كأي فلسطيني، تلقّيت خبر استشهاد شيرين أبو عاقلة بدهشة ممزوجة بغضب وحنين مضاعفين، فالموت هنا، لم يكن يوماً مجرد موت، بل كان على الدوام العقار الذي ينعش الذاكرة. والأشخاص لم يكونوا مجرد أشخاص، بل قضية تتجاوز في عمقها كيان الشخص، لتعبر عن ألم ومعاناة ودماء وأرض وحقوق. وكلما داهم عقار الموت العقول ازدادت الذاكرة رسوخاً، وكلما كانت حياة الشخص ممزوجة بقضيته اليومية، عبّر من خلال هذا الموت عن محطة فارقة وعلامة لا تنسى.
تابعت باهتمام الأثر الذي خلّفته شيرين بعد الساعات الأولى من استشهادها، انتشار الخبر في الإذاعات المحلية والدولية ووسائل التواصل الاجتماعي، الغضب والتنديد، ثم الجنازة المهيبة التي رافقتها إلى مثواها الأخير. ورأيت كيف ألهم استشهادها عقول المفكرين ووجدان الفنانين، فانطلقت الألسنة والأقلام والأيدي، كلٌّ يعبر عن غضبه وحنينه، كلٌّ يحاول أن يجد لها مكاناً أكبر في الذاكرة، ولم تمرّ أيام قليلة حتى خفتت الأصوات وكفت الأيدي ورفعت الأقلام، ولم يبق في ذاكرتي شيء من هذا كله سوى بعض الورود والقصاصات الورقية وكوفية معلقة على جذع شجرة بجانب حائط خرساني. وتساءلت كثيراً بيني وبين نفسي، أكان هذا المكان يعني شيئاً لو أنه لم يحتضن شيرين ساعة استشهادها؟ وأيقنت أن الفلسطينيين قد بدأوا بابتكار طريقة جديدة في حجز مكان أكبر في الذاكرة.
تساءلت كثيراً بيني وبين نفسي، أكان هذا المكان يعني شيئاً لو أنه لم يحتضن شيرين ساعة موتها؟ وأيقنت أن الفلسطينيين قد بدأوا بابتكار طريقة جديدة في حجز مكان أكبر في الذاكرة.
ليس مجرد وداع
تعودت فلسطين الفقد، حتى بات يشكل جزءاً من الحياة اليومية لسكانها، وعلى الرغم من رغبة الفلسطينيين في الحياة مثل أيّ بشر آخرين، إلا أنهم يتجازون الفقد حينما يتطلب الأمر ذلك، كمواساة لأم شهيد مكلومة مثلاً، فلا يكاد بيت شهيد يخلو من عبارة "يا أم الشهيد نيالك… يا ريت إمي بدالك". إنهم يهنئونها ليهونوا عليها فقد ابنها، يتمنون لو أن الموت طالهم في تلك اللحظة لتكسب أمهاتهم هذا الشرف الذي نالته تلك الأم. واللافت أن واجب المواساة هذا لا يقتصر على الدائرة الاجتماعية الضيقة للشهيد ووالدته كالأقرباء والجيران، وإنما يمتد الأمر ليشمل كل من سمع بخبر الاستشهاد ليشكلوا بذلك رابطة اجتماعية ممتدة تقوم على الفقد والموت.
ولم تقتصر وسائل الفلسطينيين في مواساة أسر الشهداء على ذلك، فلطالما صدحت النساء بالزغاريد في حفلات الوداع الأخيرة، في ظاهرة انتشرت تزامناً مع الانتفاضة الأولى في العام 1987، كأن النساء بذلك يرسلن بطاقات حب وعرفان لأهل الشهيد في مشهد لا يمكن وصفه إلا بأنه "تراجيدي"، ففيه من الحب والمواساة والضعف والقوة ما يهزم جيشاً بأكمله. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد ليشمل مشاركة الآلاف في كل مسيرة تشييع جديدة، بدءاً من جنازة الشهيد عبد القادر الحسيني في أبريل/نيسان 1948، وصولاً لجنازة شيرين أبو عاقلة في 11 مايو/أيار 2022.
يمتد الأمر ليشمل كل من سمع بخبر الاستشهاد ليشكلوا بذلك رابطة اجتماعية ممتدة تقوم على الفقد والموت
هذا بالإضافة إلى الزيارات التي لا تنقطع لأمهات الشهداء بعد الجنازة، ثم زيارة أضرحة الشهداء، وإلقاء الورود والرسائل عليها، كأنهم بكل ذلك، يرفعون أيديهم ملوحين بالوداع. ليس مجرد وداع، ولكنه وداع يحمل رسائل شتى للاحتلال، أهمّها أنهم حتى بهذا الفقد منتصرون. كما يقول إبراهيم نصر الله في روايته "أعراس آمنة": "الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحس لحظة أنه هزمنا".
ولم يخلُ استشهاد شيرين أبو عاقلة من رسائل مماثلة، بل كان له وقع أعظم وأطول أمداً من سابقيه، فهنا لم يعد الأمر يتعلق بمواساة لحظية، ولا بتخليد ذكرى سنوية، ولا بزيارة ضريح منسي محجوب عن الأعين، فقد أصبحت شيرين حاضرة باستشهادها أمام الجموع يوماً بيوم وساعة بساعة، ويظهر هذا جلياً في "الحديقة الصغيرة" التي صنعها الفلسطينيون حول المكان الذي استشهدت فيه.
حديقة صغيرة في كل مكان
يقول محمود درويش في كتاب يوميّات الحزن العادي "ليس المكان مساحة فحسب، إنه حالة نفسية أيضاً".
يأخذ مكان ارتقاء الشهداء شكلاً آخر عند ربطه بالحنين إلى الوطن، فالعجوز الذي يزرع شتلة في ذكرى يوم الأرض أو في ذكرى النكبة، يعيد بفعلته إحياء ذكرى الأرض التي تركها ليزرعها غيره، إنه بفعلته هذه ينتقل بالزمن إلى البلاد التي هجر منها قبل سنوات، ليجد نفسه في مكان آخر لا يستطيع فيه إلا التعامل مع العودة نفسياً ليحيي البلاد في نفسه. يتجلى الأمر ذاته في الاهتمام بالمكان الذي سقط فيه الشهداء، حيث يقوم الفلسطينيون بطريقتهم الخاصة بإعادة إحياء هذا الحنين، الذي لطالما كان هو المحرك الأوّل فيها، من خلال توجيه رسائل للاحتلال بأنه فشل من انتزاع الشخص من المكان الذي استشهد فيه، وأنه باق من خلال نبتة أو صورة أو لوحة تقول على الدوام أنه ما زال هنا.
"نحن على دين فلسطين. الجنة عندنا للشجعان. لا مكان بها للجبناء، لروحك الرحمة والسلام، المقاتلة شيرين أبو عاقلة".
هذه إحدى الرسائل التي كتبت على ورقة ووضعت فوق "الحديقة الصغيرة" التي أنشأها الفلسطينيون لشيرين، فقد سيج مكان استشهادها بالحجارة التي فيها من عتاقة القدس ما فيها، والتي تعتبر رمزاً للأطفال الذين لطالما نقلت شيرين مواجهاتهم الصغيرة والمستمرة مع الجنود المدججين بالسلاح، كما علقت كوفية على الشجرة التي سقطت بجانبها، وانتشرت الورود والرسائل الورقية في المكان كتعبير كبير عن الامتنان، بعدما قضت شيرين أكثر من 25 عاماً في نقل الحقيقة إلى شاشات التلفاز.
انتشرت الورود والرسائل الورقية في المكان كتعبير كبير عن الامتنان، بعدما قضت شيرين أكثر من 25 عاماً في نقل الحقيقة إلى شاشات التلفاز
وبالحديث عن مكان استشهاد شيرين بناءً على ما سبق، نصل إلى أن تخليد الفلسطينيين لها بدءاً من سيرهم بالآلاف في جنازتها التي جابت شوارع القدس ورام الله، مروراً بصورها التي علّقت في كل مكان، وصولاً إلى إلقاء الورود والرسائل في المكان الذي استشهدت فيه، يحمل دلالات تجمع بين كل ما قمنا بالحديث عنه وتفصيله.
لم يكن استشهاد شيرين بعداً إنسانياً فقط يتضامن فيه الآخرون ضد إراقة الدماء، ولم يقتصر على البعد الوطني المتمثل في الاعتناء بمكان الاستشهاد وتحويله إلى حدائق صغيرة من الورود والكلمات، بل امتد إلى ما هو أبعد من ذلك، لا سيما مع عمل شيرين كصحافية تجهد لنقل الحقيقة، مما أعطى الأمر أصداء عالمية وتساؤلات كثيرة حول حرية الصحافيين الفلسطينيين واستهدافهم.
التغيير يبدأ من الحدائق
"إن الأشياء الصغيرة حينما تحدث في وقتها يكون لها معنى أكبر منها، أقصد أن هنالك بداية صغيرة لكل حادث كبير" قال غسان كنفاني.
دائما ما كان الاهتمام بمكان الحادث دالاً على عظم الحدث ومدى تأثيره، ولطالما تلا الحدث العظيم تغيير عظيم. لقد أصبح الاهتمام بمكان الضحية طقساً يستخدم في مختلف الدولة العربية، وأصبحت هذه الوسيلة بمثابة صرخة للجموع أمام الظواهر التي يرفضها المجتمع وينفر منها، وتكون بداية إلى تحريم قانوني ومجتمعي لظاهرة بعينها، ومع أن الأمر في فلسطين أكبر بكثير من كونه ظاهرة اجتماعية يرجى تصحيحها، فإن تكرار هذه الأحداث العظام في أماكن وقوعها ينذر بغضب عارم ويشكل إنذاراً تاريخياً بأن تغييراً ما على وشك الوقوع. فكلما زاد عدد المشيعين للجنازات تزداد الجنازات، وكلما ارتفع صوت الهتاف المنطلق من الحناجر وصل الصوت إلى مدى أبعد، وكلما ازداد الحنين إلى فكرة الوطن، ازداد عدد الراغبين بالعودة إليه على طريقتهم الخاصة. لنجد في النهاية أن تخليد الأماكن التي تقع فيها الأحداث الهامة، كان يشكل دائماً مؤشراً على تحول تاريخي على الصعيدين، السياسي والاجتماعي.
إن تخليد الفلسطينيين لأماكن سقوط الشهداء هو بمثابة الاعتناء بأرواحهم التي تصعد إلى السماء، فتتحول إلى نجوم ومطر، وهنا أستذكر قول محمود درويش في كتابه "في حضرة الغياب ": "رأيت الشهداء واقفين، كل على نجمته، سعداء بما قدموا للموتى الأحياء من أمل".
نعم، إنه الأمل. الأمل بأن يحدث شيء ما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع