شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
رحلتي في البحث عن الأنس

رحلتي في البحث عن الأنس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 13 أكتوبر 202212:17 م


تعمّقت في معنى كلمة "الأنس"، ومشتقاتها، للمرة الأولى منذ أعوام قليلة، وأدركت المعنى وما وراءه قبل ذلك بكثير. ربما منذ لحظة إدراكي الحياة، عندما كنت طفلةً وحيدةً ومغتربةً نشأت بعيداً عن وطنها، وفي كنف عائلة رحّالة. وفي اللغة، آنس المرء أي لاطفه وأزال وحشته، وهدف أي قرب أن تنتهي وحشتك، وأن تكون هناك آذان تسمعك، وقلب يستوعبك. ومن يشعر بالأنس وسط أهله وأحبائه، هو من لا يشعر بالوحشة أو الغربة. والذي يأنس بحديث الشخص هو الذي يفرح، ويُسَرّ لسماعه، والشخص الذي تأنس إليه، هو من تسكن إليه وتُذهب به وحشتك، والذي أنس بلقاء صديقه هو الذي أنس وفرح به، وأنس بصحبتك، أي اطمأنّ إليك.

عندما كان يسألني أحد أين كنتِ؟ كنت أقول في موعد مع صديق، ولم أكذب في ذلك. كان الأمر كذلك بالنسبة لي؛ إذ أنشأت صداقةً مع السينما منحتني الكثير مما أحتاج إليه.

كانت غايتي الدائمة مذ أدركت قيمة الناس في حياتنا، البحث عن الأنس فيمن أعرفهم واتّخذهم رفاقاً. لم يتحقق الهدف في الكثير من الأحيان، وعندما تحقق لم يدُم طويلاً. كان هناك شيء في داخلي متعطش إلى الأنس والصحبة. كنت طفلةً وحيدةً، ولم تكن لي شقيقات، وكان إخوتي الذكور يكبرونني في العمر ويختلفون عني في الكثير من الأشياء. دائماً ما كنت أشعر بأن رحلتي منفردة. مذ كنت في المرحلة الابتدائية لم يكن لي أصدقاء، وكنت أتنقل من مدرسة إلى أخرى، وكانت نشأتي خارج مصر سبباً رئيسياً في عدم تكويني صداقات منذ الطفولة. كان لي زملاء وأصدقاء أتذكرهم، لكنهم كانوا مرحليين، ولم يكن هناك رابط حقيقي أو شيء مشترك بيننا.

بعد عودتي إلى مصر، شرعت في البحث عن أصدقاء أشاركهم ما أحب وأفكاري وأحلامي. وفي المقام الأول، رفاق أستأنس بصحبتهم، وتُزال بحضورهم الوحشة التي تملكت قلبي منذ الصغر. قادتني رحلتي إلى أناس كثر، وجدت مع بعضهم ما أبحث عنه، ولم أجده مع كثيرين منهم.

ما هو الأنس في نظري؟ أن أشعر بالطمأنينة، وألا أكون وحيدةً أو خائفةً، وأن تهدأ نفسي عندما أبوح بما في صدري، وأن أكون على حقيقتي وطبيعتي من دون تكلّف أو قلق من إظهار مواطن ضعفي، وأن أتحدث وأجد من يستمع إليّ بصدق واهتمام. لم أجد من يستمع إليّ بسهولة. دائماً أشعر أن لدي الكثير ليقال.

كانت غايتي الدائمة مذ أدركت قيمة الناس في حياتنا، البحث عن الأنس فيمن أعرفهم واتّخذهم رفاقاً. لم يتحقق الهدف في الكثير من الأحيان، وعندما تحقق لم يدُم طويلاً

كيف منحتني الموسيقى والسينما ملاذاً للأنس؟

كانت رحلتي إلى دور السينما رحلةً للبحث عن الأنس. مذ جئت إلى القاهرة، بات الذهاب إلى دور السينما، غير المكتظة، موعداً شبه يومي لي مع المخرجين المفضلين بالنسبة لي. كنت أختار الجلوس في المقعد الأخير، خجلةً من كوني وحيدةً. كنت أنتهي من المشاهدة، وأخرج على الفور حتى قبل أن يُعاد تشغيل الأنوار مرةً أخرى. عندما كان يسألني أحد أين كنتِ؟ كنت أقول في موعد مع صديق، ولم أكذب في ذلك. كان الأمر كذلك بالنسبة لي؛ إذ أنشأت صداقةً مع السينما منحتني الكثير مما أحتاج إليه.

قبل بدء رحلتي الصحافية، عملت معلمةً للّغة الإنكليزية، وهي مهنة لم أحبّها ولم أكرهها، ولم ترضِني يوماً أو تشبع شغفي بالحياة. عملت فيها قرابة عام، وفي إحدى أيام العمل العصيبة، خرجت غاضبةً ويائسةً من المدرسة، ومحملةً بثقل رغبت في وضعه عند أي شخص. اخترت فرداً من العائلة للبوح له عما في داخلي، لكني لم أجد التفهم الذي كنت أبحث عنه، وزادني الحديث معه غربةً. لذا التزمت الصمت، ورفضت أن ينتهي يومي بهذا السوء. توجهت إلى مكتبة الإسكندرية مساءً، لحضور حفلة موسيقية وحدي للمرة الأولى، ولم تكن الأخيرة. هناك، كان الجميع مصحوبين وكنت أنا وحيدةً. لم أكترث لنظرات الدهشة، واخترت مقعدي وابتسمت. كيف للموسيقى أن تجعلنا سعداء، أو على الأقل أقل حزناً بهذا الشكل؟ كيف يمكن أن تؤنس وحدتنا وضياعنا في أثناء البحث عن ذواتنا إلى هذه الدرجة؟

