غادر الرئيس الأمريكي، جو بايدن، العالم العربي من قمة جدة، عائداً إلى بلاده، حاملاً معه خيباته وفشله في تحقيق ما جاء من أجله، كما فشل ما يُسمّى بـ"محور الاعتدال" في أخذ موافقة منه لتحقيق الحلم بـ"ناتو عربي ضد ولاية الفقيه".
دولة الاحتلال الإسرائيلي، هي الرابح الأكبر من زيارة الرئيس الأمريكي إلى المنطقة، إلا أنها غضبت أيضاً من عدم تحقيق توافق عربي-أمريكي، كامل الدسم، للخوض معها في حرب ضد إيران ومشروعها النووي، بالرغم من أنها ربحت مزيداً من الاندماج في المنطقة.
ما القصة؟
تبدو القصة معقدةً ومتشابكة الأطراف، غير أنها بدأت على لسان العاهل الأردني، عبد الله الثاني، حينما كشف عن رغبته في دعم بلاده لتشكيل تحالف عسكري في الشرق الأوسط، على غرار حلف شمال الأطلسي، قائلاً لشبكة "سي إن بي سي" الأمريكية: "إن مثل هذا التجمّع يمكن إنجاحه مع الدول ذات التفكير المماثل، لكن يجب أن يكون بيان المهمة واضحاً جداً، وإلا فإن ذلك سيربك الجميع".الملك الأردني عبّر عن إرادته في أن تكون بلاده طرفاً في هذا الحلف المرتقب، مؤكداً أنه "سيكون من أوائل الأشخاص الذين سيصدّقون على إنشاء حلف ناتو شرق أوسطي، إلى جانب التعاون الأمني والعسكري، ويمكن لتحالف أوثق في الشرق الأوسط أن يساعد في مواجهة التحديات الناشئة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، لا سيما في ما يتعلق بأسعار الطاقة والسلع".
من خلف الكواليس، كانت الرياض التي تقود محور الاعتدال، تدعم الطرح الأردني، ودعمت إسرائيل الفكرة بكل قوتها، وعززت ذلك خلال زيارة بايدن إلى الأراضي المحتلة. على النقيض تماماً، كانت الإمارات تطلب إعادة التفكير في أي مواجهة عسكرية محتملة مع طهران، كما مصر التي لم يلحقها أي تهديد إيراني على الأرض.
الملك الأردني عبّر عن إرادته في أن تكون بلاده طرفاً في هذا الحلف المرتقب، مؤكداً أنه "سيكون من أوائل الأشخاص الذين سيصدّقون على إنشاء حلف ناتو شرق أوسطي، إلى جانب التعاون الأمني والعسكري..."
الطرح الأردني ذو البعد العسكري، نشأ نتيجة الضغط المليشياوي على الحدود المشتركة؛ فمن الجهة الشرقية مع العراق تتمركز قوى الحشد الشعبي، وشمالاً مع الحدود السورية تتواجد ميليشيات حزب الله، وهو ضغط أرهق المملكة مع تصاعد عمليات التهريب والاشتباك المسلح، وفقاً للرواية الأردنية.
ما سبق، عزز لدى السعودية رغبتها في "الناتو"، وهي التي استُنزفت في حرب الحوثيين في اليمن، وتتوقع حدوث ما هو أخطر من قصف المنشآت لتصل إلى مواجهة محتومة مع طهران ذاتها، يوماً ما. أما المخاوف الإسرائيلية فتزداد بوتيرة أعلى من اكتمال المشروع النووي الإيراني، الذي تعدّه تهديداً لأمنها ووجودها، ويبقى حزب الله في الجنوب اللبناني لغماً قد ينفجر في أي لحظة، عدا عن الدعم الإيراني لحركة المقاومة "حماس" في غزة.
ماذا يعني ناتو شرق أوسطي؟
لم تكن فكرة ناتو شرق أوسطي جديدةً، بل ظهرت عقب سقوط بغداد عام 2003، مع بدء تمدد النفوذ الإيراني وتشكّل الهلال الشيعي، بيد أن الفكرة لم تكتمل، وكان المقصود منها آنذاك تضييق الخناق على التمدد الإيراني في العراق أولاً، ثم في الدول الأخرى، بحكم الجغرافيا، أي الخليج والأردن.عادت الفكرة من جديد مع قدوم الإدارة الأمريكية السابقة، والتي اتخذت موقفاً حاسماً من إيران ومشاريعها في المنطقة. هذه المرة عاد الحديث عن الحلف العسكري بوجود "إسرائيل"، وهو ما تطمح إليه الأخيرة أيضاً، لأسباب عديدة؛ أبرزها تعزيز التعاون الأمني الاستخباري مع الدول العربية، لكسر النفوذ الإيراني في المنطقة، بالإضافة إلى تعميق التعاون ذاته مع الدول الجديدة التي لحقت بقطار التطبيع السريع.
ربما تكون تأكيدات بايدن حول قبوله خطة العمل المشتركة الشاملة المتعلقة بالملف النووي، أحد أسباب رفض الإدارة الأمريكية لفكرة الناتو الشرق أوسطي، لكن المؤكد أن هناك تفاصيل موضوعيةً ذات أبعاد إقليمية عميقة
كما طمحت إسرائيل من خلال وكلائها في واشنطن، إلى دعم فكرة الحرب ضد إيران بحلف عربي، لتقليل كلفتها عليها -في حال وقوعها- غير أن ذلك اصطدم برفض واشنطن الواضح، في ظل الرؤية الأمريكية الجديدة الساعية إلى تغيير الموقف لإنقاذ اتفاق إيران النووي.
ثلاثة أسباب لرفض أمريكا للناتو... ما هي؟
ربما تكون تأكيدات بايدن حول قبوله خطة العمل المشتركة الشاملة المتعلقة بالملف النووي، أحد أسباب رفض الإدارة الأمريكية لفكرة الناتو الشرق أوسطي، لكن المؤكد أن هناك تفاصيل موضوعيةً ذات أبعاد إقليمية عميقة أهمها؛ انشغال الولايات المتحدة بالحرب الأوكرانية-الروسية، فهنا ملف روسيا ورئيسها، فلاديمير بوتين، الذي يدقّ ساعة الخطر.السبب الثاني هو أن واشنطن لا تريد نقل الحرب إلى الخليج أو فتح ساحة حرب في نقطة جغرافية تسيطر عليها وحيث تنتشر قواعدها العسكرية سواء في دول الخليج المختلفة أو الأردن، بمعنى أن أمريكا وإن لم تكن طرفاً رئيسياً في المواجهة مع إيران، إلا أن مصالحها (الأمنية والاقتصادية)، ستكون الهدف العسكري الأبرز.
أما السبب الثالث فيتعلق برفض أطراف عربية لفكرة المواجهة، وتحديداً العراق، الذي يقود وساطات سياسية لحلحة الخلاف مع طهران، وقطر المنفتحة في علاقاتها بشكل كامل، بالإضافة إلى مصر.
من الحرب إلى خفض التصعيد
مع الرسالة الأمريكية الواضحة برفض فتح جبهة حرب مع إيران، استدار محور الاعتدال بشكل ملحوظ وسريع نحو العدو ذاته، وجاءت الإشارات القادمة من واشنطن والداعية إلى خفض التصعيد السياسي والأمني ومحاولة رمرمة ما تبقى من العلاقات المشتركة مع طهران.أٌجهضت فكرة ناتو شرق أوسطي للمرة الثالثة، أو دعونا نقول إنها أُجّلت إلى أجل غير مسمى، ما يعني أن خفض التصعيد الحالي قد يؤجل المواجهة بين محور "الاعتدال" ومحور "الممانعة" في المنطقة العربية
وفي خضم قمة جدة، وصلت الرسالة إلى دول الاعتدال، ليفهموا أن مسألة المواجهة مؤجلة إن لم تكن ملغيةً في الحسابات الأمريكية، فسرعان ما أعلن مستشار الرئيس الإماراتي للشؤون الدبلوماسية، أنور قرقاش، في الـ15 من الشهر الحالي، بحث الإمارات مسألة تعيين سفير في طهران، مشيراً إلى سعي بلاده إلى إعادة بناء العلاقات مع طهران، مضيفاً أن النهج التصادمي مع إيران لا تدعمه أبو ظبي، وفقاً لـ"رويترز".
بعدها بيوم، وخلال مؤتمر صحافي على هامش القمة، أكد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، أن يد السعودية ممدودة لإيران، مضيفاً: "نحرص على الوصول إلى علاقات طبيعية معها، وهذا مرتبط بإيجاد حلول لمصادر قلقنا".
سريعاً أيضاً، فهم الملك الأردني حامل مشروع "الحلف الشرق أوسطي"، الدَرس، فعاد ليوضح ما قصده في حديث مع صحيفة "الرأي الرسمية" الأردنية، قائلاً إن "الأردن معنيّ بتعزيز العمل العربي المشترك وتفعيله، والأردن لم يكن يوماً، ولن يكون أبداً، إلا مع حلف أمّته العربية ومصالحها وقضاياها، ونتحدث عن الحاجة إلى منظومة عمل دفاعي مؤسسي عربي".
وأكد العاهل الأردني أنه "لا يريد توتراً في المنطقة، والأردن وكل الدول العربية تريد علاقات طيبة مع إيران مبنية على الاحترام المتبادل، وحسن الجوار، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها. ونرى أن الحوار هو السبيل لحل الخلافات".
إذاً، أٌجهضت فكرة ناتو شرق أوسطي للمرة الثالثة، أو دعونا نقول إنها أُجّلت إلى أجل غير مسمى، ما يعني أن خفض التصعيد الحالي قد يؤجل المواجهة بين محور "الاعتدال" ومحور "الممانعة" في المنطقة العربية، لكن ذلك لا يمنع حدوث مفاجآت صادمة عربياً بوجود دولة الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...