بعين الأسى والحسرة، يراقب السوريون عملتهم المحلية وهي تتهاوى يوماً بعد آخر أمام الدولار. لم تكن سنوات الحرب في سوريا قاسيةً فقط على أرواح أهلها، بل طالت أيضاً الوضع الاقتصادي فيها، والذي أثّر على كل جوانب الحياة وأبرزها بالطبع الظروف المعيشية القاسية.
مبررات الحكومة لهذا الواقع تبدأ من الدمار الذي سببته الحرب في البنى التحتية للمدن والمنشآت والورشات الصناعية، إلى قانون قيصر وكل ما يتعلق به من حصار كان الهدف منه إضعاف جيوب المستنفذين والمسؤولين في الدولة. إلا أن هذا الحصار في الوقت نفسه، كان سبباً في مضاعفة ثروة أمراء الحرب، وساهم في تقسيم فئات الشعب إلى عدد قليل من الأغنياء، والكثير الكثير من الفقراء، في ظل واقع يشهد تضخماً كبيراً للعملة المحلية بعد تدنّي قيمتها، ومن هنا لجأ السوريون إلى إنقاذ ما تبقى من مدّخراتهم وما في حوزتهم من أموال عن طريق شراء الذهب أو العقارات أو السيارات أو تحويل الليرة إلى الدولار.
أمان الدولار
"تحويل الليرة إلى الدولار، هو الشائع حالياً لضمان حفظ قيمة العملة ولحفظ المبلغ المالي الذي كان في حوزتي"، يقول حسان زريفة وهو موظف إداري في إحدى الشركات الخاصة في دمشق لرصيف22، وهو يشرح كيف أدت به الظروف وهو يشاهد انهيار الليرة إلى أخذ القرار بالعدول عن استثمار أمواله في مشروع خاص بعد حساب تكلفته وما سيجنيه من أرباح، بسبب حال الليرة الآخذ في الهبوط وعدم ضمان نجاح المشاريع واستمرارها في ظل الحرب.
أصدرت الحكومة السورية في بداية عام 2020، قانوناً يقاضي المتعاملين بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، عبر فرض عقوبة السجن عليهم
ويضيف: "أخذت بنصيحة أحد أقاربي الذي شجعني على تحويل أموالي إلى الدولار، وهذا ما فعلته. الآن أنا شديد الاطمئنان لأن خياري كان صحيحاً، فاليوم يسجل الدولار أمام الليرة سعراً وصل إلى حدود أربعة آلاف ومئتي ليرة، والحمد الله".
أما بالنسبة إلى خطورة هذا الإجراء والملاحقة الأمنية للمتعاملين بغير الليرة، فتلك كانت أحد أسباب حسان للتردد في اللجوء إلى الدولار لكنها خيار يستحق المجازفة كما يوضح: "صرنا نخاف من ذكر اسم الدولار في مكان عام أو على الهاتف، ولذلك توجهت بشكل سري إلى تصريف الدولار عبر مكتب خاص يُعدّ موثوقاً لدى أحد رفاقي الذي أخذني إليه، لأن التاجر حريص على عدم بيع الدولار لأي شخص لا يعرفه خوفاً من الوشاية به وتالياً الاعتقال والملاحقة الأمنية".
وأصدرت الحكومة السورية في بداية عام 2020، قانوناً يقاضي المتعاملين بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، عبر فرض عقوبة السجن عليهم مع الأشغال الشاقة المؤقتة لمدة لا تقل عن سبع سنوات، ودفع غرامة مالية بما يعادل قيمة المدفوعات أو المبلغ المتعامَل به.
الذهب للادّخار وليس للزينة
جمانة الحمصي، ربة منزل كان لها رأي آخر، فهي لا تثق بالدولار واقتنائه بل اتجهت إلى شراء الذهب الذي بحسب رأيها لا يفقد قيمته والصاغة ترفع نسبة سعر الذهب مع كل ارتفاع للدولار. تقول لرصيف22: "الضمان الوحيد لادّخار ما أملكه هو شراء الذهب، وبعكس العملات فهو لا يفقد قيمته ويسهل نقله من مكان إلى آخر".
حصلت جمانة على ميراث العائلة بعد وفاة والدها، واستبدلت الأموال بليرات ذهبية خاصةً أن لها خبرة في هذا المجال، فمنذ سبع سنوات وقبل الارتفاع الجنوني لسعر الذهب وضعف الليرة السورية، باعت جمانة وزوجها ما كان لديهما من ليرات ذهبية لشراء بيت وسيارة بالإضافة إلى استبدال الميراث بالذهب وحاولت الآن تعويض ما صرفته من ليرات ذهبية كونها لا تتأثر بسعر الصرف كالعقارات والسيارات.
تضيف: "صحيح أننا امتلكنا بيتاً وسيارةً والآن سعرهما ارتفع أكثر بكثير من قبل، لكن لو بقيت هذه الليرات معنا لكانت الضمانة مضاعفةً لنا بشكل أكبر، خاصةً أننا نعتزم السفر من البلاد، ومن يضمن أن نحصل على السعر المطلوب إذا بعنا السيارة والبيت؟".
صحيح أننا امتلكنا بيتاً وسيارةً والآن سعرهما ارتفع أكثر بكثير من قبل، لكن لو بقيت هذه الليرات الذهب معنا لكانت الضمانة مضاعفةً، خاصةً أننا نعتزم السفر من البلاد، ومن يضمن أن نحصل على السعر المطلوب إذا بعنا السيارة والبيت؟
ويتفق جزء من السوريين مع جمانة في ادّخار الأموال من خلال شراء الذهب لأسباب عدة أبرزها الابتعاد عن المساءلة الأمنية المفروضة على المتعاملين بالدولار، وارتباط سعر الذهب بالارتفاع العالمي لقيمته، وهو ما يضمن عدم الخسارة فيه خاصةً الذهب التقليدي الذي بلا نسبة صياغة عالية وقطعة الذهب التي لا تحتوي أحجاراً وزخارف.
العقارات بين المستحيل والممكن
"خلال الفترة الأخيرة، ازدادت حركة بيع العقارات وشرائها بشكل ملحوظ مع القفزات الكبيرة التي حصلت في سعر الصرف، وغالباً ما يتم شراء العقارات أو بيعها بالعملة الصعبة الدولار أو الذهب"؛ يقول ناصر علبي، وهو صاحب مكتب عقارات، لرصيف22، ويشير إلى أن "معظم الناس الذين يشترون العقارات لا يكون هدفهم السكن أو الاستثمار، لكن تحويل الكتلة النقدية التي يمتلكونها إلى عقار لأن الأخير ملاذ آمن للادّخار".
ويبيّن أن الأسعار المرتفعة التي يشهدها سوق العقارات ليست حقيقيةً، إذ إن سعر العقار يتأثر أيضاً بتراجع سعر صرف الليرة السورية، ففي عام 2011، كان الدولار يساوي 50 ليرةً واليوم يقدر بـ4200 ليرة، وعلى ذلك يتم تسعير العقارات بسعر الدولار الحالي.
ويضيف: "بالرغم من أن قيمة العقار هي ذاتها بالنسبة إلى سعر الصرف، فهناك بالطبع أسباب أخرى لارتفاع أسعار العقارات ومنها إقبال العراقيين واللبنانيين الذين دخلوا سوريا وغيرهم، على شراء العقارات بأسعار عالية خاصةً في دمشق، بالإضافة إلى الارتفاع الكبير في أسعار مواد البناء، وعلى كل حال فإن الطلب على العقارات لا يزال مقبولاً".
يؤكد سليم قويدر، صاحب ورشة خياطة واقعة على أطراف سوق الحميدية، لرصيف22، أن كل خيارات الادّخار من الدولار والذهب إلى العقارات جيدة ومفيدة، لكنه يميل بشكل أكبر إلى الخيار الثالث. ويقول: "كل السوريين يعدّون أن شراء المنازل أصبح للأغنياء فقط، خاصةً في المناطق الراقية في قلب العاصمة، وأصبح امتلاك بيت حلماً للكثيرين نظراً إلى التصاعد الجنوني لأسعار العقارات، أما أنا، فقد وضعت كل ما أملك من دولارات وذهب بعد رحلة بحث طويلة عن منزل يناسب قيمة مدّخراتي، فمهما استمر انهيار الليرة أمام الدولار بالتأكيد سيبقى العقار هذا محافظاً على قيمته، وربما يزداد سعره بشكل مضاعف ولذلك سيكون البيت ضمانةً للمستقبل لي ولأولادي من بعدي".
لقد وضعت كل ما أملك من دولارات وذهب بعد رحلة بحث طويلة عن منزل يناسب قيمة مدّخراتي، فمهما استمر انهيار الليرة أمام الدولار بالتأكيد سيبقى العقار هذا محافظاً على قيمته، وربما يزداد سعره
ويبيّن شادي فريحة، وهو أكاديمي واقتصادي، لرصيف22، أن "متوسط أسعار المنازل في دمشق يصل إلى مئات الملايين من الليرات السورية، فيما لا يزيد الأجر الشهري للموظف الحكومي عن مئة ألف ليرة سورية"، ويقول: "يحتاج السوريون من أصحاب الدخل المحدود إلى مئات السنين للحصول على منزل، فالراتب بالنسبة إلى الموظف أو العامل لا يكفيه لشراء الاحتياجات الأساسية من أكل ولباس ودواء، أما المهجرون فلا يستطيعون العودة إلى بيوتهم في المناطق التي أعلنتها الدولة آمنةً، فكيف لشخص مهجّر فقد أملاكه وتحول منزله إلى دمار أن يعيد بناءه مع الارتفاع الكبير في أسعار مواد البناء، من حديد وإسمنت وكسوة جديدة للمنزل؟".
فرصة ادّخار وغصة
"سحبت قرضاً من البنك العقاري قيمته خمسة ملايين ليرة سورية، وكغيري من الناس بدأت أبحث عن حلول لضمان قيمة العملة المحلية، لكن الادّخار بالدولار أو الذهب جامد ولا يساعدني في استثمار المال لكي يدرّ عليّ الربح، لذا كان الحل بالنسبة لي هو تشغيل الأموال عبر أشخاص مختصين بالاستثمار وفق سندات أمانة".
تشرح هيا فرهود، وهي موظفة حكومية لرصيف22، معاناتها إثر تحول أملها إلى غصة بسبب تعرّضها للاحتيال من قبل شخص ادّعى أنه مستثمر موثوق. قدّمت له قرضها المالي بهدف استثماره وإرسال صافي الربح إليها، مقابل سند أمانة يتضمن كتابة المبلغ مع توقيع وبصمة. بعد الاتفاق وأخذ المال تواصل معها هذا الشخص مرتين فقط، ثم اختفى ولم تعرف إليه طريقاً ولا وسيلة للوصول إليه.
ترتبط حالة التضخم في البلاد بعدم وجود استثمار ربحي ومحلي نظراً إلى عدم توافر ملاذ آمن وظروف جيدة للاستثمار
تقول: "ذهبت أموال القرض مع الريح، وتعرضت للنصب. لم أسكت عن ذلك فقدّمت سند الأمانة إلى القضاء، وإلى الآن أنتظر الفرج، ربما كنت ساذجةً في فعل ذلك، وأستغرب كيف وصل الناس إلى هذا الدرك. لا شفقة ولا رحمة ولا تعاطف مع الأحوال المزرية التي نمر بها، ما يهمهم هو جمع المال بأي طريقة وابتكار حيل جديدة من الفساد والسرقة".
تضخم اقتصادي
يُفنّد فريحة أسباب ضعف الوضع الاقتصادي في البلاد، بمجموعة من العوامل، وهي: "خسارة الدولة لمردود القطاعات الأساسية التي كانت تسهم في الناتج المحلي كالنفط، بالإضافة إلى الزراعة والصناعة والسياحة، كما تحولت الدولة إلى الاستيراد بعد أن كانت ضمن قائمة المصدّرين، وبذلك انعدم الناتج المحلي العام واقتصر فقط على رواتب الموظفين والخدمات الأساسية، وساهم تحويل الناس لمّدخراتهم المالية واستبدال الليرة السورية بالدولار أو الذهب أو العقار أو أي شيء آخر، في تخفيف الطلب على العملة النقدية والتوجه نحو الاستثمار في مجالات لا ربح فيها وتالياً لا تعمل على تحسين الواقع الاقتصادي السوري".
ويقول: "ترتبط حالة التضخم في البلاد بعدم وجود استثمار ربحي ومحلي نظراً إلى عدم توافر ملاذ آمن وظروف جيدة للاستثمار، وهو السبب الذي دفع الكثير من السوريين إلى تحويل مدّخراتهم بطرق عدة وضمان عدم خسارتها، خاصةً أن المصرف المركزي السوري يسعّر العملة الأجنبية الدولار مقابل الليرة السورية بأقل من سعر صرفها في السوق السوداء، ما يخلق باباً جديداً للتضخم".
وتجدر الإشارة إلى أن المصرف، في آخر قراراته، رفع سعر صرف دولار الحوالات إلى 2،800 ليرة، بهدف تشجيع المغتربين والمنظمات الدولية على إرسال الأموال من الخارج عبر الطرق النظامية، لكن ذلك لن يحصل طالماً أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء يواصل الارتفاع مع بلوغه نحو 4،200 ليرة سورية هذه الأيام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه