شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أنا خائفٌ من الأمان والاستقرار يا صديقتي!

أنا خائفٌ من الأمان والاستقرار يا صديقتي!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

من مقعد الطائرة رقم (أ-25).

الطائرة تقلع الآن من مطار بيروت، والطيار ينحرف بنا نحو اليمين، وأذني اليسرى تكاد أن تنفجر.

على وجهي معالم ترتسم للمرة الأولى في حياتي. دموعي تنهمر بغزارة، وابتسامتي تصل حتى أذنيّ. أكاد لا أصدق أنني وأخيراً قد ركبت طائرةً، وهي تحلق حقاً. لقد فعلتها يا صديقتي. لقد فعلتها!

ولكنني أبكي، أبكي بحرقة يا صديقتي. أبكي نادماً لأنني لم أبكِ حين احتضنتني أمي لتودّعني. أردت أن أبدو أمامها رجلاً واثقاً من نفسه، يستطيع تحمّل المسؤولية كما اعتادت أن تراني، لكنني في الحقيقة أتمنى الآن لو أنني بكيت كطفل صغير وارتميت في حضنها أقبّل يديها وتطبطب على ظهري فتزيل جزءاً من خوفي من المجهول مع كل ضربة.

 أبكي نادماً لأنني لم أبكِ حين احتضنتني أمي لتودّعني. أردت أن أبدو أمامها رجلاً واثقاً من نفسه، يستطيع تحمّل المسؤولية كما اعتادت أن تراني، لكنني في الحقيقة أتمنى الآن لو أنني بكيت كطفل صغير وارتميت في حضنها

فقط لحظة إقلاع الطائرة، ندمت لأنني لم أعبّر عن مشاعري لأحد قط، لا لأصدقائي ولا لأقاربي ولا حتى لعائلتي. لم تكن لدي أي مشاعر فرح بأنني سأسافر أخيراً، ولم تكن لدي مشاعر حزن على فراق من أحبهم أيضاً!

أتعلمين يا صديقتي... حتى حين أتت الفيزا بعد انتظار دام قرابة ثماني سنوات، توقعت أن أقفز فرحاً، وأن أنهار وأبكي، وأن أطير بعد أن نزلت أطنان من الهموم عن كتفيّ، كبالون انقطع الخيط الذي يثبته بالأرض.

لكن لا...

ثماني سنوات من العذاب والألم والكدّ والعرق وبصق الدماء والفشل، ولم أستطع أن أفرح ولو لبرهة. كل ما فعلته هو أنني قرأت إيميل قبول الفيزا، وأغلقت هاتفي، ثم عدت للنوم!

ثماني سنوات من العذاب والألم والكدّ والعرق وبصق الدماء والفشل، ولم أستطع أن أفرح ولو لبرهة. كل ما فعلته هو أنني قرأت إيميل قبول الفيزا، وأغلقت هاتفي، ثم عدت للنوم!

في البداية قد تعتقدين أنها الصدمة. لكن لا، أنا حقاً نسيت كيف أفرح.

بعد أن استيقظت، جلست على كرسي مكتبي، وأعدت قراءة الإيميل مرات عديدةً، ولم يتحرك في داخلي أدنى شعور.

بعد ذلك، سألت نفسي عن آخر مرة فرحت فيها وضحكت من قلبي، فلم أتذكر، وحينها ارتعبت يا صديقتي.

أجل ارتعبت. شعور مرعب ألا يتذكر الإنسان متى فرح لآخر مرة أو حتى كيف يفرح!

لكنني الآن قد فعلتها يا صديقتي، وها هي الطائرة تحلق بي عالياً، لأستعيد جزءاً من إنسانيتي مع كل مرة ترتفع فيها الطائرة أكثر وأكثر. شعوري الآن كشعور الأفعى حين تنسلخ عن جلدها. شعورٌ مؤلمٌ لكنه يبعث على الانتعاش.

لكنني الآن قد فعلتها يا صديقتي، وها هي الطائرة تحلق بي عالياً، لأستعيد جزءاً من إنسانيتي مع كل مرة ترتفع فيها الطائرة أكثر وأكثر.

