"منذ أن حمل زوجي السلاح في هذه الحرب، جنّ جنونه، وصار يظن نفسه قائداً لا يُشقّ له غبار. أنا لا ألومه، قرأت كثيراً من الأبحاث النفسية عن القصة، السلاح له تأثيره على الدماغ، ويجعل الشخص يعتقد أنّه قوي للغاية، كذلك فإنّ ما مرّ به من مواقف وصعوبات وحصار واشتباكات، كل تلك الأشياء أثرت فيه، وجعلته عنيفاً. لم يكن هكذا قبل الحرب".
هذا ما تقوله ميادة (اسم مستعار)، التي تقيم في دمشق خلال حديثها إلى رصيف22، عن العنف الذي تعرضت له في مرحلة ما داخل جدران منزلها، وتضيف: "كان يفقد أعصابه لأتفه الأسباب في إجازاته القليلة، لا زلت أذكر أول كف صفعني إياه لأنني أضفت المزيد من الملح إلى الطعام"، وقتها غادرت ميادة منزلها إلى منزل أهلها الذي بقيت فيه قرابة شهر، وتكمل: "استخدم الكثير من الأساليب مع العديد من الحيل والتوسلات حتى وافقت على العودة شرط ألّا يفكر مرةً أخرى في مدّ يده عليّ. كان ذلك في عام 2012، وما زاد في الطين بلةً أنّني كنت حاملاً وقتها، فلم يكن قرار الانفصال النهائي سهلاً".
مرّت الأيام وأنجبت ميادة بكرها الوحيد، وفعلاً وفى زوجها بوعده ولم يمسسها بمكروه، إلى أنّ جاء عام 2015. تقول: "تشاجرنا بشراسة بسبب والدته التي لا تحبّني، والتي تفتعل لي المشكلات كل يوم، وتطوّرت المشكلة وقام بضربي بأخمص البندقية على رأسي، فغبت عن الوعي. نعم، زوجي ضربني بالبندقية، ولأجل ولدي تم ترتيب قصة أنني سقطت عن الدرج في المنزل، بالرغم من هول الحادثة وعنفها، ولكن لم أكن لأسجن والد ابني".
على الصعيد العالمي، تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء للعنف الجسدي أو الجنسي، في الغالب على يد الشريك
فعلت ميادة ذلك لأنّها كمثيلاتها من السوريات، يخشين الطلاق والعار المرافق له، سيما أنّها من عائلة تنتمي إلى مجتمع مغلق يُحرّم الطلاق. لا يزال زوجها حتى اليوم بين الحين والآخر يعنّفها، ولا تزال ميادة عاجزةً عن أخذ القرار النهائي بالابتعاد، فالابتعاد في مجتمعها دنس ورجس وسيلاحقها وولدها حتى أجيال كثيرة قادمة.
تختم حديثها بالاستدلال بحالة عمتها المطلقة: "عمتي منبوذة منذ أن تطلقت قبل عشرين عاماً، ولأسباب مشابهة لحالتي، ومنذ ذلك اليوم وهي منبوذة من قبل العائلة ويُمنع على أحد التواصل معها ومعرفة أخبارها. لا أريد أن يكون مصيري كمصيرها، وأن أموت وحيدةً في منزل غريب. أمي قالت لي ذات مرة: قتلة كل يوم ولا كلمة مطلقة".
معنّفةٌ أخرى
ليس صعباً العثور على المعنَّفات في المجتمع السوري. يكاد يكون مليئاً بهنّ، وهنّ صاحبات الأنين الخافت تحت وطأة الذكورية المشرقية التي نحتت الحرب في جسدها العريض حتى بات أكثر عراءً، ما جعل المعنفات يظهرن من خلفه بوجههنّ الحزين الممتلئ إصراراً على الصبر، والمزيد من الصبر، ففي مجتمعاتنا، في سوريا تحديداً، الطلاق عيب، والمطلقة معيوبة.
راجعت اليافعة منى (اسم مستعار 15 عاماً)، أحد أقسام شرطة دمشق على إثر معاناتها من سحجات وضربات أدت إلى تورمات في جسدها، وعلى الفور تعاملت الشرطة مع الحالة باستحضار الطبابة الشرعية التي أكدت أيضاً وجود آثار حرق على جسد الصغيرة نتيجة "تحمية" سيخ معدني على النار ثم لصقه بجسدها، بحسب تقرير الطب الشرعي حينها.
منذ أن حمل زوجي السلاح في هذه الحرب، جنّ جنونه، وصار يظن نفسه قائداً لا يُشقّ له غبار. صار عنيفاً. لم يكن هكذا قبل الحرب
كانت هذه الحادثة واحدةً من روايات عدة حصل عليها رصيف22، من خلال مصادر متنوعة بينها ما هو في الشرطة خلال البحث عن العنف الأسري في سوريا. ففي حالة منى، كانت الجانية هي الوالدة، والتي سيقت تالياً إلى قسم الشرطة ومن هناك حولت إلى القضاء ليبت في أمرها، وكان من ضمن ما قالته في التحقيقات: "أنا أقوم بتربية ابنتي". ومنى التي تفوقت فيها الشجاعة على الخوف، داق بها الحال ذرعاً فاتخذت خطوةً قد لا يجرؤ الكبار على القيام بها وراحت للشرطة تشتكي إليهم والدتها.
الجد النبيل
كقصة منى، هناك ربما مئات بل آلاف القصص الشبيهة التي ظلت حبيسة الجدران التي شهدت عمليات التعذيب، بالرغم من أنّ صفحة وزارة الداخلية على موقع فيسبوك مليئة بأخبار التعنيف، ولكن سرّ احتجاب القسم الأكبر من الشكاوى هو غياب ثقافة الشكوى، وصغر عمر المعنّفين الأطفال، كقصة الطفل موسى (5 سنوات) الذي أوردت وزارة الداخلية قصته وأهداه القدر جده، لينقذه من بين يدي والدته.
في قصة الطفل المعنّف موسى، قدّم الجد شكوى رسمية لقسم المزة الشرقي في دمشق ضد ابنته، نعم ابنته، لينقذ حفيده من براثنها، وهي التي أمعنت في الصغير حرقاً وضرباً وجلداً، ليصار فوراً إلى تحريك دورية من الشرطة حينها وإلقاء القبض على الوالدة بحسب ما أكده أيضاً مصدر في الشرطة لرصيف22، خلال السؤال عن القضية من جديد.
على الفور، استُدعي الطبيب الشرعي ودوّن ملاحظاته عن آثار التعذيب، وقال في تقريره: "هناك كدمات متعددة واسعة منتشرة على الصدر والظهر والبطن والطرفين العلويين مع كدمات حول العينين وتورم في الشفة العلوية وجرح باطني". أما الأم فلم تجد ما تبرر به سوى الادعاء بأنّ ولدها يشكل عائقاً أمام حريتها في التنقل بعد أن توفي والده مؤخراً.
الاعتراف الأخير
دخلت صفاء (اسم مستعار)، للتو، عامها الثلاثين، وعامها السادس على زواجها التقليدي. الفتاة المتحدرة من حمص دخلت قفص الزواج مستعجلةً، تريد الإنجاب والحياة السعيدة، وحقيقةً هي أنجبت لكنها لم تعرف طعم السعادة يوماً، كما تقول لرصيف22.
وتضيف: "عن ماذا سأخبرك؟ عن أضلعي المكسورة؟ أم عن آخر كسر زورقي في عظام يدي؟ أم عن السحجات في ظهري؟ أم عن أثر حزام خصره على بطني وجلدي؟ أم عن أنّه ما مرّ يوم ولم أعنَّف فيه أمام ولديّ (5 أعوام و3 أعوام)، ودائماً دونما سبب يذكر. هو فقط يعذبني لأجل التعذيب ويستلذ بذلك، وازداد الأمر لديه مذ أصبح عاطلاً عن العمل".
عن ماذا سأخبرك؟ عن أضلعي المكسورة؟ أم عن آخر كسر زورقي في عظام يدي؟ أم عن السحجات في ظهري؟ أم عن أثر حزام خصره على بطني وجلدي؟
لا يكاد يمر يوم دونما ضرب وإهانات تتلقاها صفاء. تحاول أن تداوي نفسها بالأمل وبأنّ زوجها سيتغير قريباً، وبأنها غالباً لو لم تكن مخطئةً لما فعل ذلك. أي منطق هذا؟ سيدة تبرر لزوجها تعنيفها المبالغ به لئلا تتطلق، ولتظل تحترم حياة الزوجية وتقدسها بكلّها وكليلها وبصوت السوط الذي ينهال على اللحم الطري.
تتابع: "حين أقرأ أخبار الوفيات بسبب العنف الأسري، أخاف على نفسي كثيراً، خصوصاً أنّه سريع الاستثارة ونظرة مني يمكن أن تستفزه ليضربني بعنف مع شتمي بأقذع الألفاظ وأكثرها سوقيةً". تعتقد صفاء أنّها امرأة صابرة بالرغم من كل تلك المعاناة، ولكنّ الأكيد "لو وراءها أهل يتفهمون لما كانت ظلّت معه كلّ هذا الوقت"... وأخيراً نطقت هذه الجملة في نهاية الحديث.
الأصول
يرى علماء الاجتماع أن العنف يلحق بنظم القيم المجتمعية، لذا من الضروري معالجة تلك القيم التي تراعي في جوانبها وجود المرأة ودورها الأساس، ويتبع الأمر بكلّيته لهيكلية النظام الاجتماعي وحقوق أفراده، كما أن غياب العدالة الجندرية يجعل الأماكن التي تشعر فيها المرأة بالأمان داخل منزلها أو خارجه قليلةً في ظل السيطرة الذكورية الطاغية في المجتمع.
أما عن العوامل الخارجية، فهي أيضاً مرتبطة ببنية النظام الاجتماعي وتركيبته وما يفرزه من صراع الأدوار داخل المنزل الواحد، وبالرغم من ذلك يلعب الضغط القادم من الخارج (الضغط المادي والنفسي في ظل الظروف الراهنة) الدور الأكبر في تفجير العنف داخل المنزل، والذي هو مرتبط بصورة عامة بالحرب التي تدور في سوريا، العسكرية منها سابقاً، والتي أدت إلى انتشار السلاح، و"موت القلوب"، وصولاً إلى حرب الاقتصاد وتجويع الناس. فيصبح الأمر حلقات مترابطةً، الزوج يعنّف زوجته، والزوجة تعنّف ولدها، والولد يعنّف أخاه، والأخ يعنّف ابن الجيران الأصغر منه سنّاً، وهكذا، ليصير العنف لغة التعبير في المجتمع.
إفرازات الحرب
يبرز اليوم أكثر من أي وقت مضى العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومنه الأسري في سوريا نتيجة الحرب العاصفة التي مرت بها البلاد، ما جعل الخوف يهيمن على حياة الكثير من النسوة والأطفال حتى أنّ بعضهم فقد الأمان داخل منزله الذي يُعدّ مكان سكن الأسرة التي تشكل النواة الأولى في بناء المجتمع الذي صار متخلخلاً لكثرة ما فيه من مجافاة للصواب عبر أعمال عنف يسمع عنها السوريون كل يوم تقريباً.
وزيادةً على ذلك، بات هناك تخوف من العنف الجنسي وشهدت أروقة المحاكم قضايا عدة تتعلق بهذا النوع مؤخراً. وكل تلك الأشياء زادت من مخاوف النساء على أنفسهنّ وأطفالهنّ ما أسهم في زيادة الضغوط والأعباء النفسية.
لم يضع المشرّع السوري قانوناً أو مفهوماً مباشراً في ما يتعلق بالعنف الأسري وتبعاته، بيد أنّ قانون العقوبات السوري قد جاء بالذكر على السلوك الإجرامي والاعتداء
يضاف إلى ذلك، الزواج التقليدي الذي أفرز أكثر من غيره داء الأذى والعنف المجتمعي بعد أن كانت تيك العائلات قد زوجت بناتها لدوافع معظمهما تتعلق بالمال و"السترة"، فضلاً عن زواج القاصرات، وهذا بحد ذاته بحث آخر مطول.
في القانون
لم يضع المشرّع السوري قانوناً أو مفهوماً مباشراً في ما يتعلق بالعنف الأسري وتبعاته، بيد أنّ قانون العقوبات السوري قد جاء بالذكر على السلوك الإجرامي والاعتداء والاغتصاب بالإكراه والتحرش.
إلا أنّه يمكن لأي معنّفة اللجوء إلى الشرطة والطبابة الشرعية والقضاء لأخذ حقها من المعتدي، وهو الزوج غالباً، بجرم الإيذاء المتعمد، فتحال القضية إلى محكمة صلح الجزاء، ليصار حينها إلى المصالحة كخيار، مشفوعةً بتعهد خطي من الزوج بعدم التعرض للزوجة بالضرب ثانيةً، أو قد يصدر حكماً مبرماً وقطعياً بحق المعتدي بالحبس أو الغرامة، ولاحقاً يمكن الاستناد إلى نتيجة قرار المحكمة بدعوى الطلاق لعلّة التعنيف.
في حال الصلح، وتكرار الشكوى من الضرب خلال 3 سنوات، يتخذ القاضي إجراء تحويل أوراق القضية إلى القضاء الشرعي ليبت فيها وإذا ما تسبب الضرب المتجدد للزوجة بعاهات مستديمة فيتم تجريم الزوج من قبل محكمة الجنايات.
النظرة الأممية
يقول موقع هيئة الأمم المتحدة للمرأة: "يُعدّ العنف ضد المرأة انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان يحدث على نحو يومي في جميع أنحاء العالم، فعلى الصعيد العالمي، تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء للعنف الجسدي أو الجنسي، في الغالب على يد الشريك. وبينما يتم ارتكاب العنف المنزلي وسوء المعاملة خفيةً في بعض الأحيان، إذا عرفنا الدلالات على العلاقة المسيئة، فقد نتمكن من التعرف عليها بشكل أفضل وطلب المساعدة أو تقديم يد العون لمن بحاجة إليها".
ويضيف: "من بعض الدلالات الشائعة على سوء المعاملة، أنّه قد يؤذيك جسدياً، مثل الضرب، أو الدفع، أو اللكم، أو الصفع، أو الركل، أو العض، وقد يستخدم سلاحاً ضدك أو يهدد باستخدامه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون