شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عشر دقائق برفقة هشام سلام... تابوهات آن لها أن تنكسر

عشر دقائق برفقة هشام سلام... تابوهات آن لها أن تنكسر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 19 أغسطس 202210:21 ص

في آخر يوم من حياتي الجامعية، وبعد آخر امتحان في مسيرتي التعليمية في كلية الآداب، قسم العلوم الجغرافية، ذهبت إلى كلية العلوم المجاورة لنا في جامعة المنصورة، وكنت على موعد سيغيّر أفكاري حول أمور كثيرة في العلم والدين والحياة. لقاء قصير لا يتعدى العشر دقائق فقط كان كفيلاً بتغيير بعض أفكاري وإحلال أخرى محلّها.

كان قد وعدني أستاذ الصخور الرسوبية في كلية العلوم، البروفيسور طارق عنان بمرافقتي لمقابلة زميله البروفيسور هشام سلام. لم أكن على علاقة بالأخير سوى من خلال متابعتي لأبحاثه وصفحته الشخصية على فيسبوك. صراحة الأمر، كنت معجباً به: يظهر من خلال تعليقاته ومنشوراته التي يشاركها كثيرون أنه شخص عفوي جداً، وليس كالباحثين الذين يمكثون في أبراج عاجية، يكرهون الابتسام، ويظنّون أن العبوس يخلع عليهم الهيبة ويمنحهم تقدير الناس.

توجهت مع الدكتور طارق، ودخلت مركز الحفريات الفقرية الذي يديره هشام سلام، فوجدت عظاماً وصخوراً مُتراصة في المعمل، تملأه من كل جانب، وهذا يُعد أمراً طبيعياً لكنه كان غريباً عليَّ. شعرت بأنني محاصر داخل صورة مُصغرة عمرها مئات آلاف السنوات وتسبق ظهور الإنسان على الأرض.

أخذتني الرهبة وسَرَت في عروقي قشعريرة باردة أثناء سيري في ذلك المكان الدافئ الذي يعج بالصخور والطلبة المنكبّين على القراءة والتدوين. في غرفة في الآخر، كان الدكتور هشام جالساً خلف شاشة الكومبيوتر. وقف لاستقبالي، أنا الشاب ابن الـ22 سنة، النحيل، اليساري، المُكتئب دائماً، والذي يرتدي نظارة تنزلق بين الفينة والأُخرى على أنفه فيضطر بحركة مباغتة إلى الضغط عليها لتستقر على عينيه. أجل. كان ينتظرني أنا!

مدّ يده وصافحني مُبتسماً، والدكتور طارق عن يميني يُعرفه عليَّ: "محمد أمجد كرارة من الطلبة المتفوقين".

ـ أهلاً وسهلاً محمد. شرف لي مقابلة طالب مُجدّ مثلك، يكفي أنك من طرف الدكتور طارق.

ـ بل الشرف لي يا دكتور.

جالت عيناي في المكان قليلاً وأنا متيبس في مكاني، وقبل أن أنطلق بالحديث في الموضوع الذي يشغلني، سرحت أفكاري في المكان. عُدت من شرودي الذي طال بضع ثوانٍ وقلت للدكتور هشام: قرأت الكثير عن التطور، قرأت حول أصل الأنواع لتشارلز داروين، وكذلك ما سجله صديقه ألفريد والاس، هل هناك أبحاث أخرى كي أقرأها، أحسبني مُلماً بالموضوع جداً.

ابتسم وقال لي: المشكلة أن داروين ووالاس يُعَدّان من كلاسيكيات علم التطور، هناك كتابات تَلَت أصل الأنواع عليك بقراءتها.

نادى على أحد تلامذته، ولمّا حضر قال له: "كتاب تاريخ جديد للحياة موجود لدينا، أليس كذلك؟" هز التلميذ رأسه في إشارة إلى وجوده. فطلب منه: "حسناً أحضره لمحمد وخذ اسمه ورقم تلفونه لنتمكن من التواصل معه بحال تأخر عن إعادة الكتاب إلينا"، ثم نظر لي متبسماً: "هذا هو نظامنا في إعارة الكُتب كي نضمن استرجاعها".

التطور حقيقة علمية، وكل ما في الأمر أننا نحاول البحث عن آثاره، أي أن الكائن مثل العدّاء، كان في مرحلة ما عند نقطة، ثم صار عند نقطة أُخرى، علم التطور يبحث في تلك الفترة كيف تغير وما الذي تغير

خرجنا إلى قاعة المركز حيث الحفريات والصخور وأخذت أسترجع كل ما سمعته عن ذلك الرجل الهادئ: مُلحد، كافر، زنديق ومروج للتطور! كم كبير من الحقد والكراهية تجاه رجل كل ذنبه أنه يقول إن التطور حقيقة علمية. أين الكذب في مقالته؟!

بعد لحظات، وصل الكتاب ومعه دفتر لأسجل فيه بياناتي، وحين فتحت الدفتر وجدت أسماء طلبة عدة وعشرات الكُتب المُستعارة. "هل هذا المكان مركز علمي أم مكتبة وطنية؟"، تساءلت بيني وبين نفسي.

