شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
“أشيائي كأولادي“... عن “الاكتناز” أو الهوس بتكديس الممتلكات

“أشيائي كأولادي“... عن “الاكتناز” أو الهوس بتكديس الممتلكات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 1 سبتمبر 202005:19 م
"صفعني والدي وأنا في سن العاشرة لأنني أضعت صندوق به مفك براغي وأدوات أخرى كان يستعملها أبي لإصلاح المذياع"، تقول عائشة (54 عاما) لرصيف22.

"مفك البراغي كان يمثل حجر الأساس في المنزل، ورفيق الدرب في ظل غياب التلفاز، والإنترنت في تلك الفترة، ولكم أن تتخيلوا كيف مرت تلك الليلة دون مذياع، فقد كان أبي ينظر إلي في كل مرة، ويذكرني بالمسألة "د بالك مزلت تضيع حاجة" أي يحذرني من فقدان أي شئ آخر".

بهذه الكلمات الممتزجة بالذكريات الأليمة، تحكي عائشة عن المشكلة التي باتت تعاني منها جراء تلك الحادثة، وهو ما يعرفه الأطباء النفسيين بظاهرة الاكتناز القهري، حيث أصبحت تجمع كل السلع، والمقتنيات داخل المنزل خوفا من فقدانها، واعتقادا منها إنها ستستحقها يوماً ما.

ويمكن تمييز الاكتناز القهري عن التعلق غير المرضي بالأشياء، إذا صاحب فقدان الشخص لما يكتنزه أعراض نفسية مثل الشعور بعدم الراحة، أو النوم لساعات طويلة.

جزء من حياتي

انطلقت عائشة، وهي ربة بيت من محافظة الكاف شمالي غربي تونس، في جمع وتكديس هذه المقتنيات منذ أن كانت في سن المراهقة، ولم تتخل عن هذه العادة، التي أصبحت جزءا من حياتها اليومية حتى بعد زواجها، حيث تعود في كل مرة إلى الأكوام التي قامت بتكديسها في كل ركن من أركان المنزل لتتفقدها، وتتذكر الاشياء الموجودة بداخلها حتى تجدها بسرعة، في حال احتاجت لها حسب قولها.

وتحدثت عائشة عن الضغط الذي تتعرض له من عائلتها جراء تكديس هذه المقتنيات الزائدة عن الحاجة، ومع ذلك تجد ذلك ممتعا بالنسبة لها، وملاذها الوحيد من روتين الحياة اليومية، فقد كانت تنشغل بتلك الأشياء "كأنهم أولادها".

"تأثرت كثيرا بالموقف الذي ضربني فيه والدي بسبب تضييعي للمفك، وقد كان الدافع الأكبر للمحافظة على كل المقتنيات عندما كبرت وتزوجت، وجمعها لربما نحتاج إليها يوماً ما"

وتجمع عائشة كل ما تعتقد إنه يصلح في المستقبل من أواني بلاستيكية، وأسلاك كهربائية، ومفاتيح وقوارير بلاستيكية، وكتب، وجرائد، وفواتير الكهرباء، والماء بالإضافة إلى الملابس، والأحذية القديمة، والجديدة واللائحة تبدو أكثر من ذلك بالنظر إلى أكوام المقتنيات.

ويقول الأخصائي في علم النفس، عبد الباسط الفقيه لرصيف22 إن عادة جمع المقتنيات القديمة داخل المنزل موجودة لدى الجميع، لكن بدرجات متفاوتة، وتصبح هذه الحالة مرضية، عندما ترتقي إلى تعطيل حياة الفرد، وتكون عبئا عليه وعلى زوجته وأولاده وعلى المجتمع بصفة عامة.

ويضيف الفقيه أنه "عادة ما يُقابل الأشخاص المصابون بهذا النوع من الاضطراب ظروفاً معيشية صعبة، حيث تتراكم الأمور غير الضرورية في منازلهم بشكل مزعج، مما يجعلها غير مريحة، ومليئة بالفوضى، وتتسبب في خلافات عائلية، وحتى أمراض خاصة في الجهاز التنفسي، وغيرها".

صفعة القدر

تقول عائشة لرصيف22 إن الصفعة التي تلقتها من والدها كان لها الوقع الأبرز في حياتها، قائلة:" أتذكر أنني كنت خائفة جدا، لقد كان أبي فظ في معاملته معنا، وكنا نهابه كثيرا، فبمجرد دخوله إلى المنزل يعم الهدوء، ولا نتكلم إلا عند الضرورة، ولا نغادر المنزل إلا عند الحاجة القصوى".

" مررت بلحظات عصيبة بكيت كثيرا، وتأثرت بذلك الموقف، ومنذ ذلك الوقت ظلت تلك الصفعات والإهانات، التي تعرضت لها لا تفارق مخيلتي، فقد كانت الدافع الأكبر للإقبال على المحافظة على كل المقتنيات، وجمعها لربما نحتاج إليها يوما ما إرضاء لأبي".

ويعلّق الفقيه لرصيف22: "إن كل شخص لديه تشقق في شخصيته منذ الصغر بطبعه، وإذا تعرض لأي صدمة كبيرة في حياته يمكن أن ينهار في أي لحظة ويفقد توازنه".

ويضيف "هذا التشقق لا ينطلق بين ليلة وضحاها إنما لديه أصول قديمة تنطلق من الصدمات التي تلقاها المريض منذ صغره، مثلا عقاب بعض الأمهات لأبنائهن من أجل افتكاك شئ عائد لهم قد يتحول عندما يصل إلى سن المراهقة أو عندما يكون كهل إلى أمراض وقد يكون الإكتناز من بينها".

"بيتنا أصبح فوضوي"

يمكن أن يدفع تكديس المقتنيات بطريقة فوضوية في المنزل إلى زعزعة الاستقرار العائلي، ويتسبب في مشاكل قد تصل حد الانفصال.

تقول ابتسام (26 عاماً)، وهي الابنة الوحيدة لعائشة: "لم يعد منزلنا الذي يحتوي على ثلاث غرف ومطبخ وبيت للاستحمام قادراً على استيعاب عائلاتنا التي تضم أربعة أفراد، فقد عمت الفوضى كل الأرجاء، واستحوذت أمي تقريباً على كل ركن من أركان المنزل عن طريق تكديس المقتنيات، ما صعب الحياة اليومية للعائلة، وأصبح أمراً مقلقاً ولغزاً محيراً عجزت العائلة عن فك شفراته".

تقول ابتسام: "بمجرد دخولك للمنزل، تشعر بالضيق والإحباط، حيث تعترضك أكوام من المقتنيات في المطبخ، فوق الدولاب، تحت السرير، في المخزن، في البلكونات في رفوف الخزانة وفوقها، وحتى في بيت الاستحمام تجد مقتنيات وألبسة وصناديق بلاستيكية، أدوات كهربائية وغير كهربائية، أوراق كتالوجات، مجلات، كتب، جرائد وفواتير الماء والكهرباء التي تعود لعشرات السنين".

وتشدد ابتسام على أن حالة أمها أثرت عليها نفسياً، حيث لم تعد ترغب في دعوة أصدقائها للمنزل، وخائفة أيضاً من رد فعل شريكها المستقبلي الذي ربما سيتوجس من حالة والدتها.

وتضيف ابتسام: "أمي ترفض بشدة أن يتم العبث بهذه المقتنيات أو حتى مجرد التفكير في تحريكها من مكانها أو رميها، وهو ما خلق حالة من الفوضى والصدام أحيانا مع أبي".

"الطفولة منبت الأمراض"

ويلتجئ مريض الاكتناز في حال تعرضه لأزمة إلى جمع المقتنيات وتكديسها، لأنها تعزز له نوعاً من الطمأنينة وتجعله يستعيد ثقته بنفسه بتلك الأشياء التي يجمعها، حسب الأستاذ عبد الباسط الفقيه.

ويرجع الفقيه أسباب ذلك، إلى أن العقاب المفرط، وخاصة الجسدي، والحرمان يجعل الطفل يختزن هذه الحالات ويعوضها بالتملك، وكأنه يحضن تلك الممتلكات لتضميد جراحه.

وينصح الفقيه في حال التأكد أن ما يقوم به الطفل أو الكهل زائداً عن اللزوم، فيجب عرضه على طبيب نفسي ليقدم له علاجاً دوائياً صيدلياً يتمثل بمضاد للاكتئاب، وفي حال أثبت الطبيب أن الحالة مرضية، فعليه إتباع جلسات معرفية سلوكية، أي أن يجلس المريض مع الطبيب عدة مرات لتشخيص الحالة من البداية ليتم حلها الواحدة تلو الأخرى، ذكرى بذكرى.

ويشدد عبد الباسط الفقيه على أن "الطفولة هي منبت الأمراض، وعلى الوالدين أن يحسنوا التعامل مع أبنائهم لتفادي أي مشاكل قد تطرأ مستقبلاً"، ويشير إلى ضرورة الابتعاد عن التأنيب الذي من شأنه أن يزرع في الطفل العدوانية (مثال عندما تقوم بتأنيب شخص يدخن سيقوم بالتدخين أكثر في حالة انعزاله، لأنه حينها يعتبر نفسه بصدد التغلب على ذلك القهر الذي تلقاه من المجموعة).

"الاكتناز يؤدي لمشاكل بالجملة"

يقول المختص في علم الاجتماع رضوان الفارسي، لرصيف22: "ظاهرة الاكتناز القهري يمكن أن تؤدي إلى خلافات عائلية ومشاكل بالجملة تصل حد الطلاق"، ويفسر ذلك بأن "تجميع المقتنيات داخل المنزل بطريقة مبالغ فيها يعتبر تعدياً على الفضاء العائلي وعلى حقوق الغير، خاصة إن بقية المجموعة لا تولي أي اهتمام بالأشياء التي يقوم الشخص المريض بجمعها وتكديسها".

ويضيف الفارسي في حديثه لرصيف22: "المريض سوف يستحوذ على جزء كبير من المنزل، وبالتالي سيقلص من الفضاء المخصص للعائلة، وهو ما سيمثل مصدر قلق وإزعاج بالنسبة لهم".

"عمّت الفوضى كل الأرجاء، واستحوذت أمي تقريباً على كل ركن من أركان المنزل عن طريق تكديس المقتنيات، ما صعب الحياة اليومية للعائلة، وأصبح أمراً مقلقاً ولغزاً محيراً عجزت العائلة عن فك شفراته"

"كما من المتوقع أن تتسبب هذه الحالة بالاعتداء على بقية أفراد العائلة، خاصة الأطفال الذين عادة ما يذهبون إلى لمس كل الأشياء في المنزل، وبالتالي من الممكن تعرضهم للضرب لأن المريض يكون في حالة هستيرية، ويرفض المساس بمقتنياته التي يراها ثمينة، وممنوع التعدي عليها والعبث بها بأي طريقة".

ويبقى الإشكال الأبرز هو الشريك في الحياة (الزوج أو الزوجة) عندما يرفض مثل هذه الأساليب (تكديس المقتنيات) وبالتالي يتعسف المريض مع الشريك بوضع أشياء غير مرغوب فيها، وهو ما قد يخلق مشاكل بالجملة، بحسب الفارسي.

ويشدد الفارسي على أن ما يزيد الأمر سوءاً هو عدم تفهم بعض الأطراف لهذا المرض، وهو ما يؤدي إلى صدامات بين الزوجين، ويدفع الشريك للمغادرة بحثاً عن مكان أكثر راحة، بعيداً عن تلك الفوضى.

وينصح محدثنا في حال تطور الأمر، لضرورة التوجه إلى المصحات العائلية المجانية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، لتوفير الإحاطة النفسية والاجتماعية للفردين من أجل تقليص تأثيرات هذا المرض.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image