أتعلمين يا صديقتي...

مع أنني لا أصدّق أنني وأخيراً أحلّق بعيداً عن هذه البلاد، لكنني لطالما كنت واثقاً من مجيء هذه اللحظة.

على الرغم من أن لا أحد آمن بمقدرتي على فعل ذلك. لطالما كنت أمشي وحيداً... أمرّ بقربهم فيسخرون مني، ويتهامسون عن ذلك الفاشل غريب الأطوار الذي لن يبرح مكانه، ولن يصل إلى أي مكان. كنت أتجاوزهم وأمضي في طريقي بعيداً عنهم... ثم أقف وأنظر إلى الخلف نحوهم مبتسماً.

فيتهامسون مجدداً: "انظروا إليه كيف يبتسم... إنه مجنون بالتأكيد. لا بد أنه سعيدٌ بفشله".

لا، لم أكن مجنوناً يا صديقتي. كنت أبتسم لأن الله كان يمسك بيدي وأنا أمشي، وأنا الوحيد الذي كنت أرى ذلك.

لم أكن مجنوناً يوماً، لقد كنت واثقاً فقط.

لكن على الرغم من ثقتي هذه يا صديقتي، إلا أنني خائفٌ جداً مما ينتظرني، خائفٌ من المجهول الذي أنا متجهٌ إليه.

خائف من الاستقرار والأمان اللذين سأعيشهما. أجل خائفٌ من الأمان والاستقرار يا صديقتي!

لأننا، في هذه البلاد، وبعد كل هذه السنين من العذاب والألم، اعتدنا على هذا النوع من العذاب والألم، بل بتنا مدمنين عليهما. من دون العذاب والألم لا نشعر بالأمان. نشعر وكأننا غرباء يا صديقتي.

جميعنا ثكالى هنا في هذه البلاد، أو في مصحة إدمان مخصصة للثكالى.

لكنني الآن أحلق بعيداً عن هذه المصحة. أبتعد عن هذه البلاد وأفكر في ماذا لو تحققت مقولة فيودور دوستويفسكي، وبقيت يتيماً في غياب من أحب، حتى لو عانقني العالم بأسره!

أحلّق بعيداً وأفكر في الأمور التي سأشتاق إليها، لكنني أظن أن أكثر ما سأشتاق إليه، هو أنني كنت أختتم يومي المليء بالخراء، بسهرة مع الأصحاب الثكالى. أما في بلاد الغربة فلا خراء ولا أصدقاء

أحلّق بعيداً وأفكر في الأمور التي سأشتاق إليها، لكنني أظن أن أكثر ما سأشتاق إليه، هو أنني كنت أختتم يومي المليء بالخراء، بسهرة مع الأصحاب الثكالى. أما في بلاد الغربة فلا خراء ولا أصدقاء.

أحلّق بعيداً وأفكر في ماذا لو وُلدت أنا وعائلتي في بلاد أخرى تسودها الحرية والأمان والاستقرار، في بلاد لا يضطر أحدنا فيها إلى أن يفارق عائلته ويغادر كي يستطيع تأمين لقمة العيش لبقية أفراد العائلة!

أحلق بعيداً وأفكر وأبكي...

ها هي الطائرة تهبط يا صديقتي، وما هي إلا دقائق وأفكّ الحزام عن وسطي وعن عقلي وأطلق العنان لأحلامي بعد أن كنت ممنوعاً من الحلم لسنوات طويلة.

سامحيني يا صديقتي، إذ كنت قد وعدتك سابقاً بأنني في حال استطعت الهروب من هذه البلاد سأرسل لك كلمتين فقط، كلمتين تكفيان لشرح كل شيء: "لقد نجوت".

أما اليوم، وبعد أن استطعت الهرب، فأنا أكتب لك كي أخبرك بأنني لا أظن أن الخروج بمثل هذه الجراح قد يُعدّ نجاةً.

سامحيني، كنت أتمنى لو أنني بقيت بالقرب منك، لكن على ما يبدو، بعض الأحلام حكمها الموت جوعاً.

إلى اللقاء يا صديقتي...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image