باحثةً عن الأنس، كنت أستقلّ الترام من أول الخط في الإسكندرية إلى آخره في رحلة شبه يومية، حتى أؤخّر ساعة عودتي إلى المنزل إلى أقصى حد يمكن أن يجعلني بمجرد دخولي المنزل أنام من التعب. كنت أنظر من نافذة الترام واستكشف الطريق في كل مرة وكأنها المرة الأولى، وأنظر إلى الآخرين من حولي وكيف لهم دائماً محطة تنتهي عندها رحلتهم. أما أنا، فلم تكن هناك نهاية لرحلتي أبداً، ولم يكن هناك مرفأ آمن.

القراءة كانت مؤنسةً كذلك. اعتدت القراءة في كل شيء، وفي كل مرة أنتهي فيها من كتاب، يتسلل إليّ شعور جميل وضوء ينير عتمتي. لكن ذلك لم يعوّضني عن حديث كنت أتوق إلى تبادله مع شخص أستأنس به. كان لي أصدقاء في ذلك الوقت، لكنهم لم يشكّلوا رفقةً مؤنسةً. في تلك الأيام، كنت أقلّب الأسماء الكثيرة على هاتفي باحثةً عن شخص يمكن أن يكون الحديث معه مريحاً، خاصةً في أوقات التعب والحزن، شخص يحلو معه الحديث والسمر، ويفيض فؤادي بما فيه من دون خوف، لكن محاولاتي كانت تبوء بالفشل. وكنت أتساءل: كل هؤلاء الأشخاص ولا أحد بينهم قادر على أن يزيل عني الوحدة؟

الأزمة في البحث عن الأنس لم تكن في الفشل في العثور عليه، أو في خيبة الأمل فحسب، إنما في أن تقودك جهودك إلى ظلم نفسك في علاقات وصداقات منقوصة جائرة لا تقدّم لك شيئاً، إنما تستنزفك لأنك تقرر الاستمرار فيها خوفاً من الوحدة.

الأزمة في البحث عن الأنس لم تكن في الفشل في العثور عليه، أو في خيبة الأمل فحسب، إنما في أن تقودك جهودك إلى ظلم نفسك في علاقات وصداقات منقوصة جائرة لا تقدّم لك شيئاً، إنما تستنزفك لأنك تقرر الاستمرار فيها خوفاً من الوحدة

أحياناً، كنت أرتاد أماكن مزدحمةً وأجد في الضجيج شيئاً من الأنس حتى لو لم يكن حقيقياً، وأحياناً أفرّ من الضوضاء وأجد الأنس في الهدوء والنسيم العليل في ليلة مدّ فيها القمر نوره على نهر النيل عند كورنيش غاردن سيتي، أو في مراقبة نجوم الليل في سماء بعيدة لم يحجبها ضباب القاهرة وقسوتها. لكن بالرغم من احتياجي إلى الأنس، لم أستجدِه أبداً من أحد.

الكتابة كانت ملجأً آمناً. في كل مرة أعود فيها إلى كتاباتي منذ المرحلة الإعدادية، وما بعدها، أندهش فعلاً: كيف حملت كل هذا الثقل في جعبة حكاياتي كل هذه السنوات؟ وكيف بدأت رحلة البحث عن الأنس مذ كنت صغيرةً إلى هذا الحد؟

قبل سبع سنوات، شرعت في رحلة غير مخطط لها إلى مدينة سانت كاترين في جنوب سيناء من دون حجز مسبق، وحيدةً مع غرباء في حافلة متجهة إلى المجهول بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كانت رحلةً للتعافي من تجارب سلبت مني سلامي النفسي، وثقتي بالعالم لفترة لا بأس بها. هناك، تعرفت إلى سليمان، وهو دليل يعمل مع السياح واستأنست بحكاياته التي استمر في سردها في أثناء صعودنا جبل موسى. وهناك، تعرفت إلى شقيقاته وأمه وتناولت الغداء معهم في بيتهم الذي كان طيباً ودافئاً ومؤنساً.

لا شيء يضاهي صُحبةً تُشعرك بالأنس والأمان والطمأنينة. لا تتخلَّ عنها أبداً إن وجدتها، وإن لم تنجح في العثور عليها، فهناك أشياء يمكن أن تؤنس وحدتك مثل الموسيقى والقراءة والكتابة والسينما

لا شيء يضاهي صُحبةً تُشعرك بالأنس والأمان والطمأنينة. لا تتخلَّ عنها أبداً إن وجدتها، وإن لم تنجح في العثور عليها، فهناك أشياء يمكن أن تؤنس وحدتك مثل الموسيقى والقراءة والكتابة والسينما. ربما ليست كافيةً، لكنها قد تقلل من شعورك بالوحشة لبعض الوقت. ولا تنسَ أن بقاءك وحيداً، أفضل من وجودك وسط جماعات لا تفهمك. ولا تخشَ الإقدام على معرفة الناس. كان أبي دائماً يقول: "الصبر عليهم وعلى صحبتهم أفضل من اعتزالهم". ربما كان محقاً. قد تستغرق رحلتك للبحث عن الأنس زمناً طويلاً، لكنك قد تجد ما تبحث عنه، أو قد يهتدي الأنس إليك في نهاية المطاف.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard