شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ليلة عاشها الجزائريون بعد حبسة الكورونا

ليلة عاشها الجزائريون بعد حبسة الكورونا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 19 يوليو 202211:00 ص

وقف المغني الجزائري أمين بابيلون أمام جمهور سهرة اختتام "ألعاب البحر الأبيض المتوسط" بمدينة "وهران" غرب الجزائر، ولم يكد يؤدي نصف الأغنية حتى ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات، نصفها ساخر والآخر عبّر عن خيبته جراء الأداء الهزيل لصاحب إحدى أهم الأغاني في البلاد خلال العشر سنوات الأخيرة، "الزينة"، التي تصدّرت سنة 2011، وحقَّقت نجاحاً عالمياً، وتم استعادتها بعدّة لغات وفي عدّة دول.

بدا "الدكتور أمين"، وهو طبيب أسنان، مستاءً في اللقطات المقربة، التي بثها التلفزيون الوطني للسهرة التي انتظرها الجميع، وهو يبحث عن طبقة صوته الأنسب للآلات الكثيرة التي تعزف خلفه في انسجام ورقي لحن أغنيته الأشهر على الإطلاق، بل نجاحه الموسيقي الوحيد، حتى بعد أن افترق عن فرقته، محتفظاً باسمها خلف اسمه الشخصي.

لم يفهم المتابعون ما الذي حصل على وجه التحديد، هل أصيب بالارتباك أمام العدد الكبير للحاضرين، أم لوقوفه أمام جوقة سمفونية متناغمة مشكّلة من 110 عازفة وعازفاً، منهم/ن سبعين جزائرياً وأربعين من مختلف الجنسيات الأوروبية، يقودهم/ن الموسيقار والطبيب سليم دادة، وهو الذي اعتاد على تأدية أغنياته رفقة جوقة لا تتعدى ستة أفراد، وكثيراً ما اشتكى لوسائل الإعلام الوطنية من المعاملة "الدونية" التي يتعامل بها معه القائمون على المهرجانات الكبرى في البلد، كـ"جميلة" و"تيمقاد" مع الفنانين الجزائريين، مقابل ما يحظى به الفنانون الأجانب من توفير ظروف تقنية مناسبة، ما دفعه لمقاطعتها.

فلماذا الارتباك الآن؟ هل لأن صوته لم يكن يصله بنقاوة لعطب تقني ما، أو ربما كانت تلك حدود صوته فعلاً ولا يجب أن يخرج أداؤه عن جدران الاستوديوهات الموسيقية، ذلك ما تبادر إلى ذهني أنا أيضاً.

"اللايف يفضح الأوتوتيون"

لم يصدر أي تصريح عن المغني، ولا أي تعقيب عما حدث، كما أن الواضح من خلال الصور التي تناقلتها الكثير من اللايفات من داخل الملعب، حيث جرى حفل الاختتام، حالة البهجة التي عاشها الجمهور الذي جاء متحمساً لحضور حفل سيؤدي فيه ثلة من المغنين المشهورين في البلاد، وراح يكرر "الزينة"، التي باتت رديفاً لأفراح الجزائريين بتنوعاتها، من أعراس، ونجاحات، هي الأغنية البسيطة ذات الإيقاع الهادئ، والتي تدفع الجميع للانخراط في ترديد كلماتها تلقائياً.

كان التعليق الأكثر تردداً، هو: "اللايف يفضح الأوتوتيون"، حتى بعد انتهاء الحفل الذي وقع آخر أغنياته الشاب مامي.

صاحب أغنية "الزينة" الأكثر شهرة في الجزائر منذ عام 2011، وقف بأداء رآه البعض هزيلاً، واستغرق وقتاً يبحث عن شيء ما، ربما عن طبقة صوته، وربما لأن صوته لم يكن نقياً بسبب عطب تقني ما، أو ربما كانت تلك حدود صوته فعلاً، ولا يجب أن يخرج أداؤه عن جدران الاستوديوهات 

أمام الجوقة السمفونية نفسها، بقيادة موسيقار جزائري آخر هو فريد عوامر، وقف مغني الراي الشهير شاب مامي ليردد أغنيته الشهيرة "بلادي هي الجزائر" التي صدرت من عقود طويلة، وركبت كلماتها على لحن أغنية ذائعة الصيت أيضاً: "شيهلة لعياني".

صدح مامي دون خوف أو خجل، بدا جد مرتاح، بل أخذ يكرر مقاطعاً، ويتحرك على الركح، مطوعاً حتى قائد الجوقة الذي صار يستدير في كل مرة ليسأله إن كان بصدد إعادة "كوبليه" ما حتى يتمكن من اللحاق بأداء صاحب الصوت المخملي. بدا انقطاعه عن الظهور العام منذ أن تعقبته الفضائح، بدءاً بقضية الاعتداء على خليلته السابقة، وحتى انضمامه لقاطرة العهدة الرئاسية التي لن ترى النور أبداً، كما لو دام مجرد لحظة، بل كما لو أن الجماهير قد جاءت للاستماع إليه هو فقط لا غير. مرة أخرى، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن للثناء على صاحب الدويتوهات الأسطورية، مؤكدة على الفرق بين "الحنجرة الألماسية النقية والمصطنعة".

