جربوا أن تفتحوا عيونكم على أي صورة لها، شاهدوها من أي زاوية، تماماً كما تفعلون مع لوحة الموناليزا، فلن تجدوا في النهاية سوى تفسير وحيد: إنها حزينة دائماً، تعيش المأساة وتستمتع بها يومياً، تبكي وتجرجر الفواجع والأحزان، ولم لا؟ أليست هي من لقبوها بـ"ندابة فرقة يوسف وهبي".
إنها تُجمد الصورة التي نحفظها عن النجوم على الشاشة، فنصدق مثلاً أن نجماً بحجم عبدالفتاح القصري أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، بالرغم من أنه تلقى تعليمه في مدارس اللغات، ونصدق أن فنانة بحجم نجمة إبراهيم قاسية القلب على الرغم من أنها في الواقع كانت عطوفة وحنونة، وأن نجماً بمكانة محمود المليجي جسور، مع أنه في الواقع كان يغمى عليه إذا شاهد منظر الدماء، ولكن هل يمكن أن نتخيل أن نجمة بثقل أمينة رزق تعشق الكآبة والحزن والنكد، وأن حياتها كانت بنفس اللون القاتم الذي عاشته على الشاشة، بالرغم من أن حياتها تحتوي على كثير من الصور التي تعاند تلك الصورة المحفوظة عنها، بل وتضربها في مقتل؟
منذ الصغر عرفتْ أمينة رزق كيف تثور وتتمرد، رغم كل ما واجهته من عنف وتعنيف، وسبق وكتبتْ مقالاً في مجلة "آخر ساعة" بتاريخ 17 آذار/مارس من عام 1935، بعنوان "أنا أعبد سعد باشا"، وتحدثت خلاله عن عشقها منذ الصغر لسعد باشا زغلول، لدرجة أنها كانت تعلق صوره في غرفتها، مضيفة أنها حين اشتعلت ثورة 1919 كانت تسارع للخروج في المظاهرات التي وقفت في وجه الاحتلال بكل شراسة، ورغم أن أسرتها كانت تمنعها من الخروج خوفاً عليها من رصاص قوات الاحتلال الإنكليزى إلا أنها كانت تتحايل في كل مرة وتخرج لتشارك في المظاهرات، حتى أنها رجعت ذات يوم إلى البيت مصابة من مظاهرة، ولكنها أكملت رحلتها مع النضال بعد الشفاء.
كتبتْ أمينة رزق مقالاً بعنوان "أنا أعبد سعد باشا"، وتحدثت خلاله عن عشقها منذ الصغر لسعد باشا زغلول، لدرجة أنها كانت تعلق صوره في غرفتها، مضيفة أنها حين اشتعلت ثورة 1919 كانت تسارع للخروج في المظاهرات التي وقفت في وجه الاحتلال بكل شراسة
وبحسب المقال الذي نشرته في أحد أعداد مجلة "الكواكب" لا تعرف أمينة رزق تحديداً اليوم الذي وقعت فيه في عشق التمثيل؛ كل ما تذكره أنها في مرة من المرات وبينما كانت في السادسة من عمرها ألحت على خالها الذي كان يعشق السينما والتردد على الموالد ومتابعة الفرق المسرحية بها، أن يصطحبها معه إلى المولد أو السينما، ورغم تخوف الخال من ردة فعل والدها الذي كان حازماً وصارماً، ويرفض أن تزور ابنته الموالد أو صالات السينما، إلا أنه فشل في رفض طلبها، واصطحبها معه للسينما التي كانت تعرض آنذاك "أفلام السلاسل"، وتجوب بها المحافظات. وبعد عودة أمينة علم والدها بما جرى، فما كان منه إلا أن هوى على جسدها النحيل بالكرباج، فأسرعت لتختبئ تحت السرير وتردد أن تلك "العلقة" كانت أحد أسباب إحجامها عن الزواج بعد أن كرهت صنف الرجال.
في مثل سنها كان من المنطقي أن تبتعد الطفلة أمينة رزق عن أي مصدر للألم النفسي والجسدي، وألا تحاول تكرار التجربة مرة أخرى، إلا أنها اكتشفت أنها غير قادرة على إخفاء حبها للفن، وطلبت من خالها أن يصطحبها إلى الموالد سراً لتشاهد الفرق المسرحية هناك، وتحملت في سبيل ذلك كثير من "العلق"، التي كانت تزيدها إصراراً في كل مرة، بالرغم من أنها استمرت لنحو عامين ولم تتوقف إلا بموت الأب وهي في عمر الثامنة.
في العام 1918 نجت أمينة رزق من محاولة قتل كانت السبب الرئيسى وراء رحيلها عن مدينتها طنطا في محافظة الغربية إلى العاصمة القاهرة.
وسبق وتحدثت أمينة عن تفاصيل تلك الواقعة وقالت إن زعيم عصابة إجرامية علم بوفاة والدها، وأخبره البعض بأنه ترك ثروة كبيرة، فقرر هذا الرجل أن يتخلص من زوجته وابنته أمينة ليحصل على الثروة قبل أن يذهب أفراد العصابة إلى والدة أمينة ويخبرها بمخطط رئيس العصابة لتغادر مع ابنتها فوراً إلى القاهرة وتبدأ أمينة في وضع أقدامها على أول طريق النجومية والشهرة.
الغريب أن أمينة رزق دخلت مجال التمثيل من خلال تجسيد أدوار الرجال وجسدت دور "الولد الأعرج" في مسرحية "راسبوتين" أمام يوسف وهبي. وبالرغم من أن الكل توقع فشلها في تلك النوعية من الأدوار إلا أنها تحدت الجميع وأكدت لهم أنها قادرة على تجسيد أى دور، وهو ما تأكد منه الكل خصوصاً بعد أن جسدت دوراً مغايراً ومخالفاً للصورة المحفوظة عنها أي دور الراقصة في فيلم " الدفاع" الذي عرض عام 1935، وقالت أمينة في حوار سابق لمجلة "الكواكب" إنها احتفظت ببدلة الرقص تلك حتى موتها.
كما جسدت أيضاً دور الراقصة في المسرحية التي اقتبسها يوسف وهبي عن "غادة الكاميليا"، وحققت فيه نجاحاً كبيراً لفت إليها الأنظار، غير أن المخرجين رفضوا أن يروا هذا الجانب في موهبتها وأصروا على حصرها في أدوار البنت المغلوبة على أمرها، وهو الدور الذي سيتطور لاحقاً بفعل الزمن ليجلعها تقدم أدوارَ الأم المغلوبة على أمرها.
واستمر الأمر هذا حتى بعد أن قدمت اللون الكوميدي وأبهرت به واحداً من أساطير الكوميديا في عصره نجيب الريحانى، وكتبت إحدى المجلات الفنية تقول: "أمينة رزق ضحية الحسب والنسب، وضحية حب أبيها وأنانيته، رقيقة وديعة كنسمات الفجر، ولعل هذا الدور يكون فاتحة أدوار أخرى بعيدة عن اللون المقبض الكئيب الذي اشتهرت به"، إلا أن المخرجين رفضوا تغيير جلدها وحصروها في نفس الزاوية الكئيبة.
لمحة أخرى من لمحات التمرد في حياة أمينة رزق تشكلت في المرحلة الأولى لانطلاقتها الفنية، حيث دخلت في مواجهة شرسة مع والدتها بسبب رغبة أمينة في ترك المدرسة والتفرغ للتمثيل، فيما أصرت الأم على أن تستكمل ابنتها تعليمها وأصرت الابنة على أن تهب الفن كل حياتها وألا يعطلها عنه أى شيء حتى وإن كانت الدراسة، وفي نهاية المطاف كانت الغلبة لأمينة المتمردة، التي رفضت الارتباط أيضاً، وأن تكلل قصة حبها بالنجاح بعد أن طلب منها حبيبها أن تضحي بالفن وتتفرغ لبناء أسرتها الجديدة.
كما كادت أمينة رزق أن تتسبب في أزمة دبلوماسية بعد أن أرسل إليها ثري عربى ذو مكانة كبيرة شخصاً يطلب يدها، لكنها رفضت طلبه بحدة، وتسببت فى إحراجه، وبالرغم من محاولة البعض إثارة الخوف في نفسها من رد الفعل إزاء تلك الخطوة إلأ أنها أعلنت أنها "بتعمل الصح من وجهة نظرها ومش بتخاف من حد".
وفي صفحات أخرى من ألبوم الصور التي يرفض الكثيرون الاعتراف بها عن أمينة رزق، سنجد أنها تمردت وظهرت تلعب كرة القدم التي كانت حتى قبل سنوات قليلة حكراً على الرجال، وتمردت وظهرت بالمايوه ولم تشغل بالها بهجوم الرجال على صورتها وكيف تلتقط صورة لها على الشاطئ بـ"تلك الجرأة"، كما تمردت حين تم إبعادها من الفرقة القومية للمسرح بحجة بلوغها سن الستين وأنها لن تكون قادرة على العطاء، وأثبتت للجميع أنها وحتى في التسعين من عمرها قادرة على إمتاع الجمهور وإدهاشه مع كل دور تقدمه، وكذلك كانت أول فنانة تترشح لعضوية مجلس الشيوخ،
وفي يوم الإعلان عن دخولها قبة البرلمان بدأ البعض يهمس بأنها لم تضف أي جديد، وخاضت أكثر من معركة لتعلي من شأن الفن المصري، وتحافظ على مكتسبات فنانين مصر مطالبة بمزيد من الخدمات والحقوق لهم، أما تحديها الأكبر فكان وقوفها أمام كل من وصفها بأنها "عدوة الرجال" بعد أن رفضت الزواج وفضلت أن تهب حياتها للفن، حيث كانت في كل مرة تدافع عن وجهة نظرها وتؤكد أنها لا تخشى لقباً كهذا لأن الرجال هم من لفظوها وأبعدوها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...