أطلق عليه وديع الصافي لقب ملك العتابا. لُقّب أيضاً بكروان الجبل. أشاد بصوته كبار الملحنين، وتهافت عليه الشعراء ليغنّي قصائدهم، لكن بالرغم من ذلك، وبالرغم من الإجماع الكبير على موهبته، لم يحظَ فؤاد غازي بالشهرة التي يستحقها، ولم ينل المجد الذي ناله من هم أقل منه موهبةً، وأقلّ من حيث القدرات الصوتية وأقل كاريزما. لكن، ربما كانوا أكثرَ حظاً فحسب.
لو سألت الجمهور العربي اليوم عن أشهر المطربين في سوريا، أكاد أجزم أنّ أحداً لن يذكر فؤاد غازي في أثناء تعداده، ولن يزاحم اسمه جورج وسوف أو أصالة أو ميادة الحناوي أو حتى علي الديك، على أماكنهم. ولكن لنجرّب أن ندندن أغنية "لزرعلك بستان ورود" مثلاً... أعتقد أن الجميع سيرددون الأغنية وسيعرفونها.
هل فعلاً أغاني فؤاد غازي أشهر من اسمه؟ هذا السؤال كثيراً ما يحيّرني في كلّ مرّة أذكره فيها لأصدقائي العرب فلا يعرفونه حتى أدندن لهم واحدةً من أغانيه، فيجيبون مستغربين بالعبارة نفسها: "ليش هي الأغنية إلو؟؟".
أطلق عليه وديع الصافي لقب ملك العتابا. لُقّب أيضاً بكروان الجبل. أشاد بصوته كبار الملحنين، وتهافت عليه الشعراء ليغنّي قصائدهم، لكن بالرغم من ذلك، وبالرغم من الإجماع الكبير على موهبته، لم يحظَ فؤاد غازي بالشهرة التي يستحقها
جنازة فؤاد غازي... انتصارٌ آخر للحظ على الموهبة
عندما أعود بذاكرتي إلى جنازة فؤاد غازي المتواضعة، أجد نفسي مضطرةً إلى مقارنتها بجنازات غيره من المطربين العرب، فلا أحد يمكنه أن ينسى مثلاً جنازة عبد الحليم حافظ، وقد يرتفع صوت أحدهم مستغرباً "مين عم تقارني بمين؟"، وحقيقةً لا أجد أي إجحافٍ في حق عبد الحليم حافظ، إن قارنته بفؤاد غازي، فما نقص الأخير عن عبد الحليم، هو الانتشار عربياً فقط، وهذا ليس كلامي، فأي مختص بالموسيقى، وحتى أي متذوق عادي للطرب، سيكتشف من خلال أغنية واحدة لفؤاد غازي أنّه نجم بكل ما يعنيه هذا اللقب من معنى، لكنّه لم يجد سماءً تنصفه. وهذا فعلاً ما يدفعني وغيري للتساؤل: لماذا ينال بعض المطربين المجد والشهرة والنجومية، في حين أنّ مطربين آخرين لم تنقصهم الموهبة ولا الاجتهاد ولا الصوت الجميل، يموتون من دون أن يسمع أحد باسمهم، ومن دون أن يتصدّر خبر وفاتهم الأخبار الفنية، ومن دون أن يُغمى على أحد معجبيهم على أقل تقدير؟
هل هو الحظ فقط، أم أنّ دائماً هناك أموراً تجري في الكواليس وحروب خفية نرى نتائجها من دون أن نسمع لها صوتاً؟ وربما ببساطة لم ينالوا حقهم من التسويق، ولا دعماً من بلادهم يليق بحجم مواهبهم. وإن سألت أي مواطن سوري من مصياف، المدينة التي يتحدر منها فؤاد غازي، عن السبب وراء عدم انتشاره عربياً، لهز رأسه مباشرةً مشيراً إلى أنّ مذهبه كان سبب تضييق السماء عليه.
فأي مختص بالموسيقى، وحتى أي متذوق عادي للطرب، سيكتشف من خلال أغنية واحدة لفؤاد غازي أنّه نجم بكل ما يعنيه هذا اللقب من معنى، لكنّه لم يجد سماءً تنصفه.
من يصنع النجوم؟
لا يتعلق الأمر بالفن وحده، بل إنّ موجة التفاهة اليوم قد طالت كل جانب من جوانب حياتنا، فلا أحد يستطيع إنكار توجّه الجمهور اليوم نحو الرداءة في كلّ شيء، وهذا حقاً ما يطرح آلاف التساؤلات عمّن يوجه هذا الذوق العام؟ ومن يساهم في تمييع الذائقة وإعطائها هذا الدور الكبير لتصبح هي صاحبة الكلمة الفصل والقرار في تسمية النجوم؟ كيف تحوّل الناس إلى مجموعة كبيرة من المهرجين والمهللين من دون فكرة واحدة يستندون إليها؟ بجولة واحدة اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، ونظرة سريعة على نوع المسلسلات والأغاني التي تكتسح العالم العربي، لا بل العالم، وبحث بسيط عن أكثر البرامج شهرةً ومتابعةً، نكتشف أن أحدهم عبث بالذوق العام، وسمم كلّ قيمة وجعل من الرداءة سيدةً تتربع على عرش المجتمع، ومن التفاهة فكرةً يستميت الكثيرون دفاعاً عنها.
