداخلية) تاعتنا بتنشرهم كلهم على الحبل المكشوف للجيران. المصيبة إنها استخدمتهم فوَط للغبرة وتمزعوا مع الوقت، والناس إللي بشوفوا غسيلنا بفكرونا بنلبسهم مشوهين، تخيلوا موقفي شو حلو!"، هذا ما قالته رولا (اسم مستعار) التي تعمل في معمل خياطة، في حين أن الناس تعايرها بملابسها الداخلية الممزقة: "اسودّ وجهي منهم".
من جهتها، تشبّه المعلمة أمل (اسم مستعار) البالغة من العمر 55 عاماً، الذهاب إلى منزل والدتها لتنظيفه مرة في الأسبوع من لحظة عودتها من المدرسة حتى ساعات متأخرة من الليل، تماماً كالذهاب إلى الجحيم: "والله ما بعرف شو إللي مش موجود عندها، علب شوكولاتة فاضية من سنين، علب عطور، انحرقت الطناجر وولعت وبعدها محتفظة بكراتينها، معالق خشب محروقة ومكسرة"، وتضيف بالقول: "بيت أمي باختصار متل إلي بلمّوا قطع عتيقة من الشوارع، ما في فرق".
صعوبة التخلص من الكراكيب
محمد (اسم مستعار) الذي يعمل صحافياً، يعاني من هذه المسألة مع والدته: "إمي هوايتها تخزين المرطبانات الزجاجية، كل ما بتخلص علبة مربى أو أي علبة زجاج، الله وكيلك بتنظفها وبترفعها على الرف في المطبخ، ويا ويل ويله لو حدا كسر واحد فيهم، حافظاهم بالعدد والشكل واللون، وصراخها بوصل للسما، طيب وبعدين؟ ممنوع نعمل أي حركة في المطبخ حتى لا ينكسروا أحباب أمي، الله يحفظهم ويحفظها".
"أنا مخزيّة من الجيران، لأنو أمي لما بتغسل الكلاسين (الملابس الداخلية) بتنشرهم كلهم على الحبل المكشوف للجيران. المصيبة إنها استخدمتهم فوَط للغبرة وتمزعوا مع الوقت، والناس إللي بشوفوا غسيلنا بفكرونا بنلبسهم مشوهين"
وما هو أكثر طرافة، أن يشتكي أخصائي نفسي، رفض الكشف عن اسمه، من زوجته التي تقوم بتخزين الأكياس: "كل أنواع الأكياس في العالم في بيتي، الصغيرة والكبيرة فوق السرير وفي خزانة الملابس، في كل مكان، أكياس... أكياس، حتى غرفة الجلوس فيها أكياس من سنوات، لا أفهم منطقها، أنا مشغول طوال الوقت في عيادتي، ولا مجال عندي لخلق خلافات معها".
في الواقع، يصبح التخلص من الكراكيب عند هذه الفئات أمراً صعباً للغاية، نظراً لقناعة الأشخاص بأن فكرة الخلاص منها وكأنهم يفقدون جزءاً عزيزاً عليهم.
أهمية الخلاص من هذه الكراكيب
بالعودة إلى المؤلفة كارين كينغستون، نجد أن دافعاً آخر يجعل الأشخاص يحتفظون بالكراكيب تتمثل برغبتهم في امتلاك أشياء لأن معارفهم أو أقاربهم يمتلكونها، وهو ما يُشعرهم أنهم في نفس مكانتهم الاجتماعية، أي "تعويض نفسي": "الاحتفاظ بالأشياء هو مبرر آخر للاحتفاظ بالكراكيب، تحت وطأة سيكولوجية الفقر التي غالباً ما تنتقل من الآباء إلى الأبناء"، بحسب مؤلفة "عبودية الكراكيب" وكتاب آخر عن فن تنظيف البيت بعلم "الفينج شوي".
ويشير هذا العلم إلى أن تأثيراً إيجابياً يحدث جرّاء التخلص من الكراكيب، فعندما يكون البيت منظماً، تكون النفس هادئة ومتزنة، بينما إذا تراكمت الأغراض فإن التفكير يتشتت؛ فصاحب الملابس المتراكمة غالباً ما يكون أقل أناقة ممن لديه قطع محددة ومنسقة تجعله أكثر استعداداً وقدرة على تحديد احتياجاته.
"في داخل كل منّا حاجة للاحتفاظ ببعض الأشياء القديمة بذريعة الاستفادة منها يوماً ما، أو ربما بهدف إعادة تدويرها أو استخدامها لأغراض أخرى، وفي الغالب هذا لا يحدث، والقصة هي مجرد اكتناز واحتفاظ بالكراكيب لا أكثر"
"بما أنه لا توجد أشياء كثيرة مفهومة عن أسباب اضطراب الاحتفاظ بالكراكيب"، كما يقول الأخصائي ممدوح سعيد، إذن لا توجد طريقة معروفة لمنعه، إلا أنه كما هو الحال مع الكثير من الحالات المرضيّة، فإن الحصول على العلاج مع ظهور العلامة الأولى على وجود مشكلة، قد يساعد في منع تدهور الحالة والتحكم بها.
ولعلّ أكثر ما يحتاجه المرء من هذه الفئة هو اقتناعه أن حياته ستكون منظمة وسهلة لو تخلص من الكراكيب، وسيحصل على فوائد عديدة أهمها زيادة الطاقة الإيجابية في المنزل، كما أن التدرج مع الشخص المعني في عملية إتلاف الكراكيب مسألة ذات أهمية، لأن التخلص منها لن يكون سريعاً، ويحتاج الأمر إلى مسألة وقت، لذلك "فلتكن البداية تدريجية"، كما تنصح كارين كينغستون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...