بدا الفرق شاسعاً بين الصوتين، والمفارقات سيدة السهرة التي أعلنت عودة الحياة إلى البلاد بعد سنتين من الإغلاق بسبب أزمة الوباء العالمي.

أصوات مصطنعة

مامي الذي لم يتجاوز تعليمه المراحل الأساسية، والقادم من تكوين "رايوي" (نسبة لموسيقى الراي)، يحسب اليوم على كبار هذا الفن، الذي لم يتوقف عن تجديد نفسه، والذي عرف استهجاناً رسمياً وشعبياً لعقود طويلة، قبل أن يتم الاعتراف به جزئياً (رسمياً وجماهيرياً أيضاً)، في حين أمين بابيلون دكتور أسنان، في سن أبناء الشاب مامي، قادم من تكوين موسيقي هاوٍ، متأثر بالعديد من الألوان الموسيقية، دون اعتناق لأحدها ولا ريادة لون جديد فيها. حقق النجاح الجماهيري والرسمي منذ انطلاقته (وإن تزامنت الانطلاقة مع لحظة النهاية على ما يبدو، فكل ما أنجزه بعد أغنية "الزينة" لم يعرف رواج النجاح الأول، ولا حتى جزءاً منه).

غنى مامي في حفلات الأعراس والسهرات، وتشهد مشاركته في إحدى البرامج التلفزية في سن الرابعة عشر على ألمعية صوته، قبل أن يتحول إلى نجم لا يأفل رغم كل الظروف المحيطة، حتى قبل أن "يعتّب" باب الاستوديوهات.

في حين جاء أمين بابيلون وزمرته في زمن شيوع الأتوتيون، ومستنسخاته الأكثر تعقيداً وتطوراً، من الأقل تكلفة حتى أغلاها، مختصرين تطورهم الفني من الاستوديو إلى الشبكات الاجتماعية مباشرة، دون حاجة لـ"سلاسل التوريد" التقليدية، في بلد لا وجود فيه لصناعات ترفيهية مؤسسة، وحيث تجد الأصوات المصطنعة رواجاً كبيراً منذ عقد تقريباً، بل إن الأصوات المصطنعة صنعت لنفسها تياراً موسيقياً لوحده.

الواي واي

من مفارقات الحفل الطريفة هو استهجان بعض الحضور لبعض المقاطع، والمعزوفات الفيلهارمونية، التي بدت طويلة لجمهور عاش على وقع منافسات رياضية لأزيد من عشرة أيام، كتلك التي أشرفت عليها المايسترو الجزائرية زاهية زيواني، حيث أظهرت بعض الفيديوهات التي تداولتها الشبكات الاجتماعية ترديد بعض المراهقين/ات أغاني تحسب على ما يعرف في البلاد بموجة "الواي واي"، وهي تفريع لموسيقى الراي، ظهرت بوهران تقريباً في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، لترفع سقف تمجيد المحظورات الاجتماعية، مزايدة على الراي التقليدي.

في الليلة الأولى التي يتنفس فيها الجمهور الجزائري بعد حبسة الكورونا، ظهرت أصوات تمثل أنواعاً موسيقية محبوبة ومسموعة، ولقيت جدلاً كبيراً على السوشال ميديا، حميمياً وساخراً

لم يحتج رواد هذا النوع لإثبات أنفسهم لا موسيقياً ولا صوتياً، في ظل توفر البدائل من تكنولوجيا حديثة، بدءاً من تلك التي تحسن الصوت، وتجعله مستساغاً، ومعدنياً في بعض الأحيان، والتي حولت لاعبي بعض الآلات وحتى "ديجيهات" إلى مغنين (كـ "ديجي مولاي" و"هشام السماتي") تردد أغانيهم كتعاويذ، مروراً بالكاميرات البسيطة أو الأكثر تعقيداً التي تخول تصوير الأغاني داخل استوديو الغناء، دون الحاجة لتصوير كليبات معقدة، وما تتطلبه من ميزانيات ضخمة، وانتهاء بنقلها إلى "الكوكب الموازي" حيث يعيش الجمهور المستهلك لهذا النوع من الموسيقى تحديداً، يكفر بها علناً، ويضاعف عدد مشاهداتها سراً، فاتحاً لمؤدييها آفاقاً غير مسبوقة في الشهرة والثراء.

لقد درجت صناعة الترفيه على استيعاب الكثير من الأمور التي لم تكن مقبولة في فترة من الفترات، كالأصوات المتوسطة، ليتم دعمها بالرقص واللباس بغية صناعة عروض متوازنة، إضافة لتقنيات الـ"بلاي باك"، إذا تمكنت من خلق الحالة الجمالية المرجوة.

ولكن يبدو أننا في الجزائر أمام حالة فريدة في تعويض صناعة الترفيه، بالوسائل المتاحة، وخلق حالات جمالية ضرورية للتمسك بالحياة في غياب استراتيجيات تطوير فنون ودعمها واضحة المعالم. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard