"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) — صفحة تحررها مريم حيدري
تكثفت الغيوم البيضاء وملأ الغمام ما بين السماء والأرض. كانت رائحة الشياط تفوح من الريح العاصفة. وارتدت الطبيعة فستانها الأبيض البارد. امتلأ الوادي بالثلج الذي كان يتساقط بلا انقطاع. لم يكن في القرية طبيب ولا صيدلية وكانت الطرق مقطوعة بسبب تراكم الثلوج.
كانت تعاني آلام المخاض منذ ثلاثة أيام. تتلوى من عذاب الطلق وعسر الولادة. وكان كلُّ عضو من جسدها يعزف لحنَ ألمٍ خاص وتكاد فقرات ظهرها تتقصف. ذبلت شفتاها الحمراوان من كثرة ما كانت تعضهما وأصبحتا تنزفان. تحوّل لون وجهها الوردي إلى أصفر كالزعفران. وتجمدت الدموع على أهدابها الطويلة السوداء. جحظت عيناها الواسعتان وهما تحدقان في الثلوج المتساقطة.
كانت الريح، كلما هبّت، تثير غمامة ثلجية وتذروها على وجهها. تخدرت أطرافها وعجزت عن الحركة. فقدتْ روحها السارية في البدن طاقتها ولم تعد تحسّ بما حولها.
كانت تعاني آلام المخاض منذ ثلاثة أيام. تتلوى من عذاب الطلق وعسر الولادة. وكان كل عضو من جسدها يعزف لحن ألم خاص وتكاد فقرات ظهرها تتقصف. ذبلت شفتاها الحمراوان من كثرة ما كانت تعضهما وأصبحتا تنزفان
وحين كان الجرار الزراعي يعلو ويهبط في المنحدرات، كانت أحشاؤها توشك أن تنقذف خارجاً. كانت القابلة العجوز بشعرها الأشيب وظهرها المحني تعزّيها وتواسيها. زاد السائق من سرعته حتى يصل في الوقت المناسب إلى المدينة. لكن الجسر الممتد على النهر كان قد دُم!ر بالديناميت. حاول السائق أن يخوض في النهر ليصل إلى الضفة الأخرى، لكن ارتفاع الماء منعه من تلك المخاطرة.
ارتفع دخان أسود وغطى كل الأنوار دون أن يتقدّم الجرار الزراعي. كانت العجلات تدور وتدور دون جدوى. لم يجد نفعاً من وضع حجارة أمام العجلات وخلفها. والطريق التي كان يقطعها السائقُ عادة في ساعتين، استغرقت نهاراً كاملاً. وضع السائق رأسه على المقود وأخذ يفكر في حلّ. كادت آهات المرأة تشقّ قلبه كالسّكين. لم يهتدِ إلى طريقة لعبور النهر، وغرِقَ في اليأس. جست القابلةُ العجوزُ نبضَ المرأة، كان ضعيفاً، فقالت للسائق بصوت حزين: "ألا يمكن أن نسير إلى تلك الخربة؟ لعلنا نشعل ناراً وإلا فإنها ستموت من البرد". وضعا المرأة على بطانية وأمسكا بأطرافها وحملاها إلى أطلال مبنى قريب.
حاولت الأمُّ تقبيلَ ابنها لكنها كانت خائرةَ القوى، ولم يسعفها جسمها في الحركة. ثار في جوفها بركانُ الأمومة فذرفت عيناها دموعَ الفرح وأخذت تشمّ بعمق رائحة الصبي
كانت بعض جدران تلك الخربة مسودةً من السخام، وبعضها متهدماً. لم يكن هناك أيُّ أثر للحياة. حتى الحشرات والنباتات الصغيرة كانت قد هجرت المكان. أناخ اليأس عليهم بكلكله، وأصبحوا يسمعون دبيبَ الموت. فقدت الحياة معناها هناك. تمتمت العجوز بفمها اليابس: "لا يعرف الناس قدر أنفسهم! قبلوا بنير الظلم وساروا تحته. إنهم لا يكتفون بالعداوة فيما بينهم، بل يعادون حتى النباتات والحشرات. هذه الأرض التي كانت ذات يوم منبع إلهام العشاق، صارت يباباً. إنهم وحوش تريد القضاء على موطن الحياة المقدسة هنا".
رفع السائق رأسَه وهو يحدّث نفسه بصوت ذابل: "لا غصن يابس ولا حطبة! كيف سنشعل ناراً؟ سأذهب لأحضر المازوت".
أخرج خرطوماً من صندوق الجرار الزراعي. دس أحد طرفيه في خزان الوقود ووضع الطرف الآخر في فمه وأخذ يسحب بما تبقى لديه من طاقة المازوت من الخزان. حينما أحس بالبلل على لسانه، سحب الخرطوم من فمه ووضعه على فوهة الصفيحة. ملأها حتى منتصفها. حمل الصفيحة بيده المرتعشة برداً وسكب المازوت على خرق بالية كان يستخدمها في تنظيف الجرار.
نجح بعد محاولات عديدة في إشعال ولاعتِه. شبّت النار في تلك الخرق حتى ارتفع اللهيب في السماء مخلفاً دخاناً أسود حالكاً وسط نتف الثلج المتساقط. فركت العجوز يدي المرأة وقدميها المخدرتين، وقربتها من النار لتعيد إليها دفءَ الحياة. استعادت المرأة بعضاً من طاقتها لكنها أطلقت فجأةً صرخاتٍ مرعبةً. لقد أتاها الطلقُ مرةً أخرى فاصطكت أسنانًها وكادت أضلاعًها تخرج من صدرها. عضت أناملها من الألم، وانسدلت ستارة سوداء أمام عينيها. أصبحت تسمع صوت الموت، وتشعر بدبيبه إليها ودنوّه منها.
مسحت العجوز بيديها الخشنتين على بطن المرأة وهي تقول: "تنفسي بعمق وهدوء".
بدأ الطفل بعد أن شبع من الرضاعة، يتحسس شفتيه القانيتين بلسانِه كأنه يريد التعرّفَ على مذاقِ أوّل طعمٍ في الحياة
كانت حُبيبات من العرق البارد تزيّن جبينها. خارت قواها من المعاناة. كانت روحٌ تلد من روحٍ بين براثن الموت في تلك اللحظة. فجأة اختلط صراخها بزعيق الوليد وزالت عن المرأة رائحة الخوف واختفى وقع أقدام الموت. نفضت العجوز عن يدها ماءَ الرأس، وقطعت حبلَ الخلاص بسكين، ووضعته بين قماط الوليد الصغير الذي سلمته إلى أمِّه، ووضعته على صدرها.
حاولت الأمُّ تقبيل ابنها، لكنها كانت خائرة القوى، ولم يسعفها جسمها في الحركة. ثار في جوفها بركانُ الأمومة، فذرفت عيناها دموعَ الفرح، وأخذت تشمّ بعمق رائحة الصبي.
أنستْها تلك الرائحة آلامَ الأيام الماضية، أنستْها همومَ شهورٍ كثيرة. تذكرت كلُّ آمالها وآلامها خلال سنوات ذلك العهد الأسود. اشتعل قنديلها ومنح نورُه الحياةَ للمكانِ عائداً بالأمل من الموت. عمدت العجوز إلى ثديِ المرأة، ووضعت حلمته في فم الطفل الوليد.
بدأ الطفل بعد أن شبع من الرضاعة، يتحسس شفتيه القانيتين بلسانه كأنه يريد التعرف على مذاق أول طعم في الحياة.
انقشعت الغيوم رويداً رويداً، وانفرجت أسارير الطبيعة وانزاحت ستائر الظلمة. كانت الشمس ما تزال مرتفعة في الأفق قدر رمح تستعدّ للغروب خلف الجبال. تناثرت أنوارٌ شتى على الثلج المنبسط حتى لكأن ألوان قوس قزح انسكبت هناك.
ترجمها عن الكردية: جان دوست
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...