من الغباء بالنسبة لي، أن أخصّص بعضاً من وقتي لكتابة هذا النص، ولو كان "بالمختصر المفيد". إلا أنني على يقين من أن قراءته بعد ذلك لن تعود عليّ بأي منفعة سوى "التعبير" عن أسفي، وأنا أسترجع تلك الأيام الطويلة في مسرح المدينة، حيث الحضور الحاضر بانفتاحه ونقاشاته العابرة لأي مفهوم متشدّد يقولب معايير الفن فيأسرها ضمن عقيدته المحدودة، وحيث المشاريع الفنية العزيزة علينا بجرأة طرحها وجمهورها القادم بهمومه المشتركة، وحيث الجميع في انتظار لحظة دخول المسرح ولحظة بدء العرض ولحظة انتهائه للوقوف والتحية، و"للتصفيق بلا توقف".
تفاصيل من لحظات كانت أقرب إلى سعادتنا، ومحفّزاً لاستكمال أعمال فنية مهدّدة بالقمع والخضوع أمام مرجعية دينية متحجرة العقل والظن. هل فعلاً علينا استعادة كل ما عايشناه في مسرح المدينة لتبرير غضبنا من تلك الدعوة وما يمثله مسرح المدينة في ذاكرتنا الجماعية؟ هل حقّاً تحاول نضال الأشقر خوض معركة الحسين، بدلاً من انتشال مسرحها من الوقوع في فخ معشر التطرّف أو بالحد الأدنى فخّ من لا يقبل الآخر المختلف معه؟ تماماً بعد كل الصخب الذي أحياه "مهرجان بيروت للرقص المعاصر"، عبر سنين متتالية، وسحر تلك الليالي كله، ينضم أخيراً مسرح المدينة إلى قافلة كربلائيّين غالبيتهم مدججة بالتعصّب.
هل حقّاً تحاول نضال الأشقر خوض معركة الحسين، بدلاً من انتشال مسرحها من الوقوع في فخ معشر التطرّف أو بالحد الأدنى فخّ من لا يقبل الآخر المختلف معه؟
تجاهلت نضال الأشقر "المرأة صاحبة الصوت العالي"، والمسؤولون عن هذا القرار، أن إحياء مراسم عاشوراء على خشبة مسرح المدينة ما هو إلا اندماج مع سلطة قذرة تحرّم الاختلاط وتحلّل رجم الأجساد العارية على خشبتها. هل أزالوا بار المشروبات الروحية، وصور عظماء المسرح والشاشة ليضعوا مكانها خيمة آل البيت؟ أفكر في كل زاوية في المسرح قبل وصولي إلى الخشبة، تلك التي شهدت أجمل العروض المحلية والعالمية في بيروت، وهي عروض لفنانين وجدوا المدينة على خشبة مسرح المدينة.
كيف لكل هذا العز أن يتحوّل إلى قاعة موشّحة بسواد مظلوميّتهم وخطابهم الكاره لغير المألوف في تربيتهم وثقافتهم؟ هل تعلم نضال الأشقر بأن عاشوراء، لا كطقس مثير للجدل والعواطف والإبهار في أغلب الأحيان، وبعيداً عن مسرحتها، بل عاشوراء كخطاب سياسي-اجتماعي تحريضي وفوقي، تتناسب مع أحداث المنطقة من الدمار في سوريا إلى الجوع والعوز في لبنان؟
نستطيع أن نتوارى، وأن نتبخّر مع كل هذا الذعر. أن نصبح ما عليه اليوم: محطّمين من كثرة الأخبار السامّة. أجسادنا سابقاً كانت تتسابق للوصول إلى "تيكت" من شأنه أن يساعدنا على رؤية العالم بشكل أفضل، فبهذه البطاقة تكون من بين المحظوظين بكرسي داخل المسرح لتشاهد روعة الانكسارات على الخشبة. بفضل تلك الخشبة حسبنا أن أحلامنا في بيروت مصانة، وأن كل ما حصّلناه من دراسة وتضحية محميّ. توهمنا بأن الخراب في الخارج فقط، ولن يطال الخشبة، وإذ بها تكسونا برايات تستملك مساحتنا بالقوة، وتترصد بكل من اعتلاها ونشر ما هو مستور من النظام الديني. هل استُبدل التصفيق الحار باللطم؟ أم استبعد المسرح ألوان إضاءته وأزيائه ليبدأ مجلسه بتلاوة آيات من الذكر الحكيم؟ هل اختار من تلك الآيات أشدّها عقاباً وقصاصاً من الذين كفروا وعايشوا المنكر في شارع الحمرا؟ أم علينا أن نتعايش مع من يقرّب تعاليم الدين إلى المسرح؟ وأن نلجأ إلى رجال الدين ونخبرهم بأن حرصهم العاشورائي هذه السنة تفوّق على كل التوقعات؟ وأن نهنئهم على اختيار المكان المثالي للحديث عن الدم والسيف؟ وعن المكان الذي سيكون ملزَماً بعد خلع الحداد باستقبال مجموعات شبيهة تهذّب الخشبة وتعيد فرز جمهورها؟
تطمئننا نضال: "سيقدّمون قصصاً ومحاضرات وليس لطماً أو دماً". أتساءل: "عم تسمع حالها شو عم تقول؟". عن أي محاضرات تتكلم؟ عن زواج القاصرات أو عن عقود المتعة للشباب، ففي هذه الحالة فقط يباركون العلاقات الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية؟ أم عن المحكمة الجعفرية ورشاوى الأموال لرجال الدين؟ أم عن التحرّش بالنساء المطلّقات من رجال المحكمة الجعفرية؟ أم عن خلوة رجال الدين في بيوت الدعارة وقتل النساء؟ أم عن الشباب الكربلائي المسلّح في الطرقات؟
توهمنا بأن الخراب في الخارج فقط، ولن يطال الخشبة، وإذ بها تكسونا برايات تستملك مساحتنا بالقوة، وتترصد بكل من اعتلاها ونشر ما هو مستور من النظام الديني. فهل استُبدل التصفيق الحار باللطم؟
لعلّ نضال تعوّل على هذه المناسبة للحديث عن رهاب المثلية وكيفية التصدّي لها. نعم هي محاضرات على نهج "أبطال أرض كربلاء"، تزايد علينا في الانفتاح والحريات والمعرفة. قصص عن الانتصارات الكبرى في إيران والعراق واليمن ومحاضرات عن المؤامرة وثقافة الغرب الملعونة. سيحدثوننا عن ثورة الحسين، وعن نهضة هذه الملحمة، وعن إرادة هذه الحركة في جذب جيل كامل، ليس لمناصرة المظلوم، بل للتفرّد في الانصياع لحرب الفتنة والتفرقة. ما بين الحق والباطل في سيرة "نحر الرؤوس" عشرة أيام كافية لتجعل من مسرح المدينة باحةً مسخّرةً لإبطال الحق، ونسختك الحسينيّة من مسرح المدينة ما هي إلا "باطل".
هل فعلاً علينا استعادة كل ما عايشناه في مسرح المدينة لتبرير غضبنا من تلك الدعوة وما يمثله مسرح المدينة في ذاكرتنا الجماعية؟
لطالما كان مسرح المدينة منصة شارع الحمرا، وواجهةً فنيةً تُبرز جمال المدينة وتشارك في تطوير مزاياها. نعم هو فضاء مفتوح، ولكن لأولئك الذين لم يتبقَّ لهم أي "فسحة تلاقي" في هذا البلد المفلس، وبالرغم من ذلك غدا همّ سلطته الدينية التدخّل في ما لا شأن لها فيه، وفرض القيود على الأعمال الفنية التي تهدّد سلام محاضراتها. وإن تميّزت بشيء فهو استحقارها إيانا وإخضاع المنصتين لها.
هو فضاء مفتوح للذين لا ينصاعون وراء تراث يحرّف الفن فيحجبه بعباءة سوداء، وفي الختام يضعه تحت رقابة الشرف والفضيلة. تراث احتكرته جهة متطرفة تخدّر عقول تابعيها. ولأن الأشقر "ما بترفض طلب حدا"، فبذلك تكون قد كسرت قيود الحياء، وساومت على حرياتنا واستهزأت بكل معايير "النضال" والثورات التي نخوضها أمام هذه المنابر المكفّرة والمجاهرة بعداوتها مع "الجميع". والجميع باتوا يعلمون الآن بأن لمسرح المدينة أبواباً فارغةً من القيم الفنية والإنسانية والخشبة التي بالأمس كانت تتباهى بجرأة راقصيها وخيال أجسادهم العارية.
اليوم، مسرح المدينة أمام محاضرات عن شيم المرأة الموالية لأهل البيت، والتمسّك بعباءة زينب، وكأن نضال الأشقر تبتلع الطعم لتواجهنا بمقولة "حسين منّي وأنا من حسين". وأما عن هذا التراث يا نضال، فما هو إلا ضريبة وحدك من قطف ثمارها. وأما نحن، فـ"خلص استوينا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت