احتفل الجزائريون في الخامس من تموز/ يوليو الجاري بانقضاء ستين عاماً على استقلالهم بدولتهم الوطنية. وهو يوم الإعلان عن نتيجة استفتائهم على اتفاقات إيفيان، المدينة السويسرية التي استضافت مفاوضات طويلة بين وفديْ الدولة المستعمِرة وجبهة التحرير الوطني، الحركة المقاتلة منذ الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954.
وقبل تمام الأعوام الستين، شهدت الجزائر، منذ يوم الجمعة في 22 شباط/ فبراير 2019، وطوال عام قطعه تفشي وباء كورونا وإجراءات حجر السلطة واعتقالاتها، حراكاً اجتماعياً وسياسياً عريضاً سمّاه الجزائريون "الحراك"، من غير إضافة ولا إيضاح. ودعا الحراك جزائريين ومراقبين غير جزائريين، تشد بعضهم (من الفرنسيين) إلى الجزائر وأهلها وتاريخها ميول وعواطف وأواصر كثيرة وقوية، إلى تناول الظاهرة السياسية والاجتماعية البارزة، الأبرز منذ الاستقلال على رأي بعضهم، وإدراجها في سلسلة الانعطافات التي تعرّف، على وجوه مختلفة، سمات تاريخ الجزائر المعاصر.
فذهب أحدهم، بنجامان ستورا ("شيخ" المؤرخين الفرنسيين المولودين في الجزائر عشية الاستقلال)، إلى إنزال 22/2/2019 في عداد "أيام" أو معالم سابقة وتاريخية: 8 أيار/ مايو 1945، يوم مجزرة سطيف وقصف سلاح الجو الفرنسي أهالي المدينة وتكبيدهم آلاف الضحايا، و1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، يوم اندلاع حرب التحرير والاستقلال، وأيام تموز/ يوليو 1962 واحتفال الجزائريين باستقلال استخلصوه من آلامهم، وأحيوه بالأفراح، قبل أن يسرقه منهم نظام وليد وساحق )في كتابه: "استعادات تاريخ/ الجزائر بعد بوتفليقة" 2020، دار بايار، باريس).
وعلى هذا، يتصور اليوم الأول من الحراك الجزائري، على قول ستورا، في صورة عودة إلى اشتراطات حرب الاستقلال على نفسها وآمالها، قبل مبادرة أنظمة "طليعية" وقاهرة إلى خنق الاشتراطات والآمال هذه. ويبعث الحراك، من ناحية أخرى، تاريخ نزع الاستعمار وتصفيته، ورهانات هذا التاريخ على اضطلاع شعوب شمال إفريقيا بدور راجح يتخطى حدود المنطقة إلى العالم الأوسع.
وأجهضت "دول" الحزب الواحد، وأنظمة الأحلاف العائلية والاشتراكية المخصخصة، على قول بانجامان ستورا، هذه التوقعات. وتجدد الحادثة، الحراك، تاريخاً قديماً، سبق الحرب العالمية الثانية، مداره على استقبال الحداثة، على وجهيها النقيضيْن والمرغوبيْن، الوجه الملائكي الجميل والوجه الإبليسي الكريه. ولا تقتصر الحوادث أو المعالم المستعادة، على وقع الحراك وأصدائه، على السيرة الاستقلالية، فمَعْلما "الربيع البربري" (الأمازيغي) في 1980، وانتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1988 التي أنهت عهد حزب جبهة التحرير الوطني، صبغا بعض عناصر الحراك بصبغتيهما.
ولادة قبائلية
والاستعادة الجزائرية ليست عودة ولا حنيناً. واضطلاع الشباب الجزائري، نساءً شابات ورجالاً شباناً، بشطر غالب من المشاركة في المسيرات الأسبوعية، ومن أفكارها وكلماتها ونبراتها، باعد بينهم وبين الاستغراق في ذاكرة "نقودٍ مزيفة"، على قول سارتر في بعث المواضي المجيدة، الفردية والجماعية، والثورية. وصَرَف همهم إلى بعث الاتصال والدوام في نسيج تاريخي متقطع ومتهتك، وتجديد عرى الخيوط بعضها ببعض وتخليص بعضها من بعض سعياً في جَسْرِ طرق نحو جلاء حقائق ووقائع تاريخية مهملة أو محرفة.
وحركة الاحتجاج الكبيرة ولدت في منتصف الشهر الثاني من 2019 في بلدات منطقة القبائل وجبال الأوراس. وآذن بولادتها، وخطوها خطوتها الأولى، إقدام مواطنين على نزع صور عبد العزيز بوتفليقة (1937-2021)، رئيس الجمهورية يومها منذ العام 1999 من غير انقطاع. وتناقلت وسائط التواصل الاجتماعي شريط الحادثة. ودعا بعض أهل هذه الوسائط إلى التظاهر تنديداً بترشيح الرئيس المزمن، والمريض المقعد والأخرس منذ عقد من السنين، إلى الانتخابات الرئاسية الوشيكة.
وصادف وقوع يوم الجمعة التالي ذيوع الشريط، يوم الصلاة الجامعة، في 22 شباط/ فبراير. فخرج عشرات آلاف الجزائريين من المساجد، بعد الصلاة، في مدن الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة وعنابة. ودأب المتظاهرون، مذذاك، على التعقيب على الخروج من صلاة كل جمعة ظهراً بالتظاهر. وبين الجمعة والجمعة، تظاهر في أيام الأسبوع طلاب الجامعات والمدارس الثانوية وبعض الشركات (وعلى هذا، قد لا يكون التظاهر بعد الصلاة في المسجد "وصمة" في سجل المتظاهرين "الثقافي"، ودليلاً على كذب احتجاجهم، على خلاف فتوى مدنية وزمنية أفتى بها بعض "الآيات" المفكرة).
وكان هذا فاتحة مرحلة تاريخية بارزة. فالتعبئة العريضة التي تجلّت في التظاهرات لا سابق لها. وتتخطى، عرضاً وشمولاً وعدداً، تظاهرات القبائل في نيسان/ أبريل 1980، الأولى بعد الاستقلال. وتتعدى انفجارات تشرين الأول/ أكتوبر 1988، الاجتماعية والمتنقلة بين المدن الكبيرة. والحادثتان هاتان أدتا، في 1992، إلى إقرار التعدد الحزبي، على خلاف الحزب الواحد الحاكم، وحرية الصحافة، معاً.
أجهضت "دول" الحزب الواحد، وأنظمة الأحلاف العائلية والاشتراكية المخصخصة، على قول بانجامان ستورا، التوقعات التي كانت معقودة على الحراك الجزائري
ولبى مئات الآلاف من المتظاهرين نداء حسين آيت أحمد، أحد وجوه حركة الاستقلال التاريخيين ورئيس جبهة القوى الاشتراكية، إلى المسير السلمي، والمطالبة بدولة ديمقراطية، وإعلان التحفّظ عن جبهة الإنقاذ الإسلامية وانتصارها الانتخابي القريب. ولم يسبق، منذ الاستقلال، أن مشى جمهور مثل هذا في شوارع المدن. وتحطمت الآمال الديمقراطية على صخرة حرب أهلية مروّعة دامت "عشرية دامية" و"سوداء" حالكة، وقتلت عشرات الآلاف، ومزقت الجزائريين.
السلطة والولاء
وقد لا تقتصر تظاهرات 2019- 2020 على التوجّه على الماضي القريب، والأبعد، بالسؤال عن انقساماته. وهي تلتمس سبلاً قد تفضي إلى وحدة الجزائريين، وإجماعهم على مصير ومستقبل مشتركين. ويردد شمولها المدن الصغيرة، في الأرياف وعلى أبواب الصحراء، حيث حياة الناس خرساء، أصداء التظاهرات والمهرجانات التي خرجت إلى استقبال مِسّالي الحاج، "بطل" استقلال الجزائر وداعيته الأول، في 1952.
ويُلاحظ، من غير شك، أن الحراك تقلّص بعض الشيء عشية الانتخابات الرئاسية، في كانون الأول/ ديسمبر 2019. وكان "الحراك" دعا إلى مقاطعة انتخابات الرئاسة. وظهر العَرَض أول ما ظهر في المدن الصغيرة والدوائر التي يقل عدد ناخبيها عن 70 ألف ناخب. فالمواطنون الناخبون سألوا: متظاهرو وهران والجزائر العاصمة وبجاية (دعاة المقاطعة) لهم رأيهم وعللهم، ولكن البناء على الحال المعلّقة هذا مستحيل، ولا غنى عن رئيس للجمهورية!
ويشخص محمد مبتول، الباحث في الاجتماعيات، نازعاً جزائرياً قوياً إلى "الزعيمية"، أي إلى اعتقاد راسخ بأن الحكم ينبغي أن يعود إلى قائد واحد لا تنكر سلطته، وقوة الحركة الثورية، على وصف بانجامان ستورا الحراك، وعمقها لا يمحوان ولا يجبّان، على قول الأثر النبوي، الماضي التاريخيّ، وعلى الخصوص العلاقة بالسلطة، وغلبة نظام الولاء الزبائني، ودوام التسليم القومي.
وشهدت تظاهرات 2019 عودة النساء، الشابات الطالبات الجامعيات والثانويات، إلى مقدمة المسرح الثقافي والسياسي. والنساء حزمن أمرهن على تنحية الإقصاء الاجتماعي وتسلّط الرجال، وصرن مناضلات جمعيات وروابط، ومواطنات فاعلات ومسؤولات سياسيات، ومديرات شركات ومنشآت.
وكنَّ توارَينَ، منذ 1983 ومعركة قانون الأسرة. وغلب على تناول قضاياهن التنبيه إلى الإخفاق الاجتماعي، ومعوقات المساواة والاختلاط. ولا تغفل المتظاهرات عن أن جدّاتهن، في أثناء حرب الاستقلال وبعدها، تعثّرن وهن يحاربن تقاليد النظام الأبوي البطركي، والتحصّن العائلي، والنواهي الاجتماعية والدينية البائدة.
الفواصل
وبروز النساء، مادياً أو جسدياً ومعنوياً، يقلق لا محالة شطراً من الجزائريين، وقد لا يكونون قلة. وليس بروز النساء الباعث الوحيد على القلق. فبعض الجزائريين لا يرغب في ضعف الجيش آن تتكاثر العمليات الإرهابية على حدود الجزائر، في مالي والنيجر وليبيا، (ويتجدد الخلاف المزمن على الصحراء الغربية مع الغرب، وتتردد أصداء القضايا الكبيرة في الأحلاف الدولية). ويتعاظم الخوف عليه، وعلى دوره الوطني التوحيدي، بينما تتوالى أعراض أزمة الرابطة أو العروة الوطنية، ولا تتستر عليها الإرادات المحلية والبلدية، والنزعات الانفصالية. ويدل تاريخ الوطنية الجزائرية، قبل الاستقلال وبعده، على إيلاء الطبقات الحاكمة مشكلة التماسك الوطني محل الصدارة من اهتماماتها ومشاغلها. وكانت "اليعقوبية" المركزية والمتزمتة جواب السلطة عن النازع، "الوطني" هو الآخر، إلى الانفصال أو الانكفاء.
والحراك منعطف تاريخي من وجه آخر. فهو العامل الذي أجلى الرئيس بوتفليقة عن كرسيّ الرئاسة في أثناء ولايته. ولم يسبق من قبل أن أنهى رئيس جزائري ولايته الأخيرة. فاضطر الرؤساء إلى ترك المنصب إما بسبب انقلاب أو بسبب مناورات سياسية. ففي 1965، ثلاثة أعوام بعد الاستقلال، عزل هواري بومدين بن بلة بواسطة انقلاب عليه.
"‘كلهم برّا!’ (أو: ليرحلوا جميعاً!) هو مرآة قصور المجتمع الجزائري عن صنع نخب سياسية في مقدورها صوغ برامج سياسية بديلة. وقد يُشك في تستر الإجماع الظاهر، من غير برنامج واضح، على تصدّعات داخلية عميقة يضمرها مجتمع الجزائر أو يبطنها"
وفي 1992، حل الشاذلي بن جديد الجمعية الوطنية (النيابية)، واستقال ليقطع الطريق على الإسلاميين وانتصارهم الساحق في الانتخابات. واغتيل محمد بوضياف، خالف بن جديد على الرئاسة، في 1992. وترك اليمين زروال المنصب، في 1999، مختاراً قبل أن يبلغ نهاية ولايته. أما في 2019، فالشعب الجزائري هو مَن عزل بوتفليقة، وحال دون ولايته الخامسة. وبوتفليقة من العلامات التاريخية على "طريق" الجزائر.
ويدعو تسارع الحوادث، من إخراج بوتفليقة إلى سجن معظم أعيان النظام، تحت وقع التظاهرات العارمة، إلى التساؤل عن محل "الحركة الشعبية" من تاريخ الأمة الجزائرية المديد. فلم تفارق أمواج التظاهر المتجددة إحالات متكررة إلى الحوادث الماضية، وتأويلات وتعليقات استأنفت منازعات ومناقشات إيديولوجية شقت صفوف الاستقلاليين إبان حرب "التحرير".
فاستعاد المتظاهرون في شعاراتهم وكتاباتهم، على هامش المسيرات وملابساتها السياسية والأمنية اليومية، الدعوة إلى فصل الشؤون السياسية من الشؤون العسكرية وذكّروا بنهاية أو إنهاء تعدد التيارات الوطنية، في بداية حرب الاستقلال، وإلزام هذه التيارات بالانقياد إلى وحدة قاهرة سوّغتها ضرورة القتال ضد عدو قوي.
ولم يكتم شطر من الحراك خشيته من هزيمة الحركة الثورية، إذا اضطر إلى المساومة مع السلطة ومفاوضتها على حلول ظرفية وداهمة. ومن هذا الجانب، أفضت المداولات والمناقشات، اليومية والراهنة، إلى فحص دقيق عن شروط نشأة الدولة الوطنية، ومشكلاتها ونقائضها (أو "تناقضاتها")، في خضم حرب الاستقلال وثناياها. ولعل هذا الوجه من الحركات الوطنية والشعبية، في البلدان العربية والجوار الإسلامي، من أقل الوجوه حظوة بانتباه "رأي عام"، أو متوسط العمومية، في البلدان الأخرى.
أمة المركز
فانتبه المتحاورون والمناقشون إلى أن نواة البيروقراطية، أو البنية الأمرية والإدارية السياسية التي تتسلط على المرافق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتسوسها من فوق ومن خارج، نشأت مع بناء جيش منظم، على الأراضي الجزائرية وعلى الحدود القريبة خارجها، على أنقاض أحلاف كتل سياسية وعائلية أهلية تجمع، من غير وحدة، ولا برنامج، زمراً من المتذمرين.
وعلى هذا، فالسلطة المولودة من قتال السيطرة الاستعمارية، حال نزولها من الوطنية الجزائرية منزلة القلب والوسط، سعت في إلغاء السلطات، والمراجع أو الأنصبة "الطرفية" (الأهلية والاقتصادية والمهنية والدينية...) الأخرى، وفي دمجها وامتصاصها. فأتمّت "الدولة" الاستقلالية، في أثناء الحرب وبعدها، ما ابتدأه السلطان الاستعماري، واستفرغ فيه جهداً هائلاً لم يخل يوماً من العنف والقهر.
وتولت الدولة المركزية هذه صناعة الأمة الجزائرية على صورتها ومثالها. ولم يحتسب الهيكل الإداري الكثرة الاجتماعية والثقافية والسياسية. فأعمل فيها نازعه إلى التجانس والتمهيد. وحمل المجتمع الجزائري على حداثة وعقلنة ظاهرتين، في أثناء العقد السابع من القرن الماضي. وغلبت قدرته على تأطير البشر، وتوحيد معايير سلوكهم، قدرته على تنمية الموارد الاقتصادية والإنتاجية. وقَمَع الأقليات، الأمازيغية والقبائلية على وجه الخصوص.
وأجمعت الجماعات التي أقصاها الاستعمار الفرنسي أو همشها على دور الدولة المتسلطة، فأوكلت إليها صنع الأمة، والإجماع هذا هو بعض الإرث الاستعماري ودولته المركزية واليعقوبية. فثورة العقد السادس من القرن العشرين أخرجت الاستعمار الفرنسي من الجزائر، واضطلع الاستقلال في العقد الثاني بتصفية آثاره. وأرسى الاثنان، الثورة (الحرب) والاستقلال، دولة مركزية صارمة. وعُهد إلى منصب الوالي (المحافظ، في المصطلح المشرقي) بتمثيل الدولة في الولايات أو المحافظات.
ولم يسع الحراك، على رغم دوامه المنتظم ومسالمته المدهشة، إلى إنشاء قطب نقيض مركَّز، أو مركزي وواحد، نظير قطب السلطة، المتماسك رغم ضعفه. وهو بلغ نهاية شوطه حين ظهر عجزه عن اقتراح إوالية (ميكانيزم) أو سيرورة انتقال سياسي واضحة تقلّص شعور الجزائريين بالتخبّط وهم يستقبلون زمنهم المشترك الآتي.
و"كلهم برّا!" (أو: ليرحلوا جميعاً!) ليس جواباً شافياً. وهو، من وجه آخر، مرآة قصور المجتمع الجزائري عن صنع نخب سياسية في مقدورها صوغ برامج سياسية بديلة. وقد يُشك في تستر الإجماع الظاهر، من غير برنامج واضح، على تصدّعات داخلية عميقة يضمرها مجتمع الجزائر أو يبطنها. وتتناول الشروخ هذه الموقف من اقتصاد السوق، ومن الأبوية البطركية وقانون الأسرة، وعلاقة المواطنة ("المواطنية") بالدين.
خلافة الحراك
والحراك، في ميزان العقود التي سبقته وملابسات انعقاده وسيرته الطويلة والقصيرة معاً، اتفق مع خروج البلدان "المتحررة" والمستقلة من وضوح عالم القطبين وصفو قومية أو وطنية استقلالات العقد السابع. وصاحَبَ الخروج المتنازع والمضطرب هذا فشلُ سياسات التنمية وانفجارُ أزمة "المحركات الإيديولوجية" الفاعلة من إشتراكية وقومية وعروبية وحدوية، واستنفادُ الدول الخالفة على الحقبة الاستعمارية مواردها ومشروعيتها، إلى القضايا والمشكلات المتخلفة عن اللبرلة الاقتصادية وعولمتها واستراتيجيات الطاقة.
فلا محل للشك في ابتداء دورة تاريخية جديدة، ولا في إيجابها معاييرها وتحدياتها ومسالكها. وعلامات الاستدلال المعهودة، في العالم العربي، موروثة من عصر الدولة- الأمة، وطموحها إلى توحيد مجتمعاتها، وتنمية مواردها، وتحديثها أو عصرنتها في مسيرة منضبطة وجامعة. والحق أن هذه العلامات ذوت وتآكلت. وتنزع المجتمعات، حين تواجه دوائرها أو مرافقها الذواء والتآكل هذين، إما إلى التصلّب والانكفاء القوميين، وإما إلى معالجة مسألة تعريف نفسها على نحو مختلف.
وينكر التمسك بـ"الروايات" القومية "العظيمة" والمستقيمة كثرة الاختبارات المجتمعية، وتناثرها، وتناقضها، واستحالة إدراك العالم وأحواله بواسطة "الروايات" هذه. وتخفُّف تاريخ المجتمعات (العربية) من طغيان الحقبة الاستعمارية الطويلة ومن ذرائعها، والانكباب على تاريخها منذ استقلالها، قمينان ربما بجلاء هذه المرحلة في صورة انتقال صوب مستقبل يخلط الآمال والانتظارات بالآفات المتوقعة والحنين إلى الماضي.
وتضطر هذه المجتمعات، ودولها، إلى احتساب رغبة الأفراد في قيامهم بأنفسهم على نحو يتخطى ما كانوا عليه. وهم يعلنون ميلهم من طريق استهلاك الصور وإقبالهم على الإعلام والسفر، وطلبهم كثرة المصادر والتمتع بالحقوق. وهذه النزعات، مجتمعة، تضعف المثال العائلي، ومثال الجماعات العريضة والمتماسكة، الأهلية والدينية والتقليدية.
ويتناول بانجامان ستورا ظاهرة "الحراقة"- وهم المهاجرون غير الشرعيين من بلدان المغرب، أو المغارب، الذين يحرقون قوارب هجرتهم حين يشرفون على سواحل مهاجرهم تفادياً لإعادتهم إلى بلدانهم- تصديقاً لتشخيصه "الفردي". فهم لا يهاجرون باسم عائلتهم، أو حيّهم، أو قريتهم، بل باسمهم، واحداً واحداً. والأسرة ضمرت، وتميل إلى الاقتصار على تجديد قوامها العددي والمادي، على ما انتبه الديموغرافي الفرنسي فيليب فارغ منذ مطلع الألفية، في كتابه "أجيال عربية". وتقام العبادات الدينية على صورة علاقة ثنائية فوق القيام بها على نحو شعائري وجمعي. وليست الدولة وحدها مَن يتولى حماية الأمة، فمثل هذا الدور يتولاه، إلى الدولة، المجتمع المدني...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...