هل هذا إذاً ما أراد الكاتب الكندي آلان دونو، أن يحذرنا منه في كتابه "نظام التفاهة"؟
عندما خرج علي الديك علينا بأغنيته "طلّ الصبح ولك علوش"، وانتشرت على المحطات الفضائية انتشار النار في الهشيم، كنت مدهوشةً بالطريقة التي دوّت فيها تلك الكلمات الخالية من الشعرية في أرجاء العالم العربي، بينما بقيت هذه الكلمات، حبيسة سوريا أو حتى حبيسة قرية فؤاد غازي، فاقرأوا فقط:
"حلمك علينا يا بحر يا مفرّق الأحباب
ريحة حبايب يا بحر ولّا الهوا كذّاب
يا تارك النهدات عل المينا
كِف لك قلب تطوي أمانينا؟".
لا أعرف حقيقةً كيف قُلبت الموازيين بهذا الشكل؟ وكيف أصبح علي الديك، في نظر الأشقاء العرب، سفيراً للأغنية الشعبية السورية وللّون الجبلي، في حين بقي فؤاد غازي بقامته العالية وأصالته وموهبته وحنجرته الذهبية وحضوره الطاغي سفيراً لنفسه فقط.
إن سألت أي مواطن سوري من مصياف، المدينة التي يتحدر منها فؤاد غازي، عن السبب وراء عدم انتشاره عربياً، لهز رأسه مباشرةً مشيراً إلى أنّ مذهبه كان سبب تضييق السماء عليه
فؤاد غازي... السفير الحقيقي للأغنية الشعبية السورية
تحفّظ فؤاد غازي خلال مسيرته الفنية التي بدأت مذ كان في عمر الخامسة، عن الغناء بغير اللهجة السورية، فكان حافظاً أميناً لها، وهذا ما عدّه كثيرون سبباً لعدم شهرته عربياً.
استطاع فؤاد غازي بما امتلكه من صفات، أن يصبح نموذجاً أصيلاً للمطرب السوري، وأن يؤسس لمدرسة فنية ارتبطت به وقدّم من خلالها الفن الشعبي الأصيل أفضل تقديم، فقد تميّز بصوته الجبلي الساحر وقدّم مواويل العتابا بشكل مبهر أظهر عظمة حنجرته. لم يخفِ كبار الملحنين إعجابهم بصوته، وحتى المطربين، فقد وصفه وديع الصافي بملك العتابا والموال، وجذب صوته أهم الشعراء ليلبسوه قصائدهم ويحولوها بذلك إلى أغانٍ حيّة لا تموت. فكانت أغنية "تعب المشوار" ثمرة تعاون مميز مع الشاعر والموسيقار السوري الكبير حسين حمزة.
تحفّظ فؤاد غازي خلال مسيرته الفنية التي بدأت مذ كان في عمر الخامسة، عن الغناء بغير اللهجة السورية، فكان حافظاً أميناً لها، وهذا ما عدّه كثيرون سبباً لعدم شهرته عربياً
قرارات المنع... ماذا تفعل إذا كان "الجمهور عاوز كده"؟
تحوّل قرار منع نقابة الفنانين السوريين المطربة الشعبية ريم السواس، إلى تراند اكتسح مواقع التواصل الاجتماعي السورية وحتّى العربية، واختلفت الآراء بين مؤيد لقرار المنع وبين من رأى أن لا أحد يحق له التدخل في نوعية الكلام الذي يُغنّى، وأن من حق كل فنان أن يعبّر عن نفسه كما يريد، ومنهم من شكك في نوايا النقابة وصدقها، خاصّةً أن التلفزيون السوري لا يتردد في استضافة من يسيرون على خطى السواس.
بغض النظر عن اختلاف الآراء، ولنسلّم بنية النقابة "الطيبة"، وبأنّ قرار المنع كان حرصاً منها على أصالة الأغنية السورية، هل منع هؤلاء من الغناء حقاً مجدٍّ؟ وهل من شأنه تحسين الذائقة العامة للجمهور؟ للأسف، الجواب بكلّ بساطة "لا"، فما تمنعه النقابة يقبله الجمهور ويطلبه، وهنا مربط الفرس.
الجمهور... "حافظ مش فاهم"
منذ فترة، انتشر إعلان لحفلة فنية للمطربة السورية ليندا بيطار، وهي مطربة تتميز بصوت جميل ولون غنائي له جمهور واسع في سوريا، ومعها الفنان السوري وفيق حبيب الذي يصنَّف فناناً شعبياً وهذا ما أثار حفيظة الجمهور، ليحولوا إعلان الحفلة إلى نكتة، فلم يسلم الفنان السوري ذو الصوت الجميل من سخرية متابعي "الفن الراقي"، وهذا ما يؤكّد فعلاً أن الجمهور "حافظ مش فاهم"، ففي كل تعليق وكل نقاش يثار، سواءً حول هذا الإعلان أو حول غيره، نرجع إلى الفكرة ذاتها، وهي الببغائية في التعاطي مع أي جدل.
الفن الشعبي لا يعني الرداءة أبداً، وإن أردت أن تتأكد، افتح اليوتيوب الآن واسمع أغنية "جدولاتك مجنونة"، لفؤاد غازي، أو استمع لمووايل العتابا، وقل "الله" من كلّ قلبك
الفن الشعبي لا يعني الرداءة أبداً، وإن أردت أن تتأكد، افتح اليوتيوب الآن واسمع أغنية "جدولاتك مجنونة"، لفؤاد غازي، أو استمع لمووايل العتابا، وقل "الله" من كلّ قلبك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...