وأنا أكتب اسمي، ابتسم لي الدكتور هشام وقال ناصحاً: اقرأ ذلك الكتاب كعلم وإياك وأن تقرأه قراءة إيديولوجية لتصديق أو تكذيب فكرة ما، فقط اقرأ العلم للعلم.

نظر إليه الدكتور طارق مُصدقاً على كلامه: أي نعم العلم للعلم وحسب.

سألته وعيناي لا تكفان عن التجول في المكان: هل هناك قاعدة أُخرى أتكئ عليها أثناء قراءتي لذلك الكتاب؟

ـ التطور حقيقة علمية، وكل ما في الأمر أننا نحاول البحث عن آثاره، أي أن الكائن مثل العدّاء، كان في مرحلة ما عند نقطة، ثم صار عند نقطة أُخرى، علم التطور يبحث في تلك الفترة كيف تغير وما الذي تغير.

أخذت أتصفح أوراق الكتاب حتى قاطعني: "هل سجلت بياناتك؟". فقلت: "نعم دكتور فعلت". فرد ضاحكاً: "عموماً ‘هنجيبك’ لو لم تُعد الكتاب".

ضحك ثلاثتنا من جملته الأخيرة، وفي نفسي حزن على ما أمضيته في كليتي وجامعتي. الآن، أنا أمام هشام سلام، باحث عالمي تستشهد بأبحاثه أكبر الجامعات العالمية، وواحد من أشهر علماء مصر والوطن العربي، والأستاذ الأول في علم الحفريات في المنطقة، لكنه يحمل في نفسه تواضعاً جماً ولا يتوقف عن الضحك والفكاهة الناضجة حين يُخاطب الغريب. أما في كليتي، فكانت كل الطلاب يرتعدون عندما يمر العميد لإلقاء محاضرة ما، كما أن أي رئيس قسم ينظر بتكبّر إلى طلابه، كأنه أوجد ما لم يوجده غيره، أو كأنه إله خلق الأرض والسماء وتواضع بالنظر في حال البشر! أذكر ذات مرة، عندما مرّ العميد من أحد ممرات الكلية، كيف احتشد الحرس على جنباته ليحيلوا بينه وبين الطلاب، حتى أن ظهري التصق بالحائط، وكدت أصير جزءاً من رخامه!

"في كليتي، كان كل الطلاب يرتعدون عندما يمر العميد لإلقاء محاضرة ما، كما أن أي رئيس قسم ينظر بتكبّر إلى طلابه، كأنه أوجد ما لم يوجده غيره، أو كأنه إله خلق الأرض والسماء وتواضع بالنظر في حال البشر!"

في مركز سلام، رأيت حياة غير تلك الحياة. شعرت ولأول مرة أنني كنت طالبَ علمٍ حقيقي، لي مكانتي، وشعرت أن الاحترام الذي حصلت عليه شهادة تقدير تغنيني عن كل الشهادات التي منحتني إياها كليتي وجامعتي.

سلّمت على الدكتور هشام في آخر حوارنا بعدما مازحته قائلاً: يبدو أن أعداءك كثيرون على فيسبوك، وأنت تحب مضايقتهم ومداعبتهم.

فابتسم ابتسامة خفيفة، كأنه يتلذذ بفعل ذلك، كما أتلذذ أنا أيضاً بمشاكسة هؤلاء، ثم عرجنا في الحديث على أحمد خيري العمري وكتابه "لا شيء بالصدفة"، وقال لي: "سمعت عن الكتاب ولكني مع الأسف لم أقرأه، عما قريب سأقرأه".

كان ذلك يوم 25 تموز/ يوليو 2021، وكان أجمل يوم مر عليّ في تلك السنة، يوماً عرفت فيه أن هناك بقعة ضوء، لكن البعض يرغب في طمسها لا لشيء سوى لأنه يرغب في العيش في الظلمات.

مكثت شهراً أقرأ في الكتاب الذي استعرته والصادر في الكويت. كتاب جميل غيّر نظرتي عن التطور. داروين ليس سوى حلقة من ضمن حلقات التطور الطويلة، فلماذا أثار كل ذلك الانزعاج عند كهنة الدين؟ من المحتمل لأنه قدّم أول نظرية عملية شارحة للتطور: "الانتخاب الطبيعي".

لمّا أنهيت قراءة الكتاب، توجهت إلى "مركز الحفريات"، بمفردي هذه المرة. ولما وقفت على عتبته، رأيت الدكتور هشام خلف الكومبيوتر يُنادي عليَّ: تعالَ حبيبي.

ذهبت إليه وكان أول ما قاله: هل استفدت؟

ـ نعم دكتور، استفدت جداً.

ـ كويس، إذن أعد الكتاب مجدداً وتأكد من إزالة اسمك عن الدفتر.

ـ تمام.

ـ إن أحببت المجيء في أي وقت أهلاً وسهلاً بك لتتعرف على الصخور والحفريات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard