شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ثلاث صور لمجرمين

ثلاث صور لمجرمين "منوّرين" على الشاشة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 29 سبتمبر 202203:14 م

الرجال العاديون جداً يمكن أن يتحولوا إلى قتلة جماعيين، إن توفرت الظروف المناسبة. هذه فكرة طرحها كتاب "رجال عاديون" لكريستوفر براونينغ، مستعرضاً حياة مجموعة من الرجال العاديين في بولندا، فترة الأربعينيات، تحت الحكم النازي، رجال تحولوا من صالحين أصحاب قلوب رحيمة، يشبهوننا إلى حد ما، إلى مجرمي حرب في المعسكرات النازية.

هل ذلك ممكن؟

"الإنسان يرفض بشكل مبدئي قبول الشر بداخله مثل الخير، وأنه يشبه قطعة نقدية واحدة بوجهين مختلفين، لأن فطرته وقبوله الأولي في عائلته، ثم المجتمع يتوقف على مدى تمثيله للخير"، يقول الدكتور فريد بدر الدين، طبيب نفسي مصري. ثم أوضح أن جوهر الأزمة عند الإنسان قد تكون بسبب حسن ظنه المبالغ فيه بنفسه، والأمر لا يقتصر على القتل.

في كتاب "رجال عاديون" نجد أنهم نفس الرجال الذين ذبحوا الرجال بوحشية، وحرقوا النساء أحياء وقت وضعهن لأجنتهن، وأبادوا الأطفال.

التغيير لا يحدث مرة واحدة

ظهور الوجه الثاني للعملة النقدية أمر وارد، وسهل، ويكمن سرُّه في فكرة بسيطة شديدة الوضوح والتعقيد، وهي "التدرج". فالشرارة الأولى هي المحرك الأول لنهاية نسختك الطيبة الأولية، فالتغيير لا يحدث مرة واحدة، بحسب بدر الدين.

بعد انتشار حوادث القتل في الشارع المصري، خاصة نيرة التي ذبحت على مرأى من الناس أمام بوابة جامعتها، انتشرت دعاوى منع ومصادرة بعض الأفلام والمسلسلات، والصادرة حتى من بعض المثقفين، بحجة أنها تعزز الجريمة، مثل "عبده موتة"، وتلك التي تستعرض الدماء والسيف والسكاكين، وهو ما انتقده الناقد السينمائي طارق الشناوي في مقال له.

يسخر الشناوي من تلك الدعاوى، قائلاً: "هم يريدون أفلاماً تذكرنا بما كان يقدمه المخرج إبراهيم عمارة، الذي كان ينهي عادة أفلامه بآية من المصحف الشريف، تدعو الناس للعمل بالحسنى، ذكر الله، وإقامة الصلاة".

تذكرت كلمات الدكتور فور إنهائي لمقال الشناوي، وتساءلت: هل يريد هؤلاء، الداعون إلى منع أعمال لأبطال قتلة ومجرمين، أن يحتفظوا بوجه واحد للعملة: الخير؟

نستعرض مع الدكتورة هناء سليمان طه، مدرسة لغة عربية في كلية الآداب، ومؤسسة نادي السيناريو الحر في الشارقة، 3 أعمال، بعيداً عن الأثر الأخلاقي، تناولت هذا التحول، وعن المجهود والحيل الفنية التي وراءه لإقناع المشاهدين بوجود وجه العملة الثاني: الشر.

وجهنا الشرير المدفون

تتفق هناء مع بدر الدين في أن التحول الذي يصيب البطل يأتي بالتدريج، فأكبر تحدٍّ لكاتب السيناريو وقصة الفيلم أن يقنع المشاهدين المحمّلين بوجهة نظر مبالغ بها عن الخير في أنفسهم، بتحولات الشخصية الرئيسية ودفعهم إلى التعاطف معها.

تقول هناء: "أهم قواعد كتابة السيناريو الذي يطرح الجرائم أو يدور حول الشخصيات الإجرامية هي قدرة الكاتب على دفع المشاهد إلى التعاطف مع بطله، لذا يعرض كل جوانب الأزمات في حياته، يتدرج معها البطل من حالة إلى حالة".

وفي حال نجح الكاتب في خلق التعاطف، الناتج عن اقتناعكك بالدوافع، سينجح في جعلكم تحبون بطله، وإن أحببتموه تقبّلتم منه كلَّ شيء، وبعد تقبّلكم المطلق له قد تغيب الدوافع دون أن تشعروا، لأنكم توجهتم وامتلأتم بفكرة أن الجريمة هي الحل، وهذا ما يسمى بالتوحد مع البطل، فبمجرد افتراضكم بأنكم محله سيعانق وجهكم الأول "الطيب" وجهكم الثاني المدفون تحته "الشرير" بسلاسة.

“العار": صُورة المجرم "مُنوّرة"

يبدأ فيلم "العار" بالحاج التقي عبد التواب، تاجر عطارة معروف بالتقوى، يسافر إلى الإسكندرية للاتفاق على صفقة مخدرات، يدفع فيها ثروته كلها، باعتبارها صفقة العمر، وعند عودته إلى القاهرة يلقى مصرعه في حادث على الطريق.

ينهار أبناء الرجل الأربعة وزوجته إثر وفاته، وتكشف الأحداث أن كمال (نور الشريف) أكبر أبناء عبد التواب، هو الوحيد الذي يعلم بسرِّ والده.

يسلط السيناريو الضوءَ على وجوه مضيئة في كمال، فهو رغم إجرامه وفلسفته للخطيئة يخاف على مصالح أسرته، لا يشرب الخمر أبداً، ولا يخون زوجته البسيطة الشعبية، روقة (نورا).

لا يشرب الخمر، ولا يخون زوجته، ويحب عائلته... تعرفوا على 3 صور لمجرمين "منوّرين" على الشاشة

وبرغم ضغط أخواته المستمر عليه، وطلبهم لإرثهم "الشرعي" بشكل صريح، وشكهم في أمره عندما يؤجل الدفع لهم بسبب ورطته في صفقة أبيه التي لم تتم بعد، يعذرهم، ويحاول إتمام الصفقة بعيداً عنهم، خوفاً على مناصبهم وحياتهم.

"هنا، تضيء صورة كمال في أعيننا، وتتلاشى جريمته التي تقتل الملايين، ودون وعي قد نجد أنفسنا ضد الطرف الذي يجعله في مأزق، أي أننا أصبحنا ضد أخوته الثلاثة الذين يشغلون مراكز اجتماعية مرموقة؛ البنت ليلى (إلهام شاهين)، طالبة في كلية الهندسة ومعقود قرانها على ضابط شرطة شريف، وشكري (حسين فهمي) رئيس النيابة، وعادل (محمود عبد العزيز) الطبيب الذي يدير مستشفى للأمراض النفسية ويعالج ضحايا المخدرات"، تقول هناء.

عُرض الفيلم أول مرة عام 1982، أخرجه علي عبد الخالق، وكتبه محمود أبو زيد.

"الباطنية": انتقام "وردة"

"لا يمكن لأحد من المشاهدين أن يتخيل ما ستصبح عليه وردة، راقصة المقهى، وأن الشرّ سيسوقها بالتدريج حتى تصل إلى أعلى قامته، لترسل قاتلاً مدفوع الأجر لاغتيال شاب جامعي، انتقاماً من عائلته، ولا يمكن لأحد من المشاهدين أيضاً أن يتخيل نفسه من الداخل، وهو متحمس لانتقام وردة المنتظر، رداً على كل ما اقترفته عائلة الشاب بحقها، ونفسه، وهي تتمنى في كل مرة يشاهد الفيلم، لو أن وردة استطاعت رد القاتل عن الجريمة، ليس لأنه يرفض فعل القتل، بل لأنها ستكتشف أن القتيل هو ابنها، وستصاب بالجنون"، تقول هناء عن فيلم "الباطنية".

بعد انتشار حوادث القتل في الشارع المصري، خاصة نيرة التي ذبحت على مرأى من الناس أمام بوابة جامعتها، انتشرت دعاوى منع ومصادرة بعض الأفلام والمسلسلات، فهل نريد أن ننتزع عن أنفسنا الجانب الشرير لنظلَّ طيبين وأخياراً فقط؟

تدور الأحداث في حي الباطنية المشهور بتجارة المخدرات، حول وردة (نادية الجندي) الفقيرة والراقصة في قهوة (غرزة) تمتلكها، تقدم فيها المخدرات والخمور لشباب حي الباطنية، وتقع في غرام فتحي العقاد (فاروق الفيشاوي)، ابن العقاد، زعيم تجار مخدرات الباطنية (فريد شوقي)، وتحمل منه دون زواج، وعندما يعلم العقاد بأمرها، يرفض زواجها من ولده، ويسرق طفلها بمساعدة أعوانه بعد ولادته مباشرةً، ويبعده عن عين وردة حتى لا تشك في مقتله.

عرض الفيلم أول مرة عام 1980، أخرجه حسام الدين مصطفى، وكتبه مصطفى محرم.

"بريكينغ باد": مواد قابلة للانفجار

بعيداً عن السينما المصرية، تشدد هناء على أن المسلسل الأمريكي "بريكينغ باد" هو مثال شديد الوضوح على الكتابة الاحترافية والناجحة لتحولات الشخص العادي إلى مجرم محترف.

تتذكر هناء مشهد في مقدمة الحلقة الأولى تعتبره جوهر القصة، إذ يشرح بطل المسلسل، المعلم والتر وايت (براين كرانستون) لطلابه فلسفة الكيمياء، فيقول: "الكيمياء علم لدراسة التغيير الذي يحدث على المواد وليس المواد، أي أنها دراسة مادة طبيعية تتعرض لظروف غير طبيعية، تجعلها تتحول لمادة مختلفة تماماً، قابلة للاشتعال أو حتى الانفجار".

خمسة مواسم ترصد تحول معلم كيمياء في مدرسة ثانوية ملتزم نحو أسرته، مخلص لزوجته وراعٍ لولده ذي الإعاقة، مثالي في طباعه، وصاحب قيم حقيقية، لرجل يصنع "الميث" القاتل.

يصاب والتر في البداية بسرطان الرئة، فيدفعه هوس تأمين مستقبل أسرته للعمل في صناعة الميث (الكريستال/الشبو)، مع طالب في فصله يدعى جيسي بينكمان (آرون بول) يبيع العقاقير المخدرة، ليصبح خلال عامين أشهر وأفضل وأغنى صانع مخدرات، وقاتل لـ 274 إنساناً، من بينهم أطفال ونساء.

عرض الموسم الأول من المسلسل أول مرة عام 2008، كتبه وأخرجه فينس غيليغان.

تعلق هناء: "الكاتب أطلق على بطله اسمين في السيناريو، فحين يعمل في تدريس الكيمياء لطلاب الثانوية كمعلم شريف يحمل اسم (والتر وايت)، وهو اسمه الحقيقي، ويذكرنا باسم ناشط في مجال حقوق الإنسان في أمريكا".

كيف تقنعنا الدراما والسينما بالجانب الشرير والإجرامي من أنفسنا والناس وتدفعنا للتوحد معهم أحياناً؟

"وحين يصنع ويتاجر في "الميث" ويقتل البشر، يلقب نفسه باسم حركي (هايزنبرغ)، وهو اسم عالم فيزيائي ساهم في تطوير الطاقة النووية. كأن الكاتب ينتقل بشكل علني رشيق بين الخير ونقيضه داخل البطل، وينقلنا معه بنفس الوضوح والرشاقة، لأنه من البداية أقنع المشاهد بشكل جيد وكبير بكل الدوافع والأزمات، حتى يظل متعاطفاً مع بطله، حتى وإن أصبحت أزمات البطل مع الوقت ضعيفة، ودوافعه هشة جداً، مثلما حدث حين تخلى والتر وايت عن إنقاذ جين، حبيبة شريكه، وهي تحتضر إثر ابتلاعها جرعة مخدرات كبيرة، أفقدتها القدرة على تحريك جسدها لإخراج القيء، والتنفس بشكل طبيعي".

تركها والتر تختنق، من أجل أن يظل محتفظاً بوجود جيسي دون حبيبة تحاول إبعاده عنه. تضيف هناء: "يعتبر هذا المشهد في غاية الصعوبة على أي متلقٍ، بالأخص أن دوافع والتر بالفعل كانت أقل من أن تجعله يتركها تموت، فهي لا تهدد أمانه الحقيقي بشيء، ولا تنوي أذيته أبداً، أي أنها خارج إطار أعدائه والخطر، ومع ذلك تقبل الجمهور قرار بطله".

"خلال هذه التوليفات المذكورة في أمثلتنا استطاع الكاتب أن يشعر المشاهدين بمدى صعوبة مهمة الأبطال، وبخطورة وضعهم الراهن، فتوجهت جميع الأفكار نحو فكرة الاضطرار للجريمة، وأصبح الجميع يشاركهم المعضلة الأخلاقية، خاصة بعدما خلق التردد والتأرجح الذي مرّ به جميع أبطالنا حالة منطقية واقعية، فلا أحد في يوم وليلة يتحول".

تشعر هناء أحياناً أن كُتّاب الأعمال المرتبطة بالجريمة في رهان مستمر مع أنفسهم، لوضعنا أمام أنفسنا صاحبة المبادئ المزعومة، فنحن نتفق بشكل ضمني وعن قناعة بأن الحل الوحيد هو الاستمرار في الجريمة، بالأخص كلما ازدادت عُقَد القصة صرامة، وأُغلِقَت كل منافذ النجاة أمام أبطالنا.

وتتساءل هناء، في نهاية حديثها معنا: "كيف نؤمن باستحالة تحولنا تحت أي ظرف؟ فالنسر والكتابة هما وجهان لعملة واحدة، واللعبة وحدها هي القادرة على تغير الوجه، لذلك يجب تفكيرنا في الأمر بشكل دائم وبأبعاد أعمق". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image