ســأحمل روحــي عـلى راحـتي وألقــي بهـا فـي مهـاوي الـردى
فإمــا حيــاة تســرّ الصــديق وإمــا ممــات يغيــظ العــدى...
بيتا الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود هذان، يعبران عن حالتي بصدق. غير أني كنت أبحث عن حياة تسرّني أنا، فلا صديق يشغل بالي، ولا عدو أرغب في إغاظته. هي الحياة بكامل معطياتها فقدتها منذ أربع سنوات، حين سقطت في مأساتي العائلية وانفصلت عن أسرتي، ثم جاءت المشكلات تباعاً: قضايا نفقة، وعدم رؤية الأبناء، وصعوبة الكتابة وسط الضغوط، وتخلي الأصدقاء وقت المحن؛ كل تلك المشكلات التي تحولت إلى مصائب جعلتني أعيد تفكيري في الحياة بأكملها.
لماذا نحيا؟
البعض يرى أن الحياة للحياة. نحن نحيا بدافعٍ من قانون البقاء مهما كانت الحياة قاسيةً وغير محتملة. والبعض الآخر يؤكد أننا نعيش من أجل ما نحب. وهناك من يؤمن بأن الحياة دار ابتلاء وأنه لا راحة سوى في الآخرة.
تلك الآراء المتباينة لا تعبّر عني... أجل الحياة للحياة ونحن نعيشها من أجل من نحب وعلينا أن نصبر على البلاء فيها. ولكن، حين يفقد الإنسان كل شيء: مَن يحب، وعمله، وأصدقاءه، وحتى موهبته التي صارت بلا معنى... كيف يعيش؟ ولمَ؟
ربما لذلك فكرت في الانتحار، ملجأ كل يائس ومنهزم ومحطّم، فمواجهة الموت أهون من قسوة الحياة.
لذلك كانت عليّ المقاومة، والصياح بأعلى صوت: أنا هنا، في حاجة إلى أن أعيش. لهذا فكرت وقررت أن أضرب عن الطعام، والإضراب عن الطعام يختلف كلياً عن الانتحار
كنتُ أقول لصديقي القديم: عندما لا أستطيع أن آكل أو أتحرك وأصبح كعظم في قفة، وقتها سأستدعي الموت لأنني لن أتمكن من الاستمتاع بالدنيا...
ولكني ما زلتُ قادراً على الاستمتاع والعمل والتعويض، وعلى العكس، أشعر بطاقة هائلة وجبارة غير أنها حبيسة الظروف المعاندة كجنّ داخل مصباحه، جنّ يملك قوى خارقةً لا يمكن الانتفاع بها في ظل حبسته تلك في انتظار من يحرّره... هكذا كنتُ -ولا أزال- أملك العشرات من المشاريع الإبداعية المركونة على سطح المكتب، ولا زلت بكامل صحتي، ولم أصبح معقداً من العلاقات، بل على النقيض، اكتشفت أنني أرغب في الحياة بقوة، الحياة بكامل معطياتها...
لذلك كانت عليّ المقاومة، والصياح بأعلى صوت: أنا هنا، في حاجة إلى أن أعيش. لهذا فكرت وقررت أن أضرب عن الطعام، والإضراب عن الطعام يختلف كلياً عن الانتحار، فالأول مقاومة سلمية وقد تكون مشروعةً في سبيل تحقيق أهداف في غاية الإنسانية، بينما الثاني هو الاستسلام واليأس العظيم.
وعلى الفور أعلنت على صفحتي الفيسبوكية إنني سأضرب عن الطعام حتى تتحقق مطالبي، وكان المطلب الرئيسي: العمل، بعد مئات المحاولات -ومئات المحاولات هنا ليس من باب المبالغة، ولكن حقيقة واقعية- الفاشلة للحصول على عمل لائق.
وعلى الفور أعلنت على صفحتي الفيسبوكية إنني سأضرب عن الطعام حتى تتحقق مطالبي، وكان المطلب الرئيسي: العمل
كنتُ أعرف جيداً أن الإضراب في الغالب يكون داخل السجون أو ضد نظام بعينه، وكانت القائمة عامرةً بمن أضربوا عن الطعام من أول غاندي إلى بهجت سينج إلى مروان البرغوثي وصولاً إلى أحمد دومة، وغيرهم كثيرون... هؤلاء أضربوا عن تناول الطعام للدفاع عن حقوقهم كبشر يستحقون الحياة العادلة والكريمة لهم ولأوطانهم، لذلك نعدّهم أبطالاً لجأوا إلى المقاومة السلمية من أجل تحقيق أهداف سامية، وهذا يختلف عن الانتحار، وترك الحياة مهزوماً. لعل ذلك ما جعل الانتحار محرماً شرعاً وجرماً يعاقَب صاحبه عليه...
أما إضرابي أنا، فقد كان مختلفاً. كان ضد نظام يتجاهل المبدعين، وقدر قاسٍ، ومؤسسات لا تعترف سوى برجالها الأوفياء، وأصدقاء تجمعهم المتعة وتفرّقهم المحن...
الغريب أنه وعقب هذا البوست، لم يتصل أحد من الرفاق أو الأهل أو المعارف، وجاء الاهتمام من الغرباء الذين تمكّنوا من حك المصباح ليخرج المارد مجدداً إلى الحياة.
يومان بلا طعام، وأحشاء خاوية وعقل مكتظ بالتفكير ونوم متقطع قبل أن أحقق أهم أهدافي: العمل اللائق.
صحيح أنني وجدت وظيفةً مناسبةً، ولكن العظيم فعلاً أني اكتشفت أصدقاء جدداً يعملون بهمة من أجل مساعدة شخص لا يعرفون عنه غير حكايات مبتورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
الغريب أنه وعقب هذا البوست، لم يتصل أحد من الرفاق أو الأهل أو المعارف، وجاء الاهتمام من الغرباء الذين تمكّنوا من حك المصباح ليخرج المارد مجدداً إلى الحياة
وتعلمت كذلك أن الكلمة الطيبة أو المساعدة البسيطة قد تفرق في حياة الإنسان، متذكراً الآية وأنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا... فإحياء النفس هنا مجازي، لا يعني إحياء من يموت ولكن إحياء من أوشك على الموت. وكذلك قد يكون قتل النفس هنا مجازياً أيضاً، فقد يكون فعل القتل بالتجاهل أو سوء المعاملة أو البخل العاطفي عند الحاجة.
فكل صديق يتخلى عن صديقه وقت الشدة، ربما هو معذور، لكن غيابه قاسٍ، وكل نظام لا يوفر أساسيات الحياة للمواطن هو مجرم، وكل مؤسسة تغلق أبوابها أمام التوظيف تساهم في هذه القسوة... جميعهم يجعلون الحياة غير محتملة.
في النهاية نحن أموات أولاد أموات أولاد أموات، والموت نهاية المطاف، كما أن الميلاد بداية الرحلة، رحلة الحياة... كيف نعيشها؟ ولماذا نحياها؟ هذا هو الفارق... فإما نعيش كما يجب ومع من يستحق ولمن يستحق أو نموت سواءً باختيارنا أو مجبرين.
فشكراً لكل من منحني فرصةً جديدةً للحياة -وهم يعرفون أنفسهم ولا ينتظرون شكراً- وعذراً لمن زجّوا بنا إلى الهلاك... فلا تزال في العمر بقية... ولا تزال الأماني ممكنةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.