اعتادت مجموعة من كبار السن الالتقاء مرة في الأسبوع في حي جرمانا بدمشق للعب "الشدّة"، وفي حي القصاع تجتمع مجموعة ثانية في حديقة ساحة جورج خوري، وفي إحدى حارات الدويلعة يواظب مُسنّان على الالتقاء في نفس المكان الذي كان سابقاً محجاً لمجموعة كبيرة منهم قبل أن تفرقهم الأقدار.
الأمر نفسه مع بقية الأحياء، سيجد كبار السن مكانهم المريح الذي يجتمعون فيه، إذا لم يكن في المقهى فسيكون الاجتماع أمام البقالة التي يملكها أحدهم، وغالباً سيكون صاحبها متقاعداً.
مقهى الروضة... دمشق الصغرى
مع عصر كل يوم تبدأ الحركة اللطيفة لأصحاب الشعر الأبيض والخبرات الطويلة في الحياة للالتقاء في الأماكن والأوقات المتعارف عليها بينهم دون تخطيط، وبمجرد أن تخرج أوراق الشدة وتُفتح طاولات الزهر لن تٌغلق حتى ساعات الليل المتأخرة، وسيترك الكبار خلفهم الوقار المعروف عنهم والحكمة التي علمتهم إياها السنوات لتصبح أقل كلمة تقال فوق طاولة الزهر "عليّ الطلاق شيش بيش".
يترك الكبار خلفهم الوقار المعروف عنهم والحكمة التي علمتهم إياها السنوات لتصبح أقل كلمة تقال فوق طاولة الزهر "عليّ الطلاق شيش بيش".
بمجرد أن تخرج أوراق الشدة وتُفتح طاولات الزهر لن تٌغلق حتى ساعات الليل المتأخرة، وسيترك هؤلاء خلفهم الوقار المعروف لكبار السن والحكمة التي علمتهم إياها السنوات لتصبح أقل كلمة تقال "عليّ الطلاق شيش بيش
مقهى الروضة، أشهر مقاهي وأحد معالم مدينة دمشق، ما زال محافظاً على طقوسه وجوّه الصاخب منذ افتتاحه في العام 1938 وإن اختلفت الوجوه وغاب كثير منها بسبب الحرب.
الفنان وائل حمزة أحد رواد المقهى الذي اعتاد هو ومن كان يرتاده أن يسميه بدمشق الصغرى، يقول: "لكثرة تنوع رواد مقهى الروضة أسميناه بدمشق الصغرى، إذ ترتاده مختلف شرائح المجتمع، من سياسيين وكتّاب وشعراء وفنانين وموظفين وغيرهم، حتى تحول إلى عنوان يلتقي فيه الجميع لدرجة إن بحث أحدهم عن صديق له ولم يجده فسيجده هناك، تخيلي حتى تلفون المقهى صار مكتب مكالمات".
المقهى الذي يثير خيال الممثلين والكتّاب وتُدار فيه النقاشات الحادة فقد كان ملجأُهم للتسلية وقضاء الساعات في لعب الشدة أو الطاولة، وسط ضوضاء جميلة وحيّة ورهانات وضحكات وشتائم لا تخلوا غالبيتها من مفردات سوقية.
ما إن يحل المساء حتى تزدحم "دمشق الصغرى" وتبدأ الشاجرات والرهانات على اللعب، والتي تكون في الغالب أن على الخاسر أن يدفع فاتورة الطاولة أو يشتري النمورة أو الكنافة النابلسية، وقد يتطور الرهان لدعوة إلى إحدى الأكلات الشعبية من المحلات القريبة من المقهى، أو وفي حال كان اللاعب عنيداً على بطحة عَرق.
على الخاسر أن يدفع فاتورة الطاولة أو يشتري النمورة أو الكنافة النابلسية، وقد يتطور الرهان لدعوة إلى إحدى الأكلات الشعبية، أو في حال كان اللاعب عنيداً يتراهن على بطحة عَرق
يتابع وائل: "وكان بعضهم يغضب ويشتم بما يليق بالمكان العام وآخرون كانت شتيمتهم ثقيلة لكن بوجود الفتيات يصبح نوع الشتيمة أخف كي لا يجرح الحضور الأنثوي في المكان، وإذا ما تخاصموا على اللعب ينتقل كل منهم إلى طاولة لكنهم يعودون ويتصالحون في اليوم الثاني ويلعبون ويتشاجرون ثانية.
ويضيف: "وأحلى شي لما يقولوا يلعن اللي خلق هي اللعبة، بدي ضل علّم بربّك، تضرب إنت وهي الزتة، الله يلعنك ويلعن لعبك".
من الجميل أنهم بعد كل مرة يلعبون فيها ويتخاصمون ينسون كل شيء في اليوم الثاني وكأن شيئاً لم يكن. هذا الأمر لا يختلف عمن يلعبون في منازلهم، "ففي إحدى المرات في بيت أحد جيراني خسر في لعبة الشدة قام بطرد خصمه وكانت الساعة الثانية بعد منتصف ليلة شتوية، فخرجنا نبحث عنه كي نعيده"، يقول وائل ضاحكاً.
الغشاش يفوز غالباً
وفي حلب يواظب عماد وثلاثة من أصدقائه الدائمين (أحدهم عمه) على اللقاء كل مساء الجمعة للعب الشدة ويختارون في ليالي الشتاء الاجتماع في كل مرة في منزل أحدهم، أما في الصيف فيجتمعون في أرض الديار بمنزله في الأشرفية.
يقول عماد مبتسماً: "لا يمكنني تفسير صرخاتنا أثناء اللعب فهي هكذا تصدر منا ربما لأننا لا نرضى بالخسارة أو الغش، فعمي يغش كثيراً مع أنه نفسه لا يرضى بأن نغشه، تخيلي أننا كثيراً ما نلعب حتى الفجر في سهرات الصيف، وحتى حين تنتهي اللعبة نواصل حديثنا عنها، أنت فعلت كذا أو لا أنت لو لم تفعل هذه الحركة ووو، أما الرهانات، فقليلاً ما نتراهن بسبب سوء وضعنا المعيشي جميعنا، لكن لا أخفي عليك، في إحدى المرات راهن عمي إن ربح في لعبة تريكس بأن نشتري نحن الثلاثة بنزين لسيارته، وفعلاً غلبنا واشترينا البنزين ".
إذا ما تخاصموا على اللعب ينتقل كل منهم إلى طاولة مختلفة لكنهم يعودون ويتصالحون في اليوم الثاني
أما رهف مخلوف من اللاذقية، فتختار موسيقاها عندما تبدأ لعبة الطاولة مع والدها، في جو يعود بها إلى زمن الأبيض والأسود الذي أسمته بـ "الزمن الجميل"، فمع كأس الشاي وأغنية لأم كلثوم في ليالي الصيف التي تحمل نسمات البحر الرطبة تنفخ على حجر الزهر عندما يتحداها والدها بقوله "كيف زهرك اليوم، خلينا نشوف زهري ولا زهرك" وترمي النرد وتضحك عندما يأتي "دو شيش".
تقول رهف: "في فصل الصيف، نجلس أنا وأبي على الشرفة ونختار أغنية لأم كلثوم بعد أن أكون قد أعددت أبريق الشاي لنشعر وكأننا في مقهى، ونبدأ اللعب مع أني لا أعرف سوى الفرنجية والمحبوسة، وإذا فزت أنا أقول (اليوم زهرك مو معك)، (شوف يا بابا التلميذ غلب استاذو) ونضحك مع أنه غالباً ما نتعادل، لكنه يصر على الفوز ونواصل المنافسة إذا ما لم يكن الزهر مناسباً لأحدنا".
تعد لعبة الطاولة بالنسبة لوالد رهف رحلة لذكرياته مع أصدقاء قريته، وهو ما خلق لدى رهف الإصرار على المحافظة على علاقة والدها مع هذه اللعبة.
في إحدى المرات في بيت أحد الجيران خسر أحدهم في لعبة الشدة فقام بطرد خصمه من المنزل وكانت الساعة الثانية بعد منتصف ليلة شتوية، فخرجنا نبحث عنه كي نعيده
تقول: "هنالك العديد من المقاهي لديها أوراق الشدة والطاولة لكن أبي يفضل أن يلعب معي في البيت وعلى الشرفة، هو يقول أن لعب الطاولة للتسلية لكنك يمكن أن تلاحظي أثناء اللعب أنه مصر على الربح". تضحك وتضيف: "الخسارة لا أحد يقبلها، لأنه عندما يربح ينظر بفرح ويبتسم وكأنه يقول: "زهرك مزعلك اليوم". وهذا ما تحبه رهف في اللعبة "بالنسبة لي هي لعبة ممتعة ولها وزن على وقع نفسي وتأثير خاص تشبه دفء قلبه تجاهي".
ألعاب الطاولة وأوراق الشدة والمنقلة ألعاب شعبية، ولها تاريخ طويل ومرت بمراحل مختلفة حتى أصبحت جزءاً من تراث شعوب بلاد الشام، فهي رفيقة ليالي السمر ولحظات العفوية والمتعة والترفيه عن النفس وقضاء أوقات الفراغ مع أحبة.
لعبة الطاولة أو النرد هي لعبة مشهورة جداً في بلاد الشرق عموماً، بينما أوراق الشدة هي الأكثر انتشاراً في المقاهي، أما المنقلة فاختفت في العقود الأخيرة وقد كانت تنتشر في الأرياف ولا سيما في المناطق الساحلية وقلما نجد من يلعبها الآن.
كان جد رهف يلعب المنقلة ومنه تعلمتها، وتتساءل إذا ما كان إحياؤهاممكناً. تقول: "ع قولة البابا بعد ما صار الإنترنت ما بقا حدا يهتم بهي الألعاب، لهيك أنا حابة رجعها، هي تذكرني بجو الضيعة والجو النضيف وبتحسسك بكل شي جميل واللي ما عاد يشبه زمننا الحالي".
اللعب في المنزل ليس أقل شراسة
غيرت الحرب السورية الكثير من ملامح الإنسان السوري وأصبحت الحياة ثقيلة وبطيئة على كاهل كبارها وما عادت ترضيهم سوى ألفة الأولاد والأحفاد كحاجة للاستمرار على المقاومة وغلبة القهر الاجتماعي والاقتصادي.
تقول مروى حسين من كوباني: "ما إن يقرر أبي لعب أوراق الشدة نخاف وندفع بعضنا بعضاً أنا وأخواتي للعب معه لما له من رهبة، لكن لمجرد أن نلعب تختفي هذه الحدود ونصيح جميعنا لنتنافس على الفوز، وسواء فاز أو خسر سيصرخ أبي وسيعلو صوته".
ما إن يقرر أبي لعب أوراق الشدة نخاف وندفع بعضنا بعضاً أنا وأخواتي للعب معه لما له من رهبة، لكن لمجرد أن نلعب تختفي هذه الحدود ونصيح جميعنا لنتنافس على الفوز، وسواء فاز أو خسر سيصرخ أبي وسيعلو صوته
كان والد مروى يلعب مع أصحابه أسبوعياً، لكن الحرب فرقتهم ولم يبق سواه في الحارة، فاستعاض عنهم بأبنائه وبناته.
تتابع مروى: "كانت أغلب جلساته في ليالي الشتاء بجانب المدفأة وفي الصيف في (أرض الديار) وكانوا يبدأون اللعب من العصر حتى وقت متأخر من الليل، لكن تغير كل شيء في الحرب، بعضهم مات وآخرون انتقلو وسافروا وهاجروا وانتهت طقوسهم، ومع الأيام بدأ يلعب معنا مع أن متعة لعبه معنا ليست كمتعة اللعب مع أصدقائه، لكننا مرات نصرّ عليه أن يلعب وخاصة إذا ما شعرنا بحزنه".
في فناء الدار وبجانب شجرة الرمان ومع كاسات الشاي والفوشار تصبح مروى صديقة لوالدها خلال ساعات اللعب وتعلو ضحكاتهما ويخطر ببالها أن تزيل كل همومه ما استطاعت.
"أشعر بها تعود شابة رغم أنها امرأة ستينية، تضع شالاً أبيض على رأسها وتجعل أحد طرفيه خلف أذنها كي تسمع بشكل أفضل وتحمل مسبحة بيدها وعندما تتحدث بانفعال لا يُفهم كلامها لسرعته واختلاطه".
هكذا وصفت الشابة سلمى خليفة من دمشق خالتها نوال، تقول: "تضفي خالتي نوال جواً من المرح ما إن تقرر أن تجلس وتلعب أوراق الشدة معنا، فهي ذات روح شبابية لا يهمها الفوز أو الخسارة بقدر ما يهمها أن نقضي الوقت بين الضحك والتعليقات الخفيفة والصراخ، مع أنها غالباً ما تخسر".
تقول: "تصرخ أثناء الطرنيب وتمسك سيجارة رغم أنها لا تدخن ولا تسمح لنا بالتدخين بالحالات العادية لكنها تشعلها أثناء اللعب، (بتقولي شغل مزاج ورواق)، وعندما تخسر تشتم".
إذا بدنا نرد على الحرب لا رح ناكل ولا رح نشرب ولا رح نلعب، إحنا هيك بنقول إن لسة عايشين وقادرين نضحك
أما خليل من دمشق فيقول أن الألعاب الشعبية هي إحدى وسائل البقاء، وبعد أن ساءت الظروف المادية صارت الشلة تنقل بعضاً من سهراتها لمنزله لتوفير مصاريف المقهى. يقول: "إذا بدنا نرد على الحرب لا رح ناكل ولا رح نشرب ولا رح نلعب، إحنا هيك بنقول إن لسة عايشين وقادرين نضحك، صحيح إنه القعدة ذاتها بتقلب حرب وأقل كلمة بتسمعيها (عليّ الطلاق شيش بيش) و(ملعون أبوه اللي شاركك باللعبة) و(نزل أخت هالشيخ) بس مش قصة كبيرة، لأنه تاني يوم المغلوب بياخد بالثار، ودايما بيجي تاني